دير الربان هرمزد عبر التاريخ
المقدمة :الرهبانية، طريقة في العبادة تنفرد بها المسيحية عن باقي الأديان السماوية، ومنعطف قوي في هذه الديانة. لذا فهي تستحق من البحث والتنقيب عن جذورها، واسبابها، وأساليبها، ومتطلباتها، واماكن وجودها، وازدهارها وتطورها. والرهبانية هي سيرة من سير العبادة، ويمكن تلخيصها، بعشق ذات الله والتفاني من أجله واعتبار الحياة الدنيوية شيئاً زائلاً بالنسبة إلى الحياة الأبدية.
إن نشوء الحياة الرهبانية يبدأ بالمسيح، فهو الراهب الأول إذا جاز القول. لأنه هو الذي علمنا الحياة الرهبانية، ووضع لها اسسها. إذ قال للشاب الغني الذي بعدما رآه قد أكمل جميع الوصايا ( الكلمات العشر ): " إذا أردت أن تكون كاملاً، فأترك كل شيء واتبعني "، وهو قال أيضاً : " من أراد أن يكون تلميذي، فعليه أن يترك أباه وأمه وكل ماله ". إذا يسوع هو الذي شق لنا طريق الخلاص والحق والحياة.
كانت الجماعة المسيحية الأولى كما يصفها سفر أعمال الرسل المثال الأول لجماعة الرهبان حيث كانوا يواظبون على الصلاة كل يوم بقلب ونفس واحد على تعليم الرسل، وكسر الخبز، والحياة المشتركة. إذ كان كل شيء عندهم مشترك، وهكذا من بعد الرسل عمد بعض المؤمنين رجالاً ونساءاً إلى الانقطاع عن العالم إلى الصلاة، والصوم، والتحلي بالزهد، والتقشف وعدم الزواج. " من تبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني ". لذا فليس الراهب إلا إنساناً مسيحياً قد ألحت عليه دعوته المسيحية بالسير وراء المسيح، والعيش على نمط حياة يسوع المسيح.
عرف العالم الحياة الرهبانية منذ أقدم العصور، وقد اتخذت الرهبانية عبر العصور مظاهر شتى في الطريقة والحياة. إذ أن البعض انعزل عن العالم وانقطع وحيداً في الصوامع، أو الكهوف، والبراري لعبادة ربه، والبعض منهم عاشوا في بيت أو دير.
في بحثي المتواضع هذا سوف أتحدث فيه عن الحياة الرهبانية، ونشؤها وانتشارها في الشرق عموماً، وسوف أسلط الأضواء بصورة خاصة على تاريخ الرهبانية الأنطونية الهرمزدية، منذ التأسيس في القرن السابع الميلادي على يد القديس الربان هرمزد إلى يومنا هذا، ودورها في كنيسة المشرق ( الكلدو – اثورية ) في الماضي، وسنتعرف أيضاً معاً على أديرة الرهبانية حالياً، وعلى أهم أعمالها، ونشاطاتها الرسولية والروحية في كنيسة اليوم.
الحياة الرهبانية :
حياتنا الرهبانية هي تكريس الشخص كله بما فيه من أعمال لله. لإله اجدادنا إله ابراهيم واسحق ويعقوب. إله يسوع هذا الإله الذي يبحث عنا منذ البداية " أين أنت يا آدم " ( تكوين 3 : 9 )، وفي انجيل يوحنا يقول الرب يسوع : " ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم " ( يوحنا 15 : 16 ). حياتنا الرهبانية هي جواب على هذا الأختيار لهذه الدعوة وعلى هذه المخاطبة ( يا انسان أين أنت ).
إلهنا ينتظر منا أن نعطي جوابنا بكل حرية، ولكن قبل هذا يجب أن نعرف إلهنا أحسن معرفة، ونعرفه أكثر باستمرار، وكلما نعرفه أكثر نعطي جوابنا لحياتنا، وبدون هذه المعرفة الشخصية والعميقة. حياتنا الرهبانية تصبح فارغة وسطحية، ومجرد عبادة الحرف الميتة، أو عبادة القانون.
إذاً الحياة الرهبانية هي تكريس الذات لخدمة الله والمجتمع. بعد أن يجرد الراهب نفسه عن مغريات الحياة المادية منقطعاً عن العالم، ليعيش إما في انفراد وعزلة في البراري، أو في الصوامع، وإما في بيوت، أو أديرة يكرس ذاته لله بالصلاة وقراءة الكتاب المقدس، والتأمل، أو العمل اليدوي، أو الرسولي، وبالنذور الثلاث الطاعة، العفة، الفقر تحت طاعة مرشد، أو رئيس، ويختار الراهب الفقر والبتولية محققاً بذلك رسالة المسيح في حياته. هذه هي أسس الحياة الرهبانية وجوهرها، وهذا ما حاول الملايين من الرهبان والراهبات في المسيحية تطبيقه لخدمة الكنيسة والمجتمع.
اليوم، وللأسف الشديد كثيراً ما يسألنا الناس عن معنى وفائدة وجود رهبان وراهبات، وكأنهم يتأسفون لضياع شبابهم، وكثيراً ما نصدم بهذه الأسئلة. نعم ان الرهبان والراهبات هم أناس إعتيادون وليسوا مسيحيين من طبقة متميزة، أو طبقة عالية، إنما هم أناس اختاروا أن تكون حياتهم ميداناً مفتوحاً لفعل الله، وليسوا هم كما يزعم البعض من الناس بأن الرهبان والراهبات هم الفاشلين في حياتهم المدنية، أو العامة لذا تركوا العالم، ولكن نقول لهؤلاء الناس بأن الدير الذي نعيش فيه هو أيضاً بيتاً عائلياً. لا مكاناً منعزلاً كما يتصور البعض.
نعم قليلون من الناس يعرفون ما هي الحياة الرهبانية، فالناس أكثرهم يجهلون، أو لديهم عنها بعض الأفكار السطحية، أو أفكاراً خاطئة تجعلهم ينتقدونها، أو يعادونها، ولا عجب في ذلك بالنسبة لنا نحن الرهبان والراهبات. لأن الحياة الرهبانية هي مجال خاص غريب مختلف عن مجالات الناس. لكن رغم ذلك فالرهبانية لا زالت قائمة ومستمرة، ولا يزال يقال فيها حتى اليوم أن الكنيسة لا تقوم بدونها.
الحياة الرهبانية في الشرق :
منذ حوالي القرن الثاني والثالث ترك بعض المسيحيين في شرقنا أموالهم وعوائلهم، وعزفوا عن الزواج من أجل المسيح، ليعيشوا حياتهم المكرسة للملكوت على نمط حياة يسوع المسيح. في بداية القرن الرابع تكونت في المدن جماعات من المؤمنين العلمانيين كرسوا أنفسهم لخدمة الكنيسة، طقسياً والقيام باعمال خيرية، مثل أبناء العهد وبنات العهد ( أبناء وبنات القيامة ) ( بنَيْ وبٌْنةٌ دَقيًمًا )، وكان ذلك تطبيقاً حياً للمفهوم المسيحي للحياة، وذلك بترك كل شيء واتباع المسيح. إنما دون شرط ترك العالم والاعتزال بل للتفرغ للصلاة، وحياة التأمل، والمطالعة، والارشاد، وتقديم كل عون روحي، وعزفوا عن الزواج، وخصصوا وقتاً كبيراً للصلاة، بعضهم ظلوا في بيوتهم، والبعض الآخر عاشوا عيشة مشتركة. إنما دون نظام رهباني معين أقله في العهود الأولى، ورغم انتشار الديانة المسيحية وتأسيس بعض أبناء وبنات العهد أديرة. ظلت ظاهرة الانقطاع في البيوت عينها قائمة حتى القرن العاشر على الأقل.
إن أقدم مصدر موثوق رصد الديارات في المشرق هو كتاب ( الديورة ) لايشوعدناح البصري مطران البصرة ( القرن الثامن ). إذ يتحدث عن الحركة الرهبانية القوية التي نشأت في دير إيزلا الكبير، ومنه انطلقت إلى مختلف أرجاء البلاد من شماله ووسطه وجنوبه. أجل، لقد قام دير إيزلا الكبير، وهو الواقع على رابية بين نصيبين وماردين ( في تركيا ) بنشاط رهباني عارم، بعد أن قام ابراهيم الكشكري الكبير باصلاحه في منتصف القرن السادس الميلادي، وسنّ قوانين تنظمَّ فيه حياة الصلاة والدرس، وحياة التجرد والطاعة، مع سائر النظم التي كانت ما تزال غير واضحة في كنيسة المشرق إلى ذلك العهد، وكان هذا الدير قد أقيم في عهد سابق, اصبح مركزاً هاماً للتجمع الرهباني، وتشهد لذلك الشهرة التي حظيَّ بها الربان برعيتا ( بَرعٍدةًا )، خريج هذا الدير، والأديرة التي أقيمت على اسمه في منطقتي نينوى وحدياب ( أربيل ).
ابراهيم الكشكري :
علينا أن نقر بفضله في تنظيم الحياة الرهبانية في كنيسة المشرق ( الكلدو _ الأثورية ) كما في انتشار الأديرة بشكلها النظامي والمتطور، وذلك في أواسط القرن السادس الميلادي، فهو مولود في قرية كشكر سنة ( 491 – 492 م )، ويذكر أنه بعد دراسته في الحيرة قصد مصر وانقطع في صحراء سيناء، كما درس في نصيبين وسكن جبل الأزل.
سن ابراهيم الكشكري ( 12 ) قانونا سنة ( 571 م ) تناول فيها ضرورة الهدوء، والاختلاء، والتقشف، والصوم، والتأمل، والصمت، وحارب نزعة التجوال لدى الرهبان وعدم استقرارهم في أديرتهم، ثم أعقبه داديشوع فسنَّ ( 27 ) قانوناً آخر سنة ( 588 م )، أكد فيها على وجوب التمسك بالإيمان القويم، والعمل، والخدمة الجماعية، وتوزيع المسؤوليات، وثمة قوانين رهبانية أخرى منها ما نسب إلى مار افرام، وماروثا، ومنها من وضعها ربولا أسقف الرها، ويعقوب الرهاوي، وجرجيس أسقف العرب.
نبذة تاريخية عن دير الربان هرمزد :
ولد الربان هرمزد مؤسس الرهبانية الأنطونية الهرمزدية في بيت لافاط ( شيراز ) من مقاطعة الأهواز في أواخر القرن السادس الميلادي، من أبوين شريفين هما يوسف وتقلا.
دخل المدرسة في مدينته وعمره اثنتا عشرة سنة، وتلقى مبادئ العلوم الدينية واللغوية، ونبغ في علوم الكتاب المقدس التي كانت تستهويه، وفي العشرين من عمره شعر برغبة قوية في الأنقطاع إلى حياة التنسك والزهد، فعزم أولاً على زيارة الأماكن المقدسة، فترك ذويه ورحل صوب فلسطين وبعد مسيرة سبعة وثلاثين يوماً وصل مدينة ( حالا ) الواقعة بين نهري رادان وديالى، وهناك صادف ثلاثة رهبان من دير برعيتا ( دَيرًا برعدةا ) الواقع في منطقة المرج، فأقنعوه بالإقلاع عن عزمه ومرافقتهم إلى الدير، والرهبان الثلاثة هم يعقوب من كفر زمار، ويوحنا المشراحي، وحنانيشوع من حدياب ( اربيل )، ورافقهم هرمزد إلى الدير الذي كان يضم آنذاك مئتي راهب، وكان بإدارة الربان سبريشوع الذي أصله من نينوى. في دير الربان برعيتا أتم الربان هرمزد الابتداء واقتبل الاسكيم الرهباني، ولسيرته الطاهرة غدا مثالاً حياً يحتذي به اخوته الرهبان.
غادر الربان هرمزد دير برعيتا وعاش في خلوة صارمة ملبياً الدعوة التي أرادها الله له، باشارة من رؤسائه في الدير. وأقام في مكان منفرد في كوخ جبلي منقطعاً إلى الصوم والصلاة، والتأمل، والتقشف، والتقى يوماً راهباً اسمه ابراهيم وأصله من دير عابي، وقد تحدث هذا الراهب إلى الربان هرمزد عن ديره، فبعث في نفسه الرغبة لزيارة هذا الدير والاطلاع على نمط حياة رهبانه، فقصداه معاً ومكثا فيه ثلاثة اشهر. ثم انطلقا منه إلى دير الرأس ( ديرا درشٍا )، أو دير مار ابراهيم الكبير في جبل مقلوب حيث الربان يوزادق ورهبانه، وهم يوحنا الفارسي، والأنبا دونا، وايشوع عسبران وشمعون، وعاش هناك جميعهم في حياة نسك وزهد مثالية.
واثر جفاف النبع الذي منه كان يشرب الاخوة الرهبان تفرقوا إلى أماكن شتى، فقصد يوزادق مع دونا وشمعون جبال قردو، وقصد هرمزد وابراهيم جبال بيت عذري، ومكث ايشو عسبران ويوحنا في الموضع نفسه.
سار الربان هرمزد والربان ابراهيم إلى موضع في جبل بيت عذري شرقي قرية القوش، وأقاما بجوار كهف فيه ينبوع ماء يتحلب من الصخور، وقد عرف هذا النبع فيما بعد بعين القديس ( عينا دقديشا ). واتخذ كل منهما مغارة بجوار العين، غير ان ابراهيم لم يمكث هناك سوى ثلاثة أيام، انتقل بعدها إلى شمال شرقي باطانيا حيث ابتنى له ديراً وهو الدير المعروف اليوم بدير مار اوراها.
اما الربان هرمزد فقد مكث في الجبل، فتقاطر إليه اهالي القرى القريبة من القوش فرحين مستبشرين، ووعدوه انهم على استعداد أن يقدموا له يد المعونة متى شاء، وممن ساعدوا الربان هرمزد أيضاً أمير الموصل عقبة أو عتبة بن فرقد السلمي الذي تولى الموصل سنة ( 637 م )، والذي شفي ابنه على يد الربان هرمزد فساعده على بناء الدير حوالي عام ( 640 ).
ويروي أن خمسين شخصاً من مدرسة ايثالاها ( اية الىا ) في نوهدرا ( نوىدرا ) ( دهوك الحالية ) قصدوا الربان هرمزد وانضموا إليه ليعيشوا حياة نسك جماعية، وسرعان ما ابتنوا لهم كنيسة، فكانت نشأة دير الربان هرمزد، وقد ساعد في تشييد الدير أهالي القرى المجاورة، نذكر منهم شخصاً ثرياً من قرية باقوفا اسمه خداوي شوبحي. توسع الدير، وبلغ عدد الرهبان فيه في فترة قصيرة المائة وعشرة رهبان، ويمكننا اعتبار فترة تأسيس الدير السنوات ما بين ( 628 – 647 م ). أي في عهد الجاثليق ايشوعياب الثاني الجدالي.
وبعد حياة طاهرة وعفيفة مقدسة توفي الربان هرمزد وعمره سبع وثمانين سنة. قضى منها عشرين سنة في البيت والمدرسة، وتسعا وثلاثين سنة في دير الربان برعيتا، وستا في دير الرأس، واثنتين وعشرين سنة في
ديره، ودفن في كنيسة الدير باجلال عظيم، ولا يزال قبره قائماً حتى اليوم في قبر الشهداء أو القديسين، ويحتفل بذكراه في الاثنين الثالث بعد عيد القيامة، كما يخصص الأول من أيلول لذكراه أيضاً.
تقع عين القديس ( عينا دقديشا ) إلى الجنوب الشرقي من مدخل الدير الخارجي، ومياهها معدنية، وإلى الشرق من العين صخرة أشبه بقلعة منتصبة يلاحظ في اثار عدة صوامع متهدمة، تعتبر هذه الصوامع المناسك الأولى للرهبان الأوائل الدين أسسوا الدير، فقد اشتمل الدير في الأساس على هذه الصوامع، ويلاحظ من بينها غرفة طعام كبيرة وقاعة اجتماعات كما أن القسم الشمالي من كنيسة الدير الحالية يعود هو أيضاً إلى زمن التأسيس، وهو الهيكل المعروف بهيكل مار أنطونيوس اليوم، وكذلك صومعة الربان هرمزد ( بخشوكا ) ( بخشوكا )، وهيكل الربان هرمزد الملاصق للصومعة غرباً، والدهليز الذي بين الهيكلين جنوباً حيث ضريح الربان هرمزد. أما أقسام الدير الأخرى فقد أضيفت إليه تباعاً، وأقدم ذكر للدير بعد تأسيسه يأتينا من القرن التاسع الميلادي وذلك في قصة شفاء الأعمى.
ثم يرد ذكر ذكره بوضوح في القرن العاشر وذلك في سيرة الربان بوسنايا التي كتبها يوحنا بر كلدون، ويوسف هذا من قرية بوزان شرق دير السيدة. دخل دير الربان هرمزد هو وثلاثة من اخوته، وكان الراهب يوسف بوسنايا قد تنبأ بكوارث ستحل بديارت المنطقة. الأمر الذي حصل وحلت هذه الكوارث في السنوات ( 958، 964، 965 م )، ولا سيما كارثة ( 978 م ) بسبب الحوادث الدامية بين الحمدانيين والبويهيين الفرس، وهجوم الأكراد الحكاريين على القرى والديارت العامرة، فتشتت الرهبان وخلت الأديرة وتهدمت الكنائس، وتفيدنا سيرة الربان يوسف بوسنايا بالكثير من أخبار دير الربان هرمزد عن الحياة الجماعية فيه روحياً وجسدياً، وعن نظم وقوانيين الانخراط في هذه الرهبانية.
في عام 1200 م يرد ذكر الراهب الخطاط ايشوع الالقوشي الذي خط العهد القديم، وفي 1208 م يرد ذكر الخطاط الراهب دانيال الذي كتب إنجيلاً طقسياً، وفي عام 1256 م نجد عدة رهبان من دير الربان هرمزد يحضرون مراسيم دفن الجاثليق سبريشوع.
وتنقطع أخبار الدير في القرون الرابع عشر والخامس عشر، والنصف الأول من القرن السادس عشر، والسبب هو ما قاساه الدير من محن ومصائب في هذه الفترات، فهي سنوات غزو، وسلب، ودمار، وقتل، نعرف منها هجمة تيمورلنك على بغداد والموصل سنة 1393 ثم 1401 م، فتبدد الرهبان بعد أن اصاب النهب والخراب ديرهم، فيعود الرهبان إلى ديرهم بعد انتاب الأمور إلا أن هجمة برياك بيك المغولي سنة 1508 م لا تلبث أن تشتت شملهم وتلحق بديرهم الدمار والخراب.
منذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى مطلع القرن التاسع عشر. لدينا نصب جنائزية لتسعة بطاركة من البيت الأبوي دفنوا في دير الربان هرمزد، أولهم مار شمعون الرابع المتوفي سنة 1497م وأخرهم هو مار ايليا الثالث عشر ايشوعياب المتوفي سنة 1804م .
في عام 1552م يقع الاختيار على الراهب يوحنان سولاقا بلو رئيس الدير مرشحاً للبطريركية، ويتم تثبيته في روما في 20 شباط 1553م، وكان في زمانه سبعون راهباً. سنة 1587م يزور وفد البابا غريغوريوس الثالث عشر الدير، فيجد بطريركاً اسمه ايليا مقيماً فيه، ويفيدنا تقرير مرفوع إلى روما انه في عام 1606م كان بطريرك كنيسة المشرق مقيم في الدير، وان فيه قرابة مائتي راهب. في سنة 1653م يترك البطريرك مار شمعون الدير إلى تلكيف اثر غزو للمنطقة.
سنة 1666م يتهدم سور الدير بالزلزال، وفي سنة 1714م يترك البطريرك ايليا مقره في الدير إلى تلكيف من جراء الاضطرابات التي وقعت في منطقة العمادية، ولم يظل في الدير سوى خمسة رهبان في سنة 1718م وارتفع هذا العدد إلى ستين راهباً في سنة 1722م في عهد الربان جبرائيل رئيس الدير.
في سنة 1727م يهجر الرهبان ديرهم إلى كنيسة مار ميخا في القوش اثر هجمة يونس اغا، وتأتي الضربة القاضية والقاسية سنة 1743م حين اكتسحت جيوش نادر شاه طهماسب الايراني القرى والديارات، فأصاب الدمار والخراب الدير، ويبدو ان الدير ظل خالياً قرابة 65 عاماً أي حتى التجديد على يد الأنبا جبرائيل دنبو سنة 1808م.
ولد الأنبا جبرائيل دنبو في ماردين سنة 1775م نذر نفسه للرهبانية، وسعى بإستماته إلى تجديد الرهبانية الهرمزدية، وبعد جهد ومصاعب، وعقبات تمكن من استلام الدير عام 1808م بواسطة أفراد من القوش والموصل.
ويبدو أن الدير كان قائماً بكنائسه وأسواره وأبوابه التي استلم مفاتيحها الأنبا جبرائيل دنبو من مطران العمادية حنانيشوع ابن عم البطريرك يوحنان هرمزد. لأن الدير كان يعود إدارياً إلى أبرشية العمادية.
وفي صيف 1827م قصد الأنبا جبرائيل روما لتثبيت قوانينين الرهبانية التي سماها الرهبانية الأنطونية الهرمزدية الكلدانية، وعاد بالتثبيت بعد ثلاثة سنوات قضاها في روما، وحاول بعد عوته توطيد دعائم الرهبانية، ولكن هجمة أمير راوندوز ( ميرا كور ) الشرسة على الدير، والقوش أودت بحياة المئات، ومن ضمنهم الانبا جبرائيل دنبو وثلاثة رهبان آخرين، وكان ذلك يوم 15 آذار 1832م، ودفن جثمان الشهيد جبرائيل دنبو في كنيسة مار ميخا النوهدري في القوش، وفي سنة 1849م نقل جثمانه إلى كنيسة الدير.
وانتخب الأنبا حنا جرا خلفاً للأنبا جبرائيل دنبو، وتوفى في سجن العمادية في 19 آب 1842م اثر هجوم اسماعيل باشا على الدير وسلبه إياه، وحبسه الرهبان في صومعة صغيرة والتكيل بهم، وتمزيقه الكتب والمخطوطات النفيسة.
تعاقب على الرئاسة العامة ابتداء بالأنبا جبرائيل دنبو واحد وعشرون رئيساً أخرهم حضرت الأنبا دنحا حنا توما الرئيس العام الحالي للرهبانية الأنطونية الهرمزدية. وفي عهد الأنبا قرياقوس ميخو انتقل مركز الرئاسة العامة إلى بغداد سنة 1994م.
تسمية الرهبانية ( اسم الرهبانية ) :
تدعى رهبانيتنا بالأنطونية نسبة إلى القديس انطونيوس ابو الرهبان، والذي يعتبر مؤسس الرهبانيات جميعاً. لأنه هو وضع أسس القوانين الرهبانية، أو تنسب إليه، وجعلها أن تعيش حياة جماعية مشتركة بعد أن كانت تعيش حياة التوحد والاختلاء، وعن طريقه انتشرت هذه الحياة في العالم كله. ولد القديس انطونيوس في بلدة كوما بصعيد مصر سنة 251م، وهو من اسرة شريفة وغنية بقي وحيداً مع أخته الصغيرة، فاهتم بالبيت وبأخته، وفي عام 271م، وبعد من وفاة والديه أخذ يفكر بتلاميذ المسيح كيف تركوا كل شيء وتبعوه، وكيف كان بعض المسيحيين يبيعون ممتلكاتهم، ويلقون بثمنها عند أقدام الرسل ليوزعوها على الفقراء، فيوماً من الأيام دخل الكنيسة وسمع كلام يسوع المسيح للشاب الغني " أن أردت أن تكون كاملاً فأذهب وبع كل ما تملكه ووزع ثمنه على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني " وهكذا قام وباع جميع أملاكه ووزعها على الفقراء، وأعطى لأخته نصيبها، وعهد بها إلى عذارى لتعيش بروح التقوى واعتنقت الحياة النسكية.
انفرد انطونيوس وحده بالجبال قرب ساحل البحر الأحمر، وذلك سنة 285م واختار قبراً قديماً لسكناه، ثم تركه وسكن في قلعة خربة قائمة على قمة جبل قرب بلدة ميمون الحالية، وكان عمره يناهز السادسة والثلاثين. عاش في الصلاة والعبادة لله، وكان يقوم بأعمال يدوية مستنداً على كلام القديس مار بولس الرسول " من لا يريد أن يعمل، لا يحق له أن يأكل " ، وجزءاً من نتاج عمله كان من اجل قوته، والقسم الآخر كان يوزعه على الفقراء. اعتزل العالم ولم يعد مدة ستين سنة إلا مرتين الأولى لتشجيع عزائم المؤمنين الشهداء ابان اضظهادات مكسيمينوس، والثانية لمناصرة اثناسيوس ضد بدعة اريوس.
في عام 340م وهو في التسعين من عمره التقى بالقديس بولا أول السياح والنساك، وظل في جبل القزم المشرف على البحر الأحمر إلى ساعة موته، وهذا المكان الحالي يسكنه الأقباط، وهو المكان الأصلي لدير مار أنطونيوس ويسمى ايضاً ( دير العرب ).
كان طعامه خبزاً وملحاً وماءاً كان يأكل مرة واحدة في النهار بعد غروب الشمس، وتارة كل يومين مرة، أحياناً مرة كل أربعة أيام .
كان له ثمان وثلاثون قولاً، ومن أشهر اقواله. نذكر بعض منها، وهي كما يلي :
1- بدون التجارب لا يخلص أحد لأنه لا بد منها للدخول إلى ملكوت السماوات.
2- ان حياتنا وموتنا يتعلقان بقريبنا، فإذا ربحنا أخانا ربحنا الله.
3- كما إن السمك إن بقي مدة خارج الماء لا يحيا. كذلك حال الرهبان. إذا تأخروا عن قلاليهم، أو قضوا وقتهم مع أهل العالم فلا يحيون.
توفي القديس أنطونيوس يوم 17 / 1 / 356 م عن عمر يناهز 105 سنة، وقبل وفاته عرف بموته لذا أوصى تلميذيه مكاريوس واماتاس اللذين نسكا معه مدة خمسة عشر سنة وخدماه في شيخوخته، أوصاهما أن يدفنوا جسده في مكان سري، ولم يعلم أحد حتى اليوم قبره سوى هذين التلميذين.
وتدعى بالهرمزدية نسبة إلى مؤسسها الربان هرمزد. الذي سكن جبل القوش وجمع له رهبان، وذلك في القرن السابع الميلادي، وأسس له ديراً لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، ويدعى باسمه. لذلك تدعى رهبنتنا بالرهبانية الأنطونية الهرمزدية.
دور الرهبانية في الكنيسة :
إن للرهبانية دوراً كبيراً في كنيسة المشرق، وذلك بسبب عمق الحياة الروحية، والتحلي بالكمال، والقداسة، ونشوء مدارس كثيرة قرب الأديرة، إذ كان الرهبان يؤكدون على الثقافة في حياتهم، ولأن العديد منهم أصبحو كهنة وأساقفة، وبطاركة، ومسؤولين في كنيسة المشرق ( الكلدو – الاثورية )، فأثروا على سير الكنيسة أجيالاً، كما كان تأثيرهم كبيراً على الطقوس والصلوات، ومنها كان يخرج الرهبان والكهنة الغيورون الذين طافوا المدن والقرى البعيدة ناشرين الديانة المسيحية في بلاد اشور وكلدو، ونقلوا بشرى المسيح إلى بلاد الهند والصين.
قدمت الرهبانية لكنيسة المشرق خدمات جليلة، إذ هيأت للرسالات جنوداً ابطالاً من الكهنة الرهبان الذين قطعوا البراري، والسهول والجبال، وطافوا في القرى والأرياف القريبة والبعيدة، وفي تلك الطرق الوعرة لنشر كلمة الله مضحين بحياتهم. لا طوعاً بالمال ولا بشرف الدنيا. بل لخلاص النفوس هكذا كان شعارهم وهدفهم، لأن أهداف رهبنتنا وشعارها هي الصلاة والعمل والرسالة.
داخل هذه الأديرة تنظمت طقوسنا الكنسية، وألفت مئات الكتب، وترجمت إلى لغات عديدة ونشرت في العالم أجمع. لذا قد أنجبت رهبانيتنا رجال عظماء وقديسين وشهداء، رجال علم ومفكرين، وكانت الأديرة مركزاً دينياً وعلمياً للكنيسة وللمسيحية، ويكفينا مراجعة التاريخ الكنسي للاطلاع على أهمية الرهبانية، وما قدمته للكنيسة ولأجيال عديدة.
في زمن الأنبا جبرائيل دنبو مجدد الرهبانية، وحيث الجماعات المسيحية والكنائس لم يكن لديهم كهنة لخدمتهم، بذل جهده كي يعد من رهبانه رسلاً غيورين لينتشروا في البلاد، ويبشروا بالإنجيل، وتمكن في مدة عشر سنوات أن يعطي للكنيسة ( 54 ) كاهناً أرسلهم اثنين اثنين كتلاميذ المسيح إلى المراكز المحتاجة حيث فتحوا المدارس، ومراكز التعليم والتربية، وكانت الناس في ذلك الحين تتهافت على الكنائس وتتقرب من الاسرار المقدسة، وكثيرون من غير المؤمنين اهتدوا إلى الأيمان على أيديهم.
هدف الرهبانية في الوقت المعاصر :
يهدف الرهبان في الوقت المعاصر إلى مواصلة الحياة الرهبانية بالصلاة والعمل نبشر في بلاد كانت سابقاً زاخرة بالأديرة والرهبان. الذين قاموا بدور رئيسي في خدمة كنيسة المشرق، باشعاعهم الروحي والثقافي، وعليه فأن الرهبانية تتوخى أن تحمل مشعل الإيمان والعلم الذي تسلمته من آبائها الأوائل، وأن تواصل مثلهم السير على خطى المسيح في نشر كلمة الله وملكوته.
ان ما يميز هذه الرهبانية وتسعى إليه، هو أنها تستلهم روحانية أباء كنيسة المشرق في الصلاة والعمل، وتحاول أن تعيش التراث الروحي والثقافي بشكل معاصر يواكب العصر ومتطلباته، وأن تنقله بنوع خاص إلى ابناء هذه الكنيسة، وذلك من خلال رسالتها التأملية والرسولية.
إن الرب اليوم يدعو العديد من الشباب الواعي والمثقف إلى العطاء التام في خدمة الكلمة، وقد قامت الرهبانية بتنظيم جديد لاستقبال هؤلاء الشباب حيث الإطار الرهباني الملائم مع الانفتاح على متطلبات هذا العصر، وتشمل الحياة الروحية الأصيلة، والحياة المشتركة المبنية على المحبة والعودة إلى الجذور وإحيائها، وكذلك ارسال رهبانها إلى الدراسة في الكليات والمعاهد داخل القطر والتخصص في الخارج.
لذا فأننا نهيب بشبابنا الأعزاء أن يفتحوا قلوبهم ويصغوا إلى نداء الرب والعمل في كرمه. لأن الكنيسة اليوم بحاجة إلى عطاء الشباب وخدمتهم. ان الرهبانية بحاجة إلى الانتعاش كي تأخذ دورها في الكنيسة وتهيئها لرسالتها في عالم اليوم، ونحن اليوم أبناء أولئك الرجال العظام والقديسين الذين أسسوا هذه الحياة الرهبانية، ولا تزال الحياة مستمرة بروح شبابية لا تعرف الملل والتعب ليل نهار، وان ما يزيدها ازدهاراً ونمواً أكثر هو استقبالها لدعوات رهبانية شابة مثقفة وواعية، كي تعود أديرتها إلى ماضيها وتكون مصدر إشعاع ايماني، لكل مؤمن يلجأ إليها ويقصدها.
وهي الرهبانية الرجالية الوحيدة في كنيسة المشرق الكلدو اثورية. إذاً فلنصلي من أجل الدعوات الرهبانية لكي يضع الرب في قلوب الشباب بذرة الحياة الرهبانية والشجاعة لقبول هذه الدعوات، لنطلب من مؤسس الرهبانية الربان هرمزد ومن مجددها الأنبا جبرائيل دنبو أن يقيموا لهما أولاداً آخرين شبيهين بهما قوة وإيماناً، ونطلب منهما وكلنا أمل وثقة بأن هذه الرهبانية التي قدمت مع الزمن كثيراً من الخدمات الروحية، والمادية، والمعنوية، والتضحيات بكل اخلاص وتفاني لكنيسة المشرق. أن تستمر بمعونة وشفاعة القديس أنطونيوس ابي الرهبان، وأن يزداد عدد أفرادها، وتزدهر أديرتها بالرغم من كل الصعوبات التي تنتابها في هذه
الظروف القاسية، وأن تكون دوماً حياة الكنيسة وفخرها، لأن الرهبانية هي ميزان الكنيسة، فإذا زاد وزنها نجحت وتقدمت الكنيسة وإذا قل وزنها تأخرت.
مهما يكن فان كنيسة منتعشة تتطلب رهبانية حية، وفي غياب هذه الظاهرة تفقد الكنيسة الكثير من الحيوية. لأن الرهبانية في الكنيسة هي بمثابة القلب النابض، أو الرئتين اللتين بهما تتنفس، وتستنشق النسيم العليل المنعش، والرهبانية هي مقياس حرارة الكنيسة ونشاطها الرسولي.
ايها الشباب والشابات : انظروا دعوتكم في خدمة الكنيسة، هذا ما يقوله القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس : " لأن الرب جعل بعضاً رسلاً وبعضاً انبياء وبعضاً مبشرين وبعضاً رعاة ومعلمين " وبناءاً عليه استلم الجميع دعوة من الرب يسوع المسيح، وكل منا نصيبه من النعمة بمقدار ما وهب لنا المسيح. لهذا اوجه كلامي أيضاً بالدرجة الأولى إلى الأباء والأمهات الذي لهم رسالة خاصة في الكنيسة والمجتمع. لأن العائلة تنبت فيها الدعوات الكهنوتية والرهبانية كما يؤكد ذلك المجمع المسكوني بقوله : ( ان العائلات المسيحية هي المدرسة الأولى، لبروز ونمو هذه الدعوات ).
صحيح ان مستقبل الدعوات هو بيد الله، ولكن هو بأيدينا أيضاً ونستطيع تحصيله بالصلاة إلى الله. لذا نطلب من رب الحصاد وبشفاعة القديسة مريم العذراء أم الدعوات ومثالها أن يخرج فعلة إلى حصاده، وأخيراً يقول الرب يسوع على لسان الرائي يوحنا في سفر الرؤيا : " ها أنا واقف على الباب اطرق الباب وكل من يسمع ويفتح الباب أدخل أتعشى عنده " .
أديرة الرهبانية :
1 _ الربان هرمزد ( جبل القوش )
اسس الدير الربان هرمزد ما بين ( 628 – 647 م ) أي في عهد الجاثليق ايشوعياب الثاني الجدالي.
2 – دير السيدة حافظة الزروع ( القوش )
يقع الدير في السهل المقابل لدير الربان هرمزد، وتم بنائه عام 1858م في عهد الأنبا اليشاع .
حالياً قد تم تأسيس مدرسة رهبانية للاهتمام بالأطفال الأيتام والذين ليس من يهتم بهم.
3 – دير مار كوركيس ( الموصل )
جاء في اقدم مخطوط لهذا الدير في عام 1691م، وقد أصبح ديراً قانونياً للرهبانية عام 1863م، وذلك تلبية لطلب من البطريرك يوسف أودو لإسكان راهبين وكاهن فيه، ومنذ ذلك الوقت أصبح الدير تابعاً لأديرة الرهبانية الأنطونية الهرمزدية.
4 _ دير مار أنطونيوس ( بغداد )
تم وضع حجر أساس هذا الدير عام 1967 م في عهد الأنبا عبد الأحد ربان.
5– دير مار يوسف ( روما – ايطاليا )
تأسس الدير في عام 1982م في روما ( ايطاليا ) في زمن الأنبا ابراهيم.
6 – حالياً للرهبانية ارسالية في الولايات الأميركية المتحدة
وخاصة في ولاية كاليفورنيا. في مدينة لوس أنجلوس، وارزونا وذلك لخدمة العوائل العراقية من أبناء كنيستنا الذين هاجروا من العراق.
الخاتمة :
نحن حينما نتأمل في حياة كنيسة المشرق في تلك القرون الماضية التي كانت الرهبانية قوية منتعشة. نجد الحياة الروحية قد بلغت ذروتها وأوجها من القوة المتدفقة والغيرة المتأججة، ولهذا لم تستطيع الاضطهادات مع عنفها، أن تزحزح المؤمنين عن ثباتهم ولم يفصلهم عن محبة المسيح له المجد، والمسيحية الحقة لا تعرف الأنانية، أو حب الذات. بل هي البذل والعطاء، فالرهبانية من هذا المنطلق، هي نشاط دائم دؤوب وعمل مثابر، وجهاد مستميت، لا يعرف الكلل والملل في سبيل نشر البشارة. متخذة من السلوك القويم مثالاً يحتذي لكل المؤمنين.
واستجابة لدعوة الله اعتنق الرهبان المشورات الإنجيلية، وعزموا عزماً ثابتاً على التزام العيش لله وخدمة الآخرين، فنذروا حياتهم كلها لخدمته وخدمة كنيسته المقدسة، وهذا يعني تكريس أنفسهم بنوع خاص للوصول بشركة الحياة إلى كمال اشمل هذا يقتضي ممارسة الفضائل وتعزيزها، ولا سيما إتمام نذور الطاعة، والعفة والفقر، وسائر الفضائل كالتواضع، والمحبة الأخوية، والصبر، وهذه النذور الثلاثة والفضائل هي التي تجعلهم بالروح شركاء في حياة المسيح، وتتيح لهم أن يسيروا وراءه ويسمعوا كلامه، ويهتموا بما هو يريده.
لهذا السبب اتخذ الرهبان لمعيشتهم ودعوتهم اماكن نائية منعزلة مستعصية، ولكن الناس رغم كل الصعاب كانوا يقصدونهم للاستماع إلى مواعظهم وارشادهم، وكانت رائحة حياتهم الزكية وسيرتهم النقية، تعطر سائر ارجاء المعمورة، فتدفع المؤمنين إلى الاقتداء بقداستهم والتمثل بايمانهم، وكان يلجأ إليهم في الأديرة الكثيرون من المتعبين وثقيلي الأحمال. كي يجدوا فيهم وسيلة لأراحتهم من اتعابهم.