رحلة إستيقاظ المشاعر القومية خلال الأعوام الماضية
لايخفَى على كل مثقف ومتتبع لنشوء الحياة في أرجاء البستان، أن شجرة الكلدان التي كانت لعهود مضت مليئة بالثمر ووارفة الظلال، وهبت الخير والعلوم لبني الإنسان، ونشرت المعرفة في كل مكان، فكانت منهل الشرائع والتطور وأساس الرقي السائد في هذه الأيام.تحمّلت تلك الشجرة منذ قدم الأزمان أحقاد وهمجية بعض الأقوام، فإلتهم ثمارها الطيب أسراب الجراد القادم من تحت جنح الظلام. قٌطعت عن تلك الشجرة ينابيع المياه فأصابها العطش والجفاف، وعصفت بها رياح هوجاء فقدت خلالها نضارتها وكثيراً من أغصانها وأوراقها الخضراء ولكنها بقيت صامدة في العراء، فحاصرتها أدغال الغرباء وإلتفت حولها كثبان الصحراء الزاحفة من كافة الأرجاء.
لقد إقترب الفجر من البزوغ والشمس ثانية من لحظات الشروق بعد إنتظار طويل وليل بهيم حاملة معها أمال وتطلعات الكلدان ليشاركوا من جديد مع باقي مكونات شعبنا المسيحي الواحد في موكب الحضارة الإنسانية من وطنهم، وحيثما حطوا رحالهم في دول المهجر وإستوطنوا، وأينما وجدوا فرصة سانحة وفي كل مدينة إستقروا، وبكل مهنة عملوا فيها وتفننوا، ليظهروا منها ذكائهم الموروث ويبدعوا، ونحو مستقبل واعدٍ لينطلقوا.
وبجهود الرجال الأوفياء وبنعمة من السماء بدأت تستعيد عافيتها لأنها ظلت تحمل في ثناياها الحب والوفاء وتختزن في عروقها ديمومة العطاء وفي جذورها أصالة البقاء، فإخضرت فروعها من جديد وتفتحت براعمها ولاحت زهور الربيع حول جنباتها فأينعت من كل الجهات، وقريباً سيكون موسم جني الثمار حين تمنح أبناءها ومن حولها الخير والإستقرار والإمان.
لقد غادرنا منذ سنوات المواقع الخلفية بهمة وعزيمة الرجال، وسرنا بخطى ثابتة إلى الأمام بثقة عالية وإطمئنان بعد أن آن الأوان، حين خرجنا من شرنقة النسيان ومزقنا تلك الخيوط اللعينة التي حاولت الإلتفاف حول أعناقنا بإحكام، وأزلنا القذى الذي كان يحجب الرؤية الواضحة عن أعيننا لما كان يُحاك ضدنا في الخفاء من قبل الغرباء وبعض الأشقاء وخاصة بعد سقوط النظام وما تلاه من حلقات وأحداث هوجاء.
لقد كانت رحلة إستيقاظ من كوابيس الماضي وإزالة مخلفات الطغيان وبداية لنهضة قومية ثقافية شاملة تقف بوجه التحديات المصيرية وتتصدى للحملات الإعلامية المضلِلة والشعارات المزيفة التي بدأت تستفز منذ سنوات مشاعر الكلدان وتحاول إلغاء وجودهم وصهر قوميتهم لتشييد قاعدة عريضة لمراكزهم وإيجاد أرض صلبة تستند عليها كراسيهم المتارجحة ليبقوا جالسين عليها أطول فترة ممكنة لخدمة مصالحهم الشخصية وتحقيق طموحاتهم غير المشروعة.
هذه الحقائق الراسخة لم ولن تتمكن كافة المحاولات اليائسة والظلال القاتمة من حجبها عن ذاكرة أبناء شعبنا لان الأمنيات تُرجمت إلى نشاطات وأفعال ونتائج ملموسة على كافة الأصعدة وأهمها تلك المشاعر الأصيلة التي أخذت تتدفق في قلوب وتنمو داخل نفوس وتتجذر في وجدان الكلدان الذين كان الكثير منهم لا يدركون إلى وقت قريب تاريخ قوميتهم ولا يعرفون حقيقة هويتهم ولا يعيرون أهمية لتضحيات أبائهم وموطن أجدادهم في بلاد ما بين النهرين، حيث كانوا يعتبرون الحديث عنها كأحلام ليلة صيف عابرة أو الجري نحو واحة سراب في صحراء قاحلة أو النفخ في جثة هامدة.
لقد إنطلقت الشرارة وإنتشرت حينما تصاعدت وتائر تأسيس الأحزاب السياسية والمراكز الثقافية والإتحادات الأدبية والجمعيات الإجتماعية والنوادي الرياضية الكلدانية في كافة المدن والدول التي يتواجد فيها أبناء جاليتنا الذين فرضوا وجودهم وإحتلوا مكانتهم المرموقة بإستحقاق من خلال نشاطاتهم الإنسانية المتميزة وإبداعاتهم المهنية وعملهم الدؤوب داخل المجتمعات التي تأقلموا فيها وتآلفوا مع أبنائها.
وعلى أرض الوطن فقد حققت منظمات شعبنا بعض الإنجازات على الصعيد القومي بإمكانياتها المادية الشحيحة ووسائلها الإعلامية المتواضعة وحركتها المُقيَدة رغم حلقات الحصار المفروضة عليها والعقبات التي وضٌعت في طريقها والأفخاخ التي نٌصبت لها، ولكن ما زال المشوار أمامها طويلاً لتحقيق الطموحات والوصول إلى برالأمان.
وكان تتويج تلك المنجزات بتأسيس الإتحاد العالمي للكتاب والادباء الكلدان الذي برز على الساحة القومية كضرورة تاريخية أملتها الظروف الإستثنائية التي مرت بنا، والأحداث المتزاحمة التي أثقلت كاهلنا والمخاطر الجسيمة التي أحدقت بمصير شعبنا. ومنذ ولادته فرض وجوده بإستحقاق وأخذ على عاتقه مسؤولية الدفاع عن هويتنا والتصدي للمخططات الرامية إلى تشويه تاريخنا والعبث بمقدراتنا.
لقد تزامن ظهور الإتحاد مع تصاعد زخم الشعور بالمسؤولية وتدفق الأحاسيس القومية في كتابات ومواقف أشقائنا الكتاب الكلدان الأصلاء، الذين شمروا عن سواعدهم وإقتحموا بأقلامهم البتّارة ساحة المواجهة بهمة عالية ونكران الذات، فعبروا عما يجول بخواطرهم ويفرضه عليهم واجبهم القومي، فكان لذلك التلاحم العفوي الدورالكبير في إيقاف زخم تلك الحملات الظالمة التي إستهدفت وجودنا في مسارات متعددة، فتساقطت أقنعة حاملي رايتها وإنكشفت حقيقة نوايا الذين يؤججونها ويرسمون مساراتها.
ولإثبات أن عجلة التاريخ تسير لصالح قضيتنا العادلة على سبيل المثال لا الحصر، كان إفتتاح المركز الكلداني في شيكاغو، ونشاطات ومساهمات منظماتنا المدنية وتنظيمات شعبنا في الدول الأوروبية مثل السويد والدانمارك وفنلندا وهنكاريا وبقية الدول الأوربية وإحتفالات ومهرجانات مؤسساتنا الإجتماعية والثقافية والسياسية الكلدانية في إستراليا والفعاليات المتميزة لأبناء جاليتنا في الولايات الأمريكية، والمسرحيات الناجحة التي عُرضت في كاليفورنيا وديترويت بلغتنا الجميلة والعمل المتواصل في بقية الولايات والدول الأخرى، إضافة إلى الجهود المبذولة لبناء علاقات ثقافية وإجتماعية متوازنة بين تنظيمات ومؤسسات شعبنا والشخصيات والأحزاب والمنظمات المختلفة في الدول التي تتواجد فيها جالياتنا.
أما قمة الإنجازات الأخيرةً فكان إنعقاد المؤتمر الكلداني العام في سان دييكو في 30/3/2011 الذي حقق الحلم الذي كان يراودنا منذ سنوات، فكان حقاً بالرغم من بعض السلبيات التي رافقته، بمستوى الآمال التي عُقدت عليه والطموحات المشروعة لنتائجه والتي ظهرت جلياً بتأسيس المجلس الكلداني العالمي والذي إنبثق عنه المعهد الكلداني الأمريكي في أميركا وغداً في بقية الدول والقارات، واخيراً وليس اخراً عقد مؤتمر النهضة الكلدانية في السويد 15/10- 19/10- 2011، وما حققه من إنجازات كبيرة على الصعيد الإعلامي والسياسي والقومي لدى الحكومة السويدية وكافة المؤسسات الاخرى.
حتى على المستوى الفني، فقد برز فنانون ومطربون وملحنون وشعراء كلدان أثبتوا وجودهم وإستحوذوا على إعجاب أبناء شعبنا بهم وإحترامه لهم، فاظهروا مزيداً من قدراتهم وإبداعاتهم الخلاقة في هذا المجال الذي كان حكراً على غيرهم فأخذوا ينشدون أغانيهم التراثية بلغتنا الكلدانية الجميلة بكلماتها المحببة وألحانها الرائعة التي يفوح منها الحنين إلى ذكريات الماضي وحكايات سنوات الطفولة وأيام الشباب، لتثير الشجون في النفوس وتمتزج مع الدماء في شرايين القلوب. لذا بدأت الدعوات تنهال عليهم لإحياء حفلات في كل مدينة ودولة ومكان تتواجد فيها جالياتنا، وأمست أسماؤهم على كل لسان مع من سبقوهم من الرواد: هيثم يوسف ويوسف عزيز وغيرهم، والجيل الجديد من رواد الفن الأصيل وسفراء شعبنا، رسل الألفة والمحبة والوئام، إنهم : جنان ساوا، ماجد ككا، مناضل تومكا، خيري بوداغ، عصام عربو، طلال كريش، رافي كمال، إيفيل دكالي، فريد هومي، وضاح، عدنان منصور، عميد أسمرو، عايد بوداغ، نسيم صاحب، رامي تومكا، باسل شامايا، لؤي حاني، ليث يوسف، نسيم صفار، لؤي يوسف، سلام ككا، سحرالسناطي ،مؤيد ، تغريد أسمرو، عصام ساوا، سوسن كيزي، وسام العراقي وأسامة زكريا. أعتذر لمن لم يُذكر لي إسمه، ومعذرة لطريقة ورود الأسماء لأنكم جميعاً مبدعين بنظر أبناء شعبنا.
أما كبوة فارس هنا أو تعثر إنطلاقة هناك فهي حالة طبيعية في كل مسيرة مضنية ولكل أمة مضطهدة تريد أن تنهض من جديد لتجمع شتاتها وتستعيد عافيتها.
وبمناسبة حلول أعياد الميلاد المجيدة ورأس السنة المباركة، وبالرغم من كل المعاناة والتضحيات ودماء الشهداء التي سالت على أرض الوطن، سيبقى نورالمسيح سراجاً ساطعاً ينير لنا طريق الخير والحق والحياة ليترسخ الإيمان في قلوبنا ونظل نتمنى السلام والرجاء الصالح لبني البشر من أعماقنا. وسنبقى نردد مع كل شمعة تُوقد لأعياد الميلاد بحنان وفي كل ترنيمة تُنشد من قبل أطفالنا في كنائسنا بمحبة ووئام، وعند شروق كل أشعة شمس تغمرنا بدفئها وعطائها كل صباح، ومع هطول كل قطرة مطر فوق ربوعنا وتساقط كل حبة ثلج في دروبنا، ومن خلال كل فرحة نعيشها ونحن نقيم إحتفالاتنا..... لنقول لشعبنا المسيحي الطيب في الديار وفي دول المهجر، ولرؤوساء ورجال كنائسنا ولأهلنا المبعثرين في أصقاع الدنيا ولمن حولنا : كل ميلاد جديد لطفل المغارة في نفوسنا، وأنتم وعوائلكم تنعمون بالصحة والإستقرار والأمان في بيوتكم والمحبة والإيمان في ثنايا قلوبكم، وليبارك الرب حياتكم.
25 / 12 / 2011