ذِكريَاتْ مَوْصلِّيَّة .... إخوة بالرضاعة
إستكمالاً للمقال السابق ، وما ذكرتُ فيه من مزايا جميلة لزمن الطفولة التي عشناها معاً ؛ نحن أبناء العوائل المسيحية والمسلمة المتجاورة في معظم مناطق الموصل القديمة ، وقد كانت تلك حقيقة من حقائق الحياة الإجتماعية التي لايختلف عليها إثنان ممن إختبروا وعاشوا تلك الأيام في تلك المناطق . حتى أصبحت تلك المزايا جزءاً لايتجزأ من ميّزات الإنسان الموصلِّي الأصيل !! . ( لكن ذلك أُستُهدِف في الصميم مع شديد الأسف ) !!!!! .ولاتزال الذاكرة تسعفني في سرد بعض الحقائق والذكريات الرائعة للتعايش الطيب والنظيف المتبادل مع الآخرين ،حيث أتذكر تلك السيدة الفاضلة عندما كانت تدخل بيتنا حاملةً لطفلها الرضيع وهو يبكي دون توقف ، وكان بكاؤه يؤلمني !!! ، فأسمعها تنادي أمي وتطلب منها أن ترضعه لأنه لم يشبع من حليبها ، فتقوم أمي في الحال بإحتضان الطفل كما كانت تفعل مع أخي المولود حديثاً ، ثم تُرضعُه بكل حنان ورقــّة حتى ينقطع عن البكاء ويسـتغرق في نومه الهادئ ، عندها تأخذ الجارة الحائرة !! طفلها وهي سعيدة لهدوءه وسكونهِ ! أما أمي ( رحمها الله ) فقد كانت تملؤها نشوةُ من الفرح لأن محمود شبع من حليبها !!!! .
كان ذلك المشهد يتكرر بإستمرار بين سيدات وأمهات المحلة ، وقد تبادلنا جميعاً دون استثناء الرضاعة منهن ، فكان وحسب غذاءً للصحة والأصالة والوفاء . ولما كبرنا عرفنا تلك الحقيقة الرائعة عندما قالت لنا أمنا في أحد الأيام : إننا اليوم سنفرح مع إخوتكم الذين نجحوا مثلكم في المدرسة ، وأتذكر إنها إشترت لنا ولهم قناني ( المشـن ) بمناسبة النجاح ، ثم قدّموا لنا ( الكريمة ) أي الموطا ، والجكليت ، بعد ذلك سألت أمي ؛ لماذا تسمينا نحن وأولاد الجيران إخوة !! ؟؟ فأجابت بعد صمتٍ قصير ؛ إنكم جميعاً ياأولاد إخوة بالرضاعة لأن الكل قد رضع من حليب البعض في طفولتكم !، وبحسب التقاليد يصبح الطفل أخاً لكل من رضع حليبه .... وهكذا وبالعودة للمقال السابق فإنه ليس بالخبز والملح وحده أصبحنا أهل وأحبة ؛ إنما الحليب الذي رضعناه في الطفولة من أمهات إخوتنا وأخواتنا كان الأساس في تلك العلاقة الرصينة والمتميزة التي ارتبطنا بها مع أولئك الناس الشرفاء والبسطاء ، حتى أصبحت لتلك العلاقة ديمومة لاتُمَّحى !! ، فبالرغم من ابتعادنا الواحد عن الآخر لكننا لانزال نشتاق ونتلهف ونقلق على بعضنا وعندما نلتقي في مكان ما فإننا نكون كمن يلتقي بأخيه فعلاً !! وذلك هو حال وشعور الآلاف من الناس الطيبين ممن عاشوا وأختبروا تلك الأيام والأحداث الطيبة والبسيطة !! .
تلك كانت صورة مشرقة من صور أهلنا وأحبتنا في مدينتنا ( الموصل الحدباء) ، وذلك ما يدعونا للفخر والإعتزاز ماكانت عليه تقاليدهم وعاداتهم في تعاملهم مع جيرانهم بغض النظر عن الخصوصيات والإنتماءات الدينية أو القومية أو الطائفية ( تلك التي برزت اليوم على ارض الوطن للأسف !!) ، فلم يفرقوا بين حليب المسلمة أوحليب المسيحية ( المهم إنه كان حليبا طاهراً ) ، كما لم يفرقوا بين زاد وطعام هذا أو ذاك فكله ( نعــمــة ) !! ولم يفرقوا بين أولاد وبنات المحلة فكلهم (اولاد حلال وخليفة صالحة ) .... الكل إخوة بكل ماتعنيه الأخوّة من معنى ، والكل أهل يحب ويحترم ويصون ويدافع عن الآخر . فتشكلت بذلك لوحة رائعة ، لزمن رائع ، ولأناس في غاية الروعة لايزالون الى اليوم يحتلون الذاكرة وهكذا ستبقى . ولن تتمكن بإذن الله تلك الأيادي المشبوهة والأفكار الصفراء من أن تزعزع ذلك البنيان ، لأن أساسه أصــــيل ... ونبعه نقــــــي .... وبناؤه طاهــــر .
على ذلك الأساس فليكمل إخوتنا أصحاب القرار ؛ بناء الوطن ( كل الوطن ) كلُّ في مجاله ، وهي دعوة صادقة لإعادة النظر في بعض المواقف والآراء وتصحيحها بالإتجاه الذي يخدم مسيرة ومصلحة أبناء شعبنا المسيحي في هذه الفترة الحرجة من حياة الوطن .... وليطمئن أصحاب النوايا السليمة والصادقة من القادة السياسيين والروحيين أن لاخوف من المستقبل لأن الآباء شيدوا البناء على الصخر لا فوق الرمال !!!! .
صباح سليمان كويسا مالبورن / استراليا