دمى ..ودمى
حين ابتكر طبيب العيون العراقي محمد ابن دانيال الموصلي في غربته بمصر فن خيال الظل ، لم يكن يدر في خلده يوما ان ابتكاره هذا سوف يطبق حرفيا في مسقط راسه مدينة الموصل على ارض الواقع وليس على خشبة المسرح ، فحين غادرها وهو صبي الى ارض وادي النيل خشية من ان يكون حطبا لنار الاعداء الذين استباحوا ارض العراق وحاصروا مدينة الموصل قبل اكثر من ستة قرون ، كان حلمه الكبير دوما ان ياتي يوم ويعود فيه الى دياره في مدينته الغالية – الموصل – كي يراها وهي عامرة خالية من الغزاة الذين ارادوا تدميرها وتحطيم حضارتها العريقة ، وها هو ابن دانيال يعود الى مهد صباه بعد تلك القرون القاسية من الفراق والالم ، ولكن عودته هذه المرة ليست بجسده الفاني بل بفنه وابتكاره التمثيلي الانيق ، فشخصيات ابن دانيال وقصصه التي عرضها للنظارة في مصر ، ها هي تعود الى الوجود مرة اخرى على مسرح مدينة الموصل وشوارعها المزدحمة ، اما الجمهور فيها فهو من الساسة واصحاب الجاه والنفوذ في مدينته التاريخية ، وفي حين كان ابن دانيال يصنع شخصياته من قطع جلود الحيوانات ويقوم بتحريكها اشخاص يسمون المخايلون ( وهم اشخاص يقومون يتحريك الدمى بايديهم امام شاشة بيضاء مضاءة من الخلف ليظهر خيال الدمى من الجهة الثانية للشاشة والمقابلة للجمهور ) ، اما الان فان شخصيات ابن دانيال العصرية قد اصبحت واقعية وحقيقية وليست مصنوعة من جلود حيوانات نافقة بل هي بجلود ودماء ادمية ، اما المخايلون فيها فهم افراد على دراية تامة في علم التمثيل السياسي وليس التمثيل بمفهومه الفني التقليدي المعروف كعلم من علوم الفنون الجميلة ، والشخصيات كما اسلفنا اعلاه هي شخصيات حقيقية وليست مصنوعة من جلد او ورق بل شخصيات ادمية او لنقل دمى بشرية يلاعبها المخايلون حسب مزاجهم وبخطة إخراجية محكمة ومتقنة جدا وسيناريو محبوك بصورة تقنية وفنية مذهلة ، فتارة تميل تلك الدمى مع رياح هذا السياسي او ذاك المتنفذ واخرى مع هذا النمام او ذاك، كما ان شخصيات ابن دانيال القرن الحادي والعشرين ليست ابطال قصص الف ليلة وليلة او كليلة ودمنة او عنترة العبسي او . الخ كما هي عند ابن دانيال القرون الماضية ، بل تعدى الامر ذلك، فالقاضي هنا ربما يكون هو الجلاد ايضا .. اما الضحية فهي الضحية دائما وفي كل زمان ومكان وسواء كان ذلك في التمثيل ام في الواقع ، وكل ذلك بسبب كون الضحية لا حول لها ولا قوة ولأنه لا يوجد هناك من يطالب بحقها بصورة جدية الا القليل ممن يناصرون قضيتها الاخلاقية والانسانية ، اذ يقوم المخايل بعرضها وتحريكها علنا وامام الجمهور الكريم وحسب مزاجه الشخصي ودون خوف او خجل او تأنيب ضمير على اقل التقديرات ، اما الجمهور فتارة يبكي مع الحدث ولكنه لا يتدخل لنجدة الضحية ابدا معللا خدره وتواطئه مع المخايل بانه لا يعلم كيف تُحرك الدمى ولا يعرف من هو المخايل ابدا..؟؟!! وتارة اخرى يضحك الجمهور على الحدث وهنا يعلل صاحبنا المتفرج قهقهاته المريبة بالقول ان الضحية تستحق ما يجري لها لأنها ليست اساسا محسوبة على البشر ، وفي المرة الثالثة يبقى المتفرج مسمرا في مكانه لا يهمه ما يجري من احداث على ارض الواقع وبحجة انه لا علم له بما يحدث ، علما بان اكثر المخايلون هم من الجمهور المتفرج الكريم ، ولكن الاغرب والاعجب من هذا كله ان كاتب السيناريو والمخرج في القرون الماضية كان الطبيب ابن دانيال الموصلي ، اما الان فان مخرج هذه المشاهد المروعة هو في الحقيقة مجهول الهوية وكذلك كاتب سيناريو هذه الاحداث.. اقصد احداث القصص.. وهذا هو الاتجاه المعاكس الذي كان يقوم به صاحبنا محمد ابن دانيال .. فهل يا ترى متى ستنجلي الغمامة عن احداث هذه المسرحية وتنكشف الامور على حقيقتها ، وهل يا ترى متى ستعرف هويات العاملين فيها من المخرجين وكتاب السيناريو والمخايلين..؟؟!! رحمك الله يا طبيبنا ابن دانيال ..ولست ادري ان كنت تشاهد نتيجة ابتكارك الجميل هذا ام لا . ولست واثقا من انك سوف تلوم نفسك على ذلك الابتكار ، ام انك ستفتخر باختراعك الفني حين ترى ابناء مدينتك ومسقط راسك يعانون الامرين بسبب عروض مسرحية مأسوية مع خيال الظل هذا ..؟ ومن ثم هل يا ترى ستعلن يوما اسماء المخايلون الذين يلعبون بتلك الدمى البشرية الحزينــة وكما يقول المثــل الشعبي العراقي ( شاطي باطي ) ، ولا ندري ان كان صاحبنا كاتب السيناريو ( سيناريو خيال الظل في الموصل ) او مخرج احداثها الاخيرة سيعلنان يوما عن شخصيتيهما الدراميتين ، ام ستظل تلك الشخصيات مستترة خلف نقاب الرياء والظلم وفي ظلال السكوت المرعب لجمهورنا الفاضل ..؟ او ربما سيصبحون مستقبلا فنانين محترفين بحق ويهيئون مشاهد مأساوية او مسرحيات تراجيدية اخرى قبل ان تختتم احداث المسرحية الحالية ، لأن المسرحية التي تعرض الان على مسرح شوارع الموصل قد وصلت الى الذروة وقاربت نهايتها وبدأت احداثها تتضح يوما بعد يوم باستثناء اسماء المخرجين وكتاب السيناريو ،اذ لا زالت تلك الاسماء طي الكتمان بين ملفاة الندمان في صالات الزمن الغريب ، اما المخايلون او الذين يلعبون على خشبة المسرح ويحركون دماهم البشرية فهم ليسوا الا أجراء يعملون لقاء ثمن يقبضونه سلفا ليس الا ..!! فهم يستلمون رواتبهم واجورهم كاملة قبل بدء العروض المسرحية ، وللعلم فان تلك الاعمال لا تحتاج الى الكثير من ( البروفات المسرحية ) او التمارين الفنية ، لأنها ببساطة شديدة مسرحيات هابطة جدا وعلى جميع المستويات سواء كانت الاخلاقية ام الفنية ام الدعاية الزائفة ..الخوالسؤال هنا .. ترى الى متى تبقى هذه الدمى العوبة بايادي هؤلاء المخايلون ،والى متى يستمر صمت تلك الدمى المبتلاة ببعض من ابناء جلدتها من الذين باعوها للمخايلين بثمن بخس كما باع يهوذا معلمه لليهود بثلاثين من الفضة ..؟ فهل تنتظر تلك الدمى وتنتظر ليبيدها المخايلون والمخرجون وكتاب السيناريو من الوجود وامام الجمهور الكريم الذي لا يحرك ساكنا ابدا..؟ ام انها تنتظر ان يوحد الله صفوفها المتناثرة هنا وهناك واسمائها المخملية التي لم تستطع يوما حتى ان تنادي بها جهارا رغم ادعاء بعض من ابناء جلدتها بانهم مصنوعون من جلد واحد ويجري في عروقهم دم من فصيلة واحدة .. فهل يا ترى لا زالت دُمانا تلك تنتظر عمالقتها الذين يدعون النطق باسمها والذين يتغنون بتحرير رقابها من نير العبودية ، في حين يملئون جيوبهم وخزائنهم بما تنعم به الارض لهم من كنوز وعلى حساب ماساة وتضحيات تلك الدمى المسكينة ..؟ ام ان تلك الدمى وكحل اخير لها سوف ترسل بشكاويها ومآسيها الى ابن دانيال القابع في ارض الغربة عبر شبكة الانترنيت او عبر الفضائيات او ربما عبر اجهزة الموبايل وتعاتبه برسالة ( SMS ) عتابا شديدا وتلومه على اختراعه الفني هذا ..؟ وربما سترجوه ان يعود الى ارض الوطن ليشارك احبته وابناء وطنه في صنع دمى اخرى .. فهل سيرضى ابن دانيال بذلك الطلب .. واذا عاد فانه ربما سيقوم بالغاء اختراعه اللعين وسيسقطه من حساباته الفنية .... ولكن السؤال الاكثر أهمية هو .. هل يا ترى سيعود طبيب العيون العراقي الاصل والموصلي النسب والمقيم في بلاد الغربة محمد ابن دانيال من موطن غربته الى مسقط راسه وارض اجداده واسلافه واحفاده ، ام سيترك الموصل وارضها وابنائها الى ابد الابدين ...؟؟!! ذاك سؤال .. سنسأله لإبن دانيال طبيب العيون والضمير الحي وصاحب القلب الكبير وابن العراق الشريف اينما هو وفي جميع بلاد الغربة .. ولكن .. هل من مجيب ..؟؟
تحياتي