خطأ تاريخي يؤدي إلى ظهور قومية !!!
من أكثر من سنة من الزمن والموضوع يجول في خاطري ولم أكن أرغب في الكتابة عنه لعلمي بأنني سأتـهم بالميل إلى القوميـّة الآشورية دون "قومية" (؟) أخرى، ولكن بعد عدّة مراجعات وجدت نفسي فعلا ميالا ومندفعا إلى قوميـّـتي الآشورية وحمايتها من الحملات الغريبة التي تأتينا يوميا من جميع الجهات، وحتى – بكل أسف - من بعض أبناء أمتنا الآشورية وأقصد هنا بعض أخواننا من الكنيسة الكلدانية الذين لم يتوقفوا عن استغلال أية مناسبة ليهاجموا هويتهم الآشورية.هنا أود وضع النقاط على الحروف من أجل توضيح الإلتباسات التاريخية التي ذهب ضحيـّـتها كثيرون، وعندما يوغل البعض في المغالطات التاريخية يوسّـعون الهوّة الطائفية التي يعود عمرها إلى قرون بين الآشوريين، تلك الهوّة التي وصلت في بعض الأحيان إلى القطيعة وحتى التنكيل أو الإتهام بسرقة أجزاء من التاريخ ولصقها بالغريب، ولا أرغب هنا في تحديد من يغذي هذا الإنشقاق في الأمة الآشورية المبتلية بعناصر خارجية تجد في بعض المجموعات الصغيرة أرضاً خصبة لتغذيتها وتوسيع تلك الهوّة وإضعاف الأمة الآشورية لكي لا تقف على رجليها مجدداً.
في البداية أودّ البدء ببعض الحقائق التاريخية المهمّة التي لا تقبل الشك، وسوف لن أقتبس من منتصف التاريخ كما يحلو للبعض، بل من البداية، أي بداية الحدث وليس نتيجته.
أولاً : من المعروف للجميع بأن من سميوا "الكلديين" (وليس "الكلدانيين")، هم العلماء وخاصة الفلكيين منهم في العصر البابلي الحديث (612-539 ق.م) وقد تمّ تحريف المصطلح عبر التاريخ من "كلدي" إلى "كلداني" من أجل شقّ وقطع أواصر الأمة الآشورية.
ثانياً : إن الأخوة الذين يدّعون بـالقومية "الكلدانية" الآن هم مسيحيين من أتباع المذهب الكاثوليكي فقط، وهم أبناء المدن والضواحي والقرى حول نينوى وأربيل ونوهدرا (المعروفة بـ"دهوك")
ثالثاً : من المعروف متى بدأ دخول الكثلكة إلى العراق، وذلك حين انشقّ المطران مار يوخنـّـا سولاقا عام 1551 م عن كنيسة المشرق التي تأسست في القرن الأوّل الميلادي عندما دخل أوّل الأقوام إلى المسيحية خارج أرض فلسطين، وهم الآشوريون وبالذات في مدينة أربيل الآشورية.
وتوضيحا أكثر للنقطة الثالثة أعلاه، نعرف بأن المطران سولاقا كان قد دُعيَ إلى أوروبا التي كانت تنتظر هذه الفرصة الثمينة، حيث جرى ترسيمه تحت لقب "بطريرك كنيسة الآشوريين الكاثوليك على بلاد بابل" حسب ما يذكره كبار رجال الدين الكاثوليك بالعودة إلى وثائق الفاتيكان، وهنا يرجى التمعّن في العبارة المذكورة، أولا رُسم بطريركا لكنيسة الآشوريين الكاثوليك، ولم يذكر أحد "كنيسة الكلدان"، وثانيا نرجو التمعّـن مجددا في عبارة "بلاد بابل"، هنا أود التأكيد على أنه في تلك الفترة لم يكن إسم "العراق" معروفاً لدى الأوروبيين، بل نقلا عن المصادر اليونانية كانت هذه البلاد تسمّى بابل أو ميزوبوتاميا.
بعد أن تأسست الكنيسة الكاثوليكية وانتشرت في العراق من جيل إلى جيل ومن بطريرك إلى آخر سقطت كلمة "بلاد" وأصبح اللقب "بطريرك بابل"، ولم يكن لأحد أن يعرف شيئا عن تاريخ دولة بابل الحديثة آنذاك، أي تاريخ حكم نبوخذنصـّر، باستثناء ما وَرَدَ في التوراة من إشارات ناقصة لا تفيد في تحقيق المعلومات التاريخية، وإنما التاريخ الحقيقي لدولة بابل والإهتمام به جاء بعد الإكتشافات الآثارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتحديداً بعد اكتشافات البعثة الألمانية برآسة فالتر كولدوفيه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأ الميل من قبل بعض رجال الدين الكاثوليك نحو مدينة بابل وبالتالي نبوخذنصّر والدولة البابلية الحديثة، من أجل التفرّد والإنفصال عن الأصل الآشوري للأمة، وبالطبع، إن كل الدلائل تشير إلى تغذية هذا الإنفصال من جانب الكنائس الأوروبية.
ويرد هنا سؤال هام يجب أن يُـطرَح من قبل المؤرّخ المتمعّن في الحقائق التاريخية وهو: كيف يمكن أن يكون مؤسس المذهب الكاثوليكي في بلاد بابل آشوري القومية ويكون كل أتباعه الذين ينتمون إلى كنيسته في بداية تأسيسها أيضاً آشوريون، ثم يتحوّلون بقدرة قادر إلى بابليين من أحفاد نبوخذنصّر الثاني ؟ أليس هذا غريباً ؟
هنا أيضا يكمن الخطأ التاريخي الذي أشرنا إليه، فمن بلاد بابل، المقصود بها العراق القديم، أصبحت مدينة بابل عاصمة لدولة نبوخذنصّر الثاني، وأصبح الآشوريون الكاثوليك من أحفادها (كما يدّعون)، أي دولة نبوخذنصّر الكلدية (التي تسمّى خطأ "كلدانية")، وبدأت الإرساليات والكنيسة الأوروبية بتغذية هذا الإنقسام في الأمة الآشورية إلى أن ظهر من يدّعي بقومية جديدة لم تعرَف في التاريخ القديم (كقومية) لمنطقة الشرق الأوسط على الإطلاق. وأصبحت هناك دراسات وأطروحات حول هذا الموضوع، وهنا أيضا أرجو ملاحظة الأصل التاريخي الحقيقي للموضوع، وليس ما آلت إليه الأمور فيما بعد.
وعليه، وللحقيقة التأريخية الناصعة وبدون تزوير، أودّ أن أوضح بأنه ليست هناك قومية تدعى "الكلدانية"، بل مذهب كاثوليكي لمجموعة من أبناء القومية الآشورية الأصيلة لا أكثر...
أعرف جيدا بأنّ هذا الكلام سوف يـُغضب البعض من أخواننا وأعزائنا الآشوريين الكاثوليك، كما أعلم جيدا بأنه ليس من السهل أبدا إبلاغ مجموعة متماسكة وقوية مذهبياً بأن كل ما تبنى عليه نظريتهم "القومية" ليس له أساس من الصحّة في التاريخ الحقيقي لمنطقة الشرق الأوسط. ولكن من أجل الحدّ من تفرقة الأمة الآشورية التي ابتلت بالإنقسامات والإمعان في خلق المصاعب والمصائب في تاريخها الطويل، أضع هذه الحقيقة من أجل فتح باب المحبة والإحترام المتبادل من أبناء الشعب الآشوري الواحد، فنحن فعلا قومية واحدة لنا لغتنا المشتركة الواحدة باختلاف لهجاتها، ولنا أرض أصيلة واحدة وهي المثلــّث الآشوري بين نهري الزاب ودجلة، وليس بلاد بابل بوسط العراق الحديث، وإلا لماذا لا توجد قرية "كلدانية" واحدة قرب مدينة الحلــّة الحالية ؟؟ بل على العكس، فإن كل القرى والمدن التي سكنها ولا يزال يسكنها الآشوريون الكاثوليك موجودة في المثلث الآشوري وفي مناطق آشور التاريخية المعروفة مثل نينوى وآشور وكالح (نمرود) ودور شروكين (خورساباد) وأربيل الآشورية ونوهدرا (المعروفة بـ"دهوك").
كذلك لدينا تقاليد مشتركة كثيرة، وأسماء متشابهة، ولدينا تاريخ مشترك وهو تاريخ الأمة الآشورية، مما يعني بأننا وبدون شك، نتشارك في كافة العوامل القومية التي تميزنا معاً عن محيطنا وثقافته، وهنا أتذكـّـر جملة عظيمة لها مدلولات عميقة قالها لي أستاذ الحضارات القديمة في جامعة بغداد، البروفسور فاضل عبد الواحد علي وهي كالتالي: "لو لم يتحالف هذا المدعو نبوخذنصّر مع الأجنبي لإسقاط الدولة الآشورية عام 612 ق.م، لما كان وضع العراق الحالي كما هو الآن".
أخواني وأعزائي، أنا أدعوكم من خلال هذه الصفحات إلى المحبة والأخاء والعمل المشترك من أجل وحدة وخير هذه الأمة العريقة، التي تكاد أن تكون من أقدم الأمم على الأرض، فبالرغم من القتل والتجويع والترهيب والترحيل القسري لا تزال حيـّـة، وهي مثل نبع الماء النقي، مهما حاول البعض سدّه نجده ينبع من مكان آخر. ولا ضير أبدا من التعدد الكنائسي، فكنائسنا هي صخور إيماننا المسيحي الذي نعتزّ به وورود جميلة في الباقة الآشورية العريقة الوريثة لحضارة العراقيين القديمة من السومريين والأكديين والبابليين، فأي إنسان يستطيع تغيير مذهبه حسب اعتقاده وقناعته الشخصية ولكن ليس من الممكن أبداً تغيير القومية، كونها كينونة الإنسان التي تجري في دمه مع كروموسوماته ويورثها إلى ذريـّـته، وطبقا للعلم الحديث لا أحد يستطيع أن يغيـّر حمضه النووي (DNA)
أخواني الآشوريين من كل المذاهب، يكفي ما أصابنا لحدّ الآن، ولست بحاجة لأذكركم بما يحدث لأمتنا على أرضنا المغتصبة من قتل وذبح وتهجير، وارتكاب أبشع الجرائم بحق هذه الأمة، ألا تعون مَن وراء هذه الفرقة وهذا التمزيق وهذه الأقلام المأجورة ؟؟ إذاً علينا اليوم جميعا التكاتف لأن الأخطار المحدقة بنا تمزقنا، ومع الأسف الشديد في بعض الحالات تنبع هذه الأخطار من داخل بيتنا الآشوري.
أدعوكم من أجل هذه الأمة العظيمة التي على أيديها وضعت اللبنات الأولى لمقوّمات الحضارة الإنسانية على وجه الأرض، والتي نفتخر بها أمام العالم، ألا تكونوا سببا في تمزيقها وزوالها.
******
معلومات شخصية عن الكاتب:
* حائز على شهادة الدكتوراه في علم الآثار
* المدير العام السابق لمتاحف العراق ورئيس هيئة الآثار العراقية
* أستاذ زائر في جامعة "ستوني بروك" - نيويورك
بريد إلكتروني : donny_george50@yahoo.com
20/أيــّــار/2009