رأي في الحكم الذاتي والشعب الكلد-آشور-السريان في العراق
يحتدم النقاش حول موضوعة الحكم الذاتي للشعب الكلدو - اشوري - السرياني في العراق ويتخذ أبعاداً جديدة وبدأ أخيراً يلحق أضراراًً فادحة بمواطنات ومواطني هذا الشعب دون أدنى مبرر وبما يسيء إلى علاقتهم مع الشعبين العربي والكُردي في آن واحد دون أن يكون لبنات وأبناء هذا الشعب دور في كل ذلك.هناك جملة من الحقائق التي لا بد من ذكرها لكي نكون على بينة مما نريد ودراية بما يمكن أن يقود إليه رفع شعار الحكم الذاتي أو العواقب المحتملة التي يمكن ان تترتب على الشعب الكلدي الأشوري السرياني في العراق خلال هذه الفترة والفترة القادمة.
فهذا الشعب المتعدد القبائل في تكوينه الأساسي نزح إلى العراق القديم منذ أكثر من ألاف السنين وأقام دوله المركزية في شمال العراق وكردستان وكذلك في وسط وجنوب العراق. فالآشوريون هم الخلف للشعب الآشوري والدولة الآشورية في آشور والحضارة الآشورية, والكلدانيون هم الخلف للشعب الكلداني والدولة الكلدية التي أقيمت في بابل والحضارة البابلية, ولغتهما المشتركة الأساسية هي الآرامية ومنها السريانية. وبالتالي, فهم من أصل البلاد ولهم الحق في العيش والإقامة في كل العراق القديم والحديث بحدوده الحالية الاتحادية من أقصاه إلى أقصاه. وهم الآن موزعون على العراق فعلاً. فهم في البصرة وبغداد والناصرية والعمارة, ولكنهم أيضاً في نينوى ودهوك وأربيل والسليمانية. وأسماء المدن التي عاشوا فيها أو أقاموا دولهم عليها لا تزال وستبقى تذكرنا بهم بغض النظر عن محاولات تغيير بعض تلك الأسماء التي يفترض أن نعتز بها ونحترم التاريخ الذي ارتبط بهذه المدن. وفي حينها تضافرت القبائل الكلدانية مع القبائل الميدية, التي يعود الشعب الكردي ببعض قبائله إليها, لإسقاط الدولة الآشورية, ومنها انبثقت المملكة الميدية من جهة, والمملكة الكلدية من جهة أخرى, على أنقاض الدولة الآشورية, وكان ذلك في العام 612 ق.م.
فالشعب الكلدي – الآشوري _ السرياني له الحق في العيش في كل العراق ويفترض أن يكون العراق كله مفتوحاً عليه وله الحق في العيش حيثما يرغب.
وهذا الشعب الكريم والمعطاء موزع اليوم في العراق الاتحادي وفي إقليم كُردستان باعتباره جزءاً من الدولة العراقية الاتحادية. بعض هذا الشعب يعتبر ضمن الدولة العراقية الاتحادية, وبعضه الآخر يعتبر ضمن فيدرالية إقليم كُردستان العراق. وبعض هذه المناطق أو الأقضية والنواحي والأرياف نشأ خلاف على واقعها الجغرافي منذ سنوات طويلة وكلنا يعرف أسباب هذا الخلاف وأدوار الحكومات الرجعية والاستبدادية المتعاقبة في نشوئه: هل تقع ضمن حدود إقليم كردستان, أم ضمن حدود نينوى باعتبارها جزءاً من القسم العربي من العراق؟ والمناطق التي يعيش فيها المسيحيون هي موزعة حقاً ضمن حدود الدولة الاتحادية وبعضها الآخر ضمن حدود الإقليم الذي يعتبر ضمن الدولة العراقية الاتحادية. وهنا تنشأ المشكلة التي لا بد أن تثير القلق والمخاوف لدى الناس القاطنين في هذه المناطق , خاصة وأنهم لم يشاركوا في خلق هذه المشكلة ولا هم يشكلون عاملاً في الصراع الدائر, ولكن لهم حقوق قومية وإدارية يفترض الاعتراف بها وممارستها.
حين كنت أتابع برنامج في قناة عشتار الفضائية قبل ثلاث سنوات تقريباً شاهدت برنامجاً خاصاً لمقابلة مع رئيس إقليم كردستان العراق السيد مسعود البارزاني. وكان مقدم هذا اللقاء هو السيد مدير عام قناة عشتار حينذاك, طرح على السيد رئيس الإقليم سؤالاً لم يكن معهوداً عن رأيه بإقامة حكم ذاتي للشعب الكلدو-أشوري في العراق. فوجئ السيد رئيس الإقليم وقال له بأنه لم يفكر بهذا الموضوع قبل ذاك. وكان, كما بدا لي, صادقاً وواضحاً في قوله. ولكن كان هناك من يقف وراء هذا السؤال, إنه المالك لهذه القناة, إذ كنت قد خدعت بمالكها قبل ذاك واعتقدت بأنهم ممولون كلدان من الولايات المتحدة, في وقت كان السيد سركيس أغا جان هو المالك وهو الممول وهو الموجه للقناة وبرامجها, وكان في حينها نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للمالية في إقليم كردستان العراق في أربيل! وقد فوجئت أنا أيضاً بذلك السؤال. وحين تسنى لي اللقاء بالسيد مدير عام القناة قلت له بأن هذا السؤال لم يكن في محله وكان محرجاً ومضراً في آن واحد وسيخلق مشاكل إضافية في العراق وتمنيت عليه أن لا يكرره لأنه لا ينسجم مع مصالح الشعب الكلدو- أشوري-السرياني ولا مع ظروف العراق الراهنة. وقد أدركت في حينها وبوضوح كبير أنها قنبلة موقوتة ستساهم في خلط الأوراق وأنها في كل الأحوال ليست في مصلحة الشعب الكلدو اشوري وستثير ألف مشكلة ومشكلة بين العرب والكُرد, وسيكون السكان المسيحيون ضحيتها الأولى.
وقد كف فعلاً السيد مدير عام قناة عشتار عن التطرق لهذا الموضوع, إذ كان قد أدرك مخاطره قبل ذاك, ولكنه كان ملزماً بطرح السؤال, كما أنه لم يبق طويلاً في منصبه, إذ لم يرق لممول القناة السكوت عن هذه المسألة, كأحد عوامل الفراق المفاجئ بين الاثنين.
السياسة علم وفن في آن واحد, وهي في الوقت نفسه تجسد مصالح هذا الطرف أو ذاك. وأن طرح مثل هذا الشعار وفي ظل الأوضاع الراهنة والصراع على المناطق لا يساعد في تهدئة الأمور وحل المشكلات بل يزيدها تعقيداً وصعوبة وشظاياها تصيب المسيحيين قبل غيرهم, إذ أن السؤال الأول الذي سيطرحه العرب والكُرد هو: أين سيكون الحكم الذاتي ضمن حدود الدولة الاتحادية أم ضمن حدود الإقليم في إطار الدولة الاتحادية؟
الجواب الذي أدلى به السيد سركيس أغا جان حين وجه له هذا السؤال هو: أننا سنقرر ذلك بعد الحصول على الحكم الذاتي! ماذا يعني ذلك؟ كان ولا زال يعني إما إلى الحكومة الاتحادية أو حكومة الإقليم, وكان الموقف بالنسبة للعرب والحكومة الاتحادية واضحاً أنه يريد الالتحاق بحكومة إقليم كردستان, وهو ما أثار قلق العرب في نينوى وفي القسم العربي من العراق, وكذلك عند الإسلاميين السياسيين العرب, مما خلق مشكلات إضافية للمواطنات والمواطنين المسيحيين في العراق عموماً وفي نينوى على نحو خاص. ولست واثقاً من إن هذا الجواب قد أثار الارتياح لدى القيادة الكردية التي تسعى إلى حل المشكلات العالقة قبل زيادة التعقيد فيها, إذ أن السيد سركيس أغا جان قد طلق غباراً شديداً شوه اللوحة, كما أرى, التي يفترض أن تبقى ناصعة من أجل حل القضايا العالقة.
إن العراق الديمقراطي الذي نسعى إليه يفترض أن يوفر الحقوق القومية الثقافية, ومنها الحريات الدينية واللغة, للشعب الكلد-أشوري-سرياني على صعيد العراق كله, وأن يمنح هذا الشعب حقوقه الإدارية ضمن الوحدات الإدارية التي يعيش فيها. كما أن من الممكن أن تشكل لجنة عليا على مستوى الوحدات الإدارية للتنسيق بين هذه الإدارات سواء أكانت تلك الوحدات الإدارية في حدود الإقليم أم في حدود العراق الاتحادي العام. إنه الحل الأمثل للمرحلة الراهنة وأتمنى على الأخوات والأخوة أن يتمعنوا فيه. فالهدف هو تأمين الحقوق الثقافية والإدارية بما يتناغم والديمقراطية المنشودة للعراق الجديد المنشود.
في مكالمة هاتفية أجراها السيد سمير اسطيفو شبلا نشرت في موقع شبكة زهريرا الإخبارية قال الأسقف الدكتور لويس ساكو بشأن الحكم الذاتي في المرحلة الراهنة ما يلي:
"في البداية إنني احترم جميع الآراء، إن كانت مع الحكم الذاتي اليوم أم لا، لأنهم حقاً غيورين على شعبهم المسيحي، ولكن من جانب آخر حقاً وقعوا في نفس الفخ المنصوب لنا ككلدان وكمسيحيين، وذلك بـ:
إنني قلت حرفياً إن الحكم الذاتي اليوم هو وهم وفخ، واعني بذلك كلمة "اليوم" أي أن الظروف الذاتية والموضوعية لم تنضجا بعد "اليوم" للمطالبة بالحكم الذاتي".
لقد صرفت حتى الآن الملايين من أجل الدعاية والترويج لهذا الشعار, وكان الأفضل أن توجه هذه الملايين للعناية بأوضاع المسيحيين على صعيد العراق كله بدلاً من أن تساهم في ما أطلق عليه السيد ساكو بالفخ والوهم.
أتمنى على الأخوات والأخوة أن يتمعنوا في هذا الرأي المنطلق من حس وطني وقومي في آن يحرص على سلامة وحقوق ومصالح هذا الشعب في المرحلة الراهنة وعلى المدى اللاحق.
25/4/2009
كاظم حبيب