دور قانون رقم 80 في اغتيال ثورة 14 تموز
تمر اليوم الذكرى الخامسة والأربعون لأبشع كارثة حلت بالعراق، ألا وهي ذكرى انقلاب 8 شباط 1963، الذي يعتبر أسوأ كارثة حلت بالعراق منذ كارثة غزو المغول لبغداد بقيادة هولاكو عام 1258، لأن جميع الكوارث الأخرى التي تتابعت على الشعب العراقي فيما بعد، كانت من عواقب ونتائج ذلك الإنقلاب الدموي الأسود. وقد أسمى المقبور أحمد حسن البكر هذا الانقلاب ب ـ"عروس الثورات"، بينما أسماه شعبنا بعاهرة الثورات المضادة. كانت هذه الثورة المضادة من تدبير المخابرات الأجنبية وعلى رأسها البريطانية والأمريكية، وبدفع من الشركات النفطية الأجنبية التي كانت مهيمنة على ثروات العراق، وبدعم من جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، حيث التقت مصالح هؤلاء قصيرة المدى بذبح الثورة العراقية، طمعاً بالعراق وثرواته الطبيعية.كانت الحرب الباردة آنذاك بين المعسكرين الغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا، والشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي في أوجها، حيث الصراع على مناطق النفوذ. وجاءت ثورة 14 تموز 1958 بقيادة ابن الشعب البار الزعيم عبدالكريم قاسم ضربة موجعة لمصالح الدول الغربية وشركاتها النفطية، والغرض من هذه الثورة تحقيق الاستقلال السياسي واسترداد الثروات الطبيعية الهائلة لكي يستفيد منها الشعب العراقي الذي كان محروماً منها. ولكن في فترة الحرب الباردة كانت أمريكا ضد مصالح الشعوب، بل وحتى ضد الأنظمة الديمقراطية في العالم الثالث وتدعم الأنظمة المستبدة. وقد وجدت هذه الجهات الأجنبية ضالتها في حزب البعث العربي الاشتراكي وبقية جوقة التيار القومي العربي بقياد جمال عبدالناصر، وجميع المتضررين من الثورة من الإقطاعيين وملاك العقارات الكبيرة، مستفيدين من تعقيدات وتناقضات الوضع الداخلي، والظروف الدولية التي لم تكن لصالح الشعوب المناضلة من أجل التحرر آنذاك.
وقد أرادت الثورة استرداد أكبر قدر ممكن من الحقوق للشعب في أقصر فترة زمنية ممكنة. لذا فقد أصدر الزعيم عبدالكريم قاسم قانون رقم 80 لعام 1961 والذي استعاد بموجبه معظم الأراضي العراقية غير المستثمرة التي كانت تحت امتياز الشركات النفطية والتي كانت تشكل نحو 95% من مساحة العراق. وكان هذا القانون بمثابة الخطوة الأساسية الأولى لتأميم النفط الذي تحقق لاحقاً في أوائل السبعينات من القرن المنصرم. وقد رحبت به جميع القوى الوطنية والإنتليجنسيا العراقية ولحد الآن. ولكن في نفس الوقت نعتقد أن هذا القانون لعب دوراً رئيسياً وأساسياً وفعالاً في إسقاط الثورة. نعم هناك أسباب كثيرة ساهمت في اغتيال الثورة، ذكرتها في فصل كامل في كتابي عن ثورة 14 تموز، أضع الرابط في نهاية المقال لمن يرغب في معرف المزيد، ولكن كان هذا القانون له الدور الرئيسي، أشبه بقطع الدومينو، كل قطعة تسقط التي أمامها، وكان هذا القانون بمثابة القطعة الأولى، ولولاه لربما أمكن التغلب على الأسباب الأخرى ونجاح الثورة.
جاء هذا التأكيد والتوضيح في ندوة (حول قانون رقم 80 لعام 1961 والدروس والعبر المستقاة منه) والتي نظمتها اللجنة الثقافية في اتحاد الديمقراطيين العراقيين في لندن يوم 28/7/2002 ، وأدارها د.علي حنوش، ونشر ما دار فيها في مجلة (الديمقراطي)، العدد 34، نوفمبر/تشرين الثاني 2002. وشارك في الحوار كل من المرحوم محمد الظاهر، رئيس الاتحاد، وكان أحد المستشارين الذين شاركوا في الجانب الفني إثناء مفاوضات النفط التي جرت بين الزعيم عبدالكريم قاسم وشركات النفط عام 1960-1961، والدكتور فاضل الجلبي، الخبير النفطي المعروف ومدير مركز الطاقة العالمي. ونظراً لأهمية هذا الموضوع، فإننا نقدم بعض المقتطفات مما دار في هذه الندوة وفق الملخص الذي نشره الدكتور علي حنوش في مجلة الديمقراطي.
استهل الراحل محمد الظاهر، الحديث في الندوة عن الخلفيات التي أدت إلى تشريع قانون رقم 80، حيث طلب رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم في أوائل عام 1960 من الشركات صاحبة الامتياز في استثمار نفط العراق، التخلي عن الأراضي التي يعتبرونها غير مجدية، وتحديد المناطق التي يريدون الاحتفاظ بها والاستمرار باستغلالها وفق الاتفاقيات بين الشركات والحكومة العراقية. فاستجاب مستر فيشر، ممثل الشركات، بقبول المبدأ وطرح أن الشركات مستعدة للتنازل عن 80% من الأراضي، وربما حتى إلى 90% منها. وكان جو المفوضات ودياً للغاية.
وأكد ذلك المحاضر الثاني في الندوة، الدكتور فاضل الجلبي: "أن الزعيم عبدالكريم قاسم أملى أربعة رسائل على الشركات النفطية أن تعلن فيها استعدادها:
1-التنازل الفوري عن 75% من الأراضي للعراق من مجموع أراضي الإمتياز البالغة 95%،
2-أن تعاد للحكومة العراقية 15% من أراضي الإمتياز خلال 5-6-سنوات.
وقد بينت الشركات للحكومة أنها مستعدة على الموافقة على هذه الطلبات بما في ذلك التنازل الفوري عن اـ(15%) في حالة التوصل إلى اتفاق مع الحكومة. كان قاسم فرحاً بهذا النجاح الكبير وأراد إعلان نجاح المرحلة الأولى من المفاوضات. وكان بإمكان قاسم الموافقة على ذلك وتأسيس شركة النفط الوطنية واستثمار 90% من الأراضي. ولكن الذي حدث كان أمراً عجيباً على النطاق السياسي والاقتصادي والإستفادة من الظروف الملائمة لتطوير ثروة اقتصادية هائلة وهو إصدار قانون رقم 80".
ويضيف محمد الظاهر: "وبعد أن قدمت الشركات الخرائط الجغرافية والجيولوجية لتحديد المناطق التي ترغب الاحتفاظ بها، طلب منا الزعيم عبدالكريم قاسم الحضور إلى وزارة الدفاع ورغبة منه في الاستماع لآراء الفنيين في الموضوع... وكان أول ما أثاره قاسم، أن العراق يطفو على بحيرة من النفط فإذا أصرت الشركات على الاحتفاظ بـ(10%) فبوسعنا استثمار الـ(90%) من الأراضي الباقية، وبهذا لن نصطدم مع الشركات... علماً بأن مجموع ما استثمرته الشركات خلال 40 عاماً لا يزيد على 2% من الأراضي.
وكما أكد الدكتور فاضل الجلبي أنه كان في نية الشركات عند الموافقة على هذا العرض، تكثيف عمليات استكشاف النفط في العراق بدلاً من إيران.
ولكن الخبراء الفنيين الذين استشارهم الزعيم ومنهم محمد الظاهر والدكتور عبدالله السياب، الخبير في وزارة النفط آنذاك، أشاروا عليه وعلى الوفد العراقي المفاوض رفض هذا العرض وذلك بتأثير من شعارات الأحزاب السياسية، الوطني الديمقراطي والشيوعي العراقي وحزب الإستقلال، وإصدار قانون يقضي باسترجاع جميع الأراضي من الشركات عدا تلك التي عليها منشآتها. فاستجاب لهم الزعيم وطلب منهم كتابة مسودة القانون. وبالتالي صدر قانون رقم 80 الذي أثار عليه غضب ونقمة الشركات وقرروا الإطاحة بالثورة، وهذا ما حصل.
أجل، هذه الشهادات جاءت من الذين ساهموا بكتابة هذا القانون ونستنتج مما تقدم عدة أمور:
1- أن الزعيم عبدالكريم لم يكن مغامراً، بل كان حذراً في مفاوضاته مع الشركات النفطية وكان يتحاشى إثارة غضبها، خاصة وأن تجربة تأميم النفط التي قام بها الرئيس الإيراني محمد مصدق والتي انتهت بمأساة كبرى كانت شاخصة للعيان وحية في الذاكرة.
2- كان الزعيم قاسم مقتنعاً وفرحاً بما حصل عليه من الشركات (90%) نتيجة لمفاوضاته الودية معها، ولكن الخبراء العراقيين، وتحت تأثير الشعارات الحزبية، دفعوه إلى رفض ذلك العرض وإصدار هذا القانون الذي أثار عليه نقمة الشركات.
3- نستنتج من كل ما تقدم، أن الزعيم عبدالكريم قاسم لم يكن حاكماً فردياً مستبداً برأيه، كما يشيع ضده خصومه، بل كان يستمع إلى الآخرين وخاصة الخبراء من أصحاب الاختصاص، وينفذ ما يشير عليه من أناس يثق بوطنيتهم وخبرتهم وليته لم يفعل، إذ كان مقتنعاً بالـ (90%) التي حصل عليها خلال مفاوضاته الودية مع الشركات، فلماذا يغامر بهذه النسبة العالية من أجل الـ(10%) غير المضمونة؟
4- كما جاء في الندوة، أن الخبراء قالوا له أن النفط يوجد فقط في الـ (10%) من الأراضي التي احتفظت بها الشركات، أما الـ(90) التي حصل عليها هي أراضي جافة لا نفط فيها!! بينما الزعيم قال لهم أن العراق يطفو على بحيرة من النفط، وقد أثبتت التنقيبات فيما بعد أن معظم النفط الذي تم اكتشافه في عهد حكم البعث كان في مناطق الـ(90%).
5- في حالة موافقة الحكومة العراقية على هذا العرض كانت الشركات تنوي على تكثيف نشاطاتها في العراق لتوسيع عمليات الاكتشاف والاستخراج وتصدير المزيد من النفط العراقي وبذلك إنعاش الاقتصاد العراقي وخطط التنمية فيه. ولكن نتيجة لهذا القانون غضبت هذه الشركات وأوقفت جميع نشاطاتها منذ صدوره عام 1961، إلى ما بعد التأميم في السبعينات، كما ونقلت هذه الشركات نشاطاتها من العراق إلى إيران وبلدان الخليج.
6- أن هذا القانون ساهم بشكل فعال ورئيسي في إسقاط الثورة، وكلما حصل في العراق من كوارث فيما بعد. أما الأسباب الأخرى التي ساهمت في إسقاط الثورة فكانت ثانوية وهي من مضاعفات وتداعيات لهذا القانون، وتم تفعيلها ولولا هذا القانون لربما سلم العراق من جميع هذه الإرهاصات والكوارث التي مر بها منذ 8 شباط 1963 ولحد الآن، وبالتأكيد لكان العراق الآن من الدول المتقدمة.
المجد والخلود لذكرى الزعيم الوطني الخالد الشهيد عبدالكريم قاسم وجميع صحبه الشهداء الأبرار، والمجد والخلود لشهداء شعبنا، شهداء الحركة الوطنية العراقية. والخزي والعار لحزب البعث الفاشستي وجميع أعداء شعبنا العراقي.
ـــــــــــــــــــــ
لقراءة المزيد عن أسباب اغتيال ثورة 14 تموز ونجاح انقلاب 8 شباط الأسود، أرجو فتح الرابط التالي:
http://albadeal.com/