Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

"حيونة الإنسان" لممدوح عدوان: طعنات الحقيقة المؤلمة

لا يترك لنا ممدوح عدوان حتى ورقة التوت لنخفي عري اعماقنا المخزي، ورغم قسوة العنوان الذي جعلني اتمنى لو يكون الكاتب مبالغا، لكن تتابع الفصول المكتوبة بموضوعية ودقة، والمعتمدة على حقائق تاريخية موثقة. كل هذا يضعنا امام حقيقة لا مجال للهرب منها هي حيونة الإنسان.

يقول إريك فروم: إن الانسان يكره الرتابة، ويبحث عن الدراما والإثارة في الحياة، وحين لا يحقق الاكتفاء بهما في مستويات سامية (كالفن مثلا) فإنه يخلقهما لنفسه من خلال دراما التدمير. وبهذه الدراما يحقق الإثارة لنفسه وللآخرين الذين يستمتعون بمراقبتها والمشاركة فيها.

وأكبر دليل على ذلك شيوع موجة الكتابات والافلام العنيفة، وهي ما تسمى تجاوزا <<ثقافة الغرائز الحيوانية>>، ففي فصل (هل نحن جلادون) يقدم لنا الكاتب حقائق مخزية عن تجارة عابرة للقارات، تجارة تقوم على تسويق افلام تعتمد اساسا على التعذيب. افلام لا يمكن لأية سلطة مهما كانت بدائية ان تسمح بعرضها، ولا يمكن لها ان تتحمل مسؤولية الاعتراف ان الناس لديها يستمتعون بهذه الوحشية. لكن كون هذه التجارة تجني الارباح بالمليارات، يعني ان من يستهلكونها يستمتعون بها!!.

تعذيب

تقوم تجارة افلام التعذيب على سرقة الاطفال من مختلف الاعمار، من الرضع حتى الراشدين، من اميركا اللاتينية تحديداً، حيث الجوع والفقر والمرض يحاصر السكان، وغالبا ما يتخلى الأهل عن اولادهم ويبيعونهم. ويقاد هؤلاء الاطفال الى استوديوهات التصوير، ليمارس معهم وعليهم كل انواع الشذوذ والعنف والتعذيب، دون اي خدع سينمائية، فتعليق الفتيات من اثدائهن وجلدهن بالسياط، وتقطيعهن بالبلطات، وممارسة الجنس مع اطفال تحت عمر السنتين! وغيرها من الفواحش المرعبة في لا اخلاقيتها... هذه الحوادث المروعة تجد الملايين يتسمرون امام الشاشة ليتفرجوا على الحيوانية المجرمة ولو تحت قناع الفضول كما يدعون؟!!.

وفي الكتاب القيّم (التعذيب عبر العصور) يبيّن المؤلف ان مشاهد سفك الدماء والتعذيب الوحشي والحرق، كانت تسبب هياجا جنسيا لدى المتفرجين، لدرجة انهم صاروا يتضاجعون على الارصفة وهم يتابعون مشاهد تعذيب رجل بصورة وحشية!

ويقول الكاتب: ان الذين لا يستطيعون لسبب او لآخر ان يخلقوا الجحيم الذي يتوقون إليه، فإنهم يشبعون رغباتهم في العالم الخيالي للكتب والافلام والتلفزيون.

وتعتمد التدريبات العسكرية اصلا على اطلاق صرخات تجعلنا اشبه بالوحوش، فالتدريب العسكري تعليم على القتل الذي لا يتمنى الانسان نظريا ان يقوم به. ولا بد من استنفار الوحش القابع في الاعماق ليقوم الإنسان بالقتل.

لكن الى أي حد ينجح الانسان في استنهاض إنسانيته وقمع الوحش داخله؟... وهل هذا ممكن في ظل علاقة اساسها الضحية والجلاد؟...

يعتمد الكاتب في فصل (ولادة الوحش) على تجارب كثيرة موثقة، خاصة تجارب سجلها أدباء ومفكرون. وفي أدب السجون حالات يدمى لها القلب ويرتعش الوجدان من الوحشية التي يعامل بها الجلاد ضحيته. فالمطلوب هو الإذلال حتى الدرجة القصوى وإيصال السجين الى حالة مزرية خالية من الكبرياء والقيمة والاحترام. مثل قصة ليوسف ادريس، حيث يطلب السجان من السجين ان يضاجع نملة، فيرد السجين بسخرية أليمة، بأن النملة التي امامه ذكر، فيأمره الجلاد ان يحضر نملة انثى ويضاجعها، فيحضر السجين نملة، ويمسخ نفسه وأحاسيسه الى حشرة فتهيجه نملة!...

السؤال الدقيق الذي يطرحه الكاتب: الى أي مدى يمكن ان يتمادى إنسان في إيقاع الأذى بإنسان آخر لا يمت له بصلة؟!... أشارت الاحصاءات ان 65% من الناس تطيع أوامر السلطة التي تخافها او تنتفع منها او تحترمها. فالأساس هو الطاعة للسلطة. والطاعة تبدأ من التربية المنزلية والمدرسية ثم الأمنية والسياسية، وتؤدي الطاعة الى إلغاء الذات والارادة، وانتظار كل شيء من الآخر، والطاعة هي التي تساعد على ترويض الحيوانات منذ القدم.

وقد تحوّلت الطاعة من سلوك عفوي وتجريبي الى علم مستقل بذاته ولكنها ساعدت من جهة اخرى على تقدم الحضارة البشرية، في الوقت الذي سببت تدميرها احيانا.

اذا تهدف عملية ترويض الإنسان على طاعة أوامر السلطة، الى إحداث تغير في البنية الداخلية لنظام المخلوق، بحيث يصبح مطيعا لأمور خارجة عن ذاته. وبعملية الترويض يتم إدخال تشويش على نظام رغبات المخلوق، وهذا التحول الداخلي لا يحدث تلقائيا بل يحدث بفعل قوة قامعة، تحديداً التخويف والتجويع.

السلطة والحاشية

إن الجرائم التي ارتكبت باسم طاعة الاوامر اكثر من الجرائم التي ارتكبت باسم التمرد، ان الطاغية الغبي قد يضطهد العبيد ويقهرهم مستخدما سلاسل حديدية، لكن السياسي الماهر يستطيع ان يقيدهم بسلاسل اقوى من سلاسل الحديد عن طريق افكارهم، وتكمن الخطورة في تعميم ايديولوجية خاصة على الناس، فيرى كل مواطن ان من حقه أو واجبه حماية النظام او السلطة او الدين من أعداء الداخل قبل الخارج، بناء على قوانين مثل الحسبة او حماية الثورة او كل مواطن خفير، وتصبح تهمة الإلحاد والخيانة والعمالة جاهزة للالتصاق بكل إنسان، ويصبح الانسان مهدداً في كل مكان وكل لحظة. إذا السلطة المستبدة تمسخ البشر وتحوّل كل إنسان الى ديكتاتور يتحين الفرص ليذل غيره، مثلما هو مذلول. وهناك مقولة شهيرة لكرومويل: تسعة مواطنين من اصل عشرة يكرهونني، لكن ما اهمية ذلك إن كان العاشر وحده مسلحاً!!...

ويقول سارتر في وصف الشخص السلطوي: هذا الشخص الذي أطاش صوابه ما يتمتع به من سلطة كاملة ومن خوف عليها، لا يتذكر جيدا انه كان إنساناً، إنما يحسب نفسه سوطاً او بندقية.

ثقافة السلطة بوق، والمثير للاهتمام ان هؤلاء الابواق الاعلامية يعرفون انعدام تأثير كلامهم، ويعرفون انهم يقولون كلاما مجتزأ محفوظا بلا معنى ولا مشاعر، ويعرفون انهم ينافقون، وبأن الجمهور لا يصدق كلمة مما يقولون، فالخطيب او البوق الاعلامي هو من لا رأي له ولا عاطفة، وهو معنيّ بقول ما يرضي المناسبة والقيمين عليها، فهو لا يذهب لكي يقول رأياً، بل ليقول (ما يجب ان يقال).

والاعلام في الدولة السلطوية يستدعي وقفة تأملية، فالقائمون عليه يعرفون انهم يكتبون كلاما لا يقرأ، والمسؤولون عنهم يعرفون ذلك ايضا.

والكتّاب المرغمون بحكم وظائفهم او استرزاقهم يعرفون ذلك ايضا. ومع ذلك هناك إصرار على اعلام من هذا النوع. وماذا يهم اذا قرأت الصحيفة ام لم تقرأ؟... المهم ان يرى المسؤولون صورهم منشورة ومقالات المديح تنهال عليهم. عندها يرتاحون، ويرتاح رئيس التحرير معهم، وهكذا يرتاح الجميع.

فمن يفكر بالقارئ او المواطن؟... إن اعلام السلطة المستبدة يعتمد على مبدأ، انك اذا كذبت كثيرا، وتابعت الكذب، فلا بد ان يصدقك الناس.

أما الإبداع الحقيقي فيقفل، وكذلك الفكر الحر؟!... اين المفكرون في الدول القمعية السلطوية؟!... وكل فكر حر يتهم بالخيانة والضرر بالمصالح الوطنية والقومية؟!...

(حيونة الإنسان) كتاب تنغرس كلماته في الوجدان كطعنات الحقيقة المؤلمة، ولكن التي لم يعد من مجال لتجاهلها، كتاب يرينا بصدق ونزاهة مدى الإذلال الذي وصلنا إليه، لدرجة لم نعد نتساءل كيف يمكننا الخلاص؟...

ترى ألا تستحق الحياة ان تعاش بكرامة وأخلاق وإنسانية؟!...

ألا يفترض ان ننتفض لنقاوم القوى التي تصر على حيونة الإنسان فينا.

يقال ان الطغاة يحبون اكثر ما يحبون الغنم والكلاب، الغنم لأنه يطيع، والكلاب لانها تتفانى في ولائها لصاحبها مهما أذلها؟!...

ترى ألا نستحق ان نتمرد على المصير المراد لنا إما غنما او كلابا!...

متى سنستنهض إنسانيتنا ونحارب حيونة الإنسان؟!!...

*- <<حيونة الإنسان>>، صادر عن دار قدمس في دمشق.

 

عن صحيفة السفير

ملاحظة :الموقع نشر مقالتين حول هذا الكتاب لاهمية افكاره لوطننا  في الوقت الحاضر

Opinions