Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

رحلة إلى بغداد بعد 30 عاماً

تلبية لدعوة كريمة من معالي وزير الدولة لشؤون الحوار الوطني، الأستاذ أكرم الحكيم، لعقد ((الملتقى الفكري الأول للنخب العراقية))، قمت أخيراً بزيارة بغداد الحبيبة بعد غياب دام أكثر من 30 عاماً. وقد ضم الملتقى عدداً من المفكرين والسياسيين العراقيين في الداخل والخارج، وعقد في فندق بغداد التاريخي المعروف، لمدة يومين، 4 - 5 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، والغرض منه هو تقديم البحوث والدراسات حول:

- المصالحة الوطنية،

- الأزمة العراقية بشكل عام، أسبابها ومحاولة إيجاد الحلول الناجعة لها،

- أزمة الهوية الوطنية العراقية،

- تأثيرات الأيديولوجيا على الرأي العام..



وقد وجدت في هذه الدعوة فرصة مناسبة وفرتها لنا الوزارة، للمشاركة في الحوار حول الأزمة العراقية ومحاولة تشخيص العلة الأساسية، وإيجاد الحلول لها مهما كانت هذه المشاركة متواضعة، وكذلك للإطلاع على الأوضاع عن قرب وليس فقط من خلال الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام.

كان الملتقى ناجحاً ومثمراً، تم فيه تقديم البحوث والمناقشات عبر ثلاث جلسات يومياً وعلى مدى يومين، وفي كل جلسة تم تقديم ثلاثة بحوث مع مناقشات الحضور للمحاضر بعد تقديم الورقة. كما وحضر الجلسات عدد من القادة السياسيين، ففي الجلسة الصباحية في اليوم الأول، حضر كل من الأستاذ حميد مجيد موسى، زعيم الحزب الشيوعي العراقي، والأستاذ علي الأديب، القيادي في حزب الدعوة، وعدد من الشخصيات الأكاديمية من الجامعات العراقية.



كما وحضر الجلسة الصباحية في اليوم الثاني، فضيلة الشيخ همام حمودي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، والذي تفضل مشكوراً بتنظيم أمسية (دعوة عشاء) لنا في مقر سكناه، دعا لها عدداً كبيراً من البرلمانيين، فجرى لأول مرة من نوعه، لقاء بين مجموعة من المثقفين والسياسيين من مختلف الاتجاهات، دار فيه حوار حضاري بنّاء بين الجانبين، وبروح رياضية عالية وفهم عميق، حول أزمة الهوية العراقية، وهل هناك تناقض بين الهويات والانتماءات الثانوية مع الهوية الوطنية العراقية والولاء للوطن. وفي هذا اللقاء طرح فضيلة الشيخ همام حمودي على الحضور السؤال التالي: (على من تقع المسؤولية أكثر، هل الدولة تصنع وحدة المجتمع، أم وحدة المجتمع تصنع الدولة؟). والجواب على هذا السؤال المهم يستحق مقالاً مستقلاً سأكتبه لاحقاً.



وقبل اللقاء في مكتب الشيخ حمودي، نظم لنا في مساء نفس اليوم لقاء مع دولة رئيس الوزراء الأستاذ نوري المالكي، الذي رحب بنا بكلمة معبرة "ثمَّن فيها بجهود ودور المثقفين والفكر والخطاب الثقافي في بناء المجتمع العراقي وترسيخ أسس وحدته الوطنية وأشار إلى أن نهج الدولة الثابت الآن هو دعم حرية الفكر وتنمية الثقافة وصولاً إلى بناء العراق الجديد ليكون مصدراً للفخر والاعتزاز" كما وتبادلنا مع سيادته الأفكار بصراحة وبروح من المسؤولية العالية، وكان الرجل مرحباً ومشجعاً للنقد البناء، وواعداً بالخير، وانطباعي عنه أنه الرجل المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، يستحق الدعم خاصة والعراق يمر في فترة عاصفة من تاريخه.



وقد لمست من خلال المناقشات، سواءً خلال جلسات الملتقى الفكري التي أدارها معالي الوزير بنفسه وبمهارة عالية، أو اللقاء في دار الشيخ همام حمودي، أن هناك تطوراً كبيراً حصل في تفكير وموقف العراقيين نحو الأفضل، وخاصة في روح التسامح وموقفهم من الآراء والأفكار المختلفة، وكيفية التعامل معها برحابة صدر، والتحاور بأسلوب حضاري، رغم أن اللقاء كان يضم أناساً من مختلف الانتماءات والاتجاهات الفكرية والسياسية، بينهم الإسلامي واليساري والقومي والليبرالي، ورجل الدين المعمم والمرأة البرلمانية السافرة...الخ. لا شك أن هذه اللقاءات والحوارات قد مدتنا بمواد كثيرة جديرة بالكتابة والنشر.



الوضع في بغداد

يشعر الإنسان العراقي بشعور خاص وهو يهبط من الطائرة ويضع قدمه على أرض مطار بغداد لأول مرة بعد 30 عاماً من الغياب، خاصة وقد ملأ خصوم العراق المحرر أنه عبارة عن خرائب وأنقاض وشر مطلق ولا أمل في إصلاحه!!!. دخلنا المطار فوجدته نظيفاً وجميلاً وكل شيء فيه حديث، مجهزاً بالأجهزة الإلكترونية من كومبيوترات وكاميرات وغيرها. كذلك رأيت الشرطة وكافة العاملين في المطار ودودين وبشوشين مرحبين دون أي انفعال أو تمثيل. لم أفقد حقيبتي كما يحاول البعض تصوير مطار بغداد بأنه مليء باللصوص يسرقون حقائب المسافرين ليبيعونها في المزاد العلني، هذا ما قرأت قبل أيام في رسالة إيميل، الأمر الذي دفعني لكتابة مقال عن هذه الافتراءات المغرضة سأنشره قريباً.



كنا ثلاثة، الدكتور فاروق رضاعة والدكتور إبراهيم الحيدري وأنا، فبعد ختم جوازاتنا من قبل شرطة الهجرة، دخلنا قاعة الاستقبال فوجدنا الأستاذ باسل الموسوي، المستشار في وزارة الدولة لشؤون الحوار الوطني، في استقبالنا. فكان لقاءً حاراً حافلاً بالمشاعر الأخوية النبيلة. ومن المطار إلى فندق بغداد، لم نواجه أية صعوبة. وفي الطريق شاهدنا مظاهرة احتجاجية لمجموعة من المتقاعدين يطالبون بحقوقهم، وهي علامة خير تشير إلى توافر الحرية في هذا البلد المحروم من الحرية قبل 2003. الخدمات في الفندق جيدة، وكذلك قاعات الاستقبال والمطعم والقاعة التي عقد فيها الملتقى. كل شيء على ما يرام .



كان بعض الزملاء يغادرون الفندق بعد الجلسات المسائية للملتقى الفكري، فيذهبون فرادى أو جماعات، لزيارة ذويهم وأصدقائهم والتجوال في شارع السعدون وأبي نؤاس وغيرهما ولم يعودوا إلا بعد الحادية عشر ليلاً، دون أية مشكلة أمنية.



وبعد الانتهاء من جلسات الملتقى، أي في اليوم الثالث، كان يوم تجوال حر في شوارع بغداد، فوجدت الشوارع مزدحمة بالسيارات الجديدة والقديمة، الأسواق مزدحمة بالناس، والمحلات بالبضائع، الحياة عادية، الناس بخير، لم تكن معنا حماية ولا أي مسلح. كما تجولنا في شارع المتنبي بكل حرية حيث الأرصفة العريضة مغطاة بآلاف الكتب. الوجوه ليست عابسة كما صورها لنا البعض. وتناولنا سمك المسقوف في أحد مطاعم شارع أبي نؤاس.



بالطبع ليس كل شيء على ما يرام، إذ هناك الكثير من العوارض الإسمنتية في الطرقات الجانبية للتخفيف من سرعة السيارات، وكذلك الجدران الكونكريتية العازلة لحماية الأبنية والمؤسسات من تفجيرات الإرهابيين، فالبلاد في حالة حرب مع الإرهاب، والناس والمسؤولون مستهدفون، فهذه إجراءات احترازية فرضتها الضرورة. كذلك هناك حفر كثيرة في الأرصفة تحتاج إلى ترميم، وبعض الأزبال هنا وهناك، ولكن في نفس الوقت أعمال البناء والترميم جارية.



الأخبار السارة لا تسر

لا شك أن العراق وبعد كل هذا الخراب، يمر في مرحلة عصيبة جداً، يواجه أعداء شرسين لا يريدون له الخير، وهم فلول البعث المقبور وحلفاؤهم من أتباع القاعدة، وبعض دول الجوار التي تسعى لإفشال العملية السياسية خوفاً من وصول عدوى الديمقراطية إلى بلدانهم.



لقد أدمن حزب البعث على حكم العراق بالقبضة الحديدية، وفجأة خسر هذا الحكم، لذلك لا يبالي من أجل استعادة حكمه أن يدمر العراق بكامله، وقد قال صدام حسين عندما اغتصبوا السلطة عام 1968، "أن الذي يحكم العراق من بعده سيلقاه أرضاً بلا بشر". وقد كسب البعثيون خلال 35 سنة من حكمهم الجائر خبرة واسعة ليس في التدمير والتفجير فحسب، بل وفي تضليل الرأي العام وبمختلف الوسائل الشيطانية الخبيثة، وذلك برسم صورة كارثية عن العراق الجديد والمبالغة في السلبيات، واختلاق المزيد منها بنشر الأكاذيب والافتراءات وتصوير الحالة وكأن عهد البعث كان جنة النعيم، والعراق الجديد هو الجحيم بعينه، ولا أمل مطلقاً في الخلاص من هذا الجحيم إلا بعودة حكم البعث!! ومع الأسف الشديد انطلت هذه الافتراءات والأكاذيب على الكثير من الناس الطيبين، فصدقوا كلما تنشره ماكنة البعث الإعلامية وأعداء العراق الجديد. بل وصار البعض يتضايق حتى من الأخبار الجيدة عن العراق، فإذا ما ذكرت بعض الأخبار المفرحة عن العراق اتهموك بأنك تدافع عن الحكومة وأنك صرت من مثقفي السلطة!!! ففي رأيهم يجب تأييد وترويج كل ما ينشر من سلبيات وافتراءات.

لقد استفاد البعثيون وغيرهم من أعداء العراق من تفشي هذه النزعة السلبية بين العراقيين فراحوا يلفقون المزيد من الأكاذيب ضد العراق الجديد، مما ساعدهم على تشويه صورة العراق وتهييج الرأي العام ورفد تنظيمات الإرهاب.



الوطنية والعداء للحكومة

كما ذكرت في مناسبات سابقة، أنه نظراً لمعاناة الشعب العراقي من مظالم حكوماته المتعاقبة عبر قرون، صار العداء للسلطة جزءً مهماً من مورثه الاجتماعي، مستقراً في عقله الباطن، إلى حد أن صار العداء للحكومة والوطنية شرطان متلازمان ووجهان لعملة واحدة. بل وصار عند البعض أنه حتى لو قدمت الحكومة أعمالاً جيدة لخدمة الشعب، فالمطلوب من المثقف أن يفسرها سلباً ويجرد الحكومة من كل فضيلة ويحولها إلى رذيلة، وإذا ما أثنى المثقف على الحكومة فهذا يعني أنه تم تدجينه وصار مثقف السلطة.



نعم، النقد من أهم واجبات المثقف، ولكن يجب على المثقف أن لا يفقد الرؤية فيرى كل شيء بالمنظار الأسود. علينا كمثقفين أن ننتقد أخطاء المسؤولين نقداً بناءً و بلا تردد، وأن نضع البدائل الصائبة، وفي نفس الوقت يجب علينا أن نشيد بالأعمال الجيدة، وإلا أحرقنا الأخضر بسعر اليابس، وساوينا بين الخير والشر. وهذه النزعة تحمل في طياتها مخاطر تدمير الذات.



إن سبب سخط معظم الأخيار من العراقيين الديمقراطيين على السلطة الحالية هو كون معظم أعضاء الحكومة من الأحزاب الإسلامية، وأن هناك معممين يمارسون السياسة...الخ. نسي هؤلاء الأخوة سامحهم الله، أن هذه المرحلة حتمية لا بد منها، وأن هذا المد الإسلامي هو موجة تجتاح العالم الإسلامي كله، والتخندق الطائفي في العراق هو لأن في العراق سنة وشيعة، وهو رد فعل للاضطهاد الطائفي الذي مارسه نظام البعث الجائر. كما ونسي هؤلاء أن الإسلاميين وغير الإسلاميين في السلطة، شئنا أم أبينا، جاؤوا عن طريق انتخابات حرة وعادلة شهد بنزاهتها مراقبون دوليون.



إن سبب سخط هؤلاء على ما تحقق لحد الآن هو أنهم على عجلة من أمرهم، يريدون القفز بالعراق من نظام البعث الجائر المتخلف إلى ديمقراطية ناضجة بمستوى الدول الغربية المتقدمة بين عشية وضحاها، وهذا مستحيل. ذكرنا مراراً، أن الديمقراطية لا تولد متكاملة، بل تبدأ ببعض الحقوق ثم تنمو تدريجياً، أي أنها عملية تراكمية تستغرق وقتاً. والمهم هنا أن العراق تحرر من أكبر عقبة كأداء أمام الديمقراطية، فرحلة الألف ميل بدأت بالخطوة الأولى وتبعتها خطوات، والواجب علينا رعاية ما تحقق لحد الآن، والنضال من أجل تكامله لا هدمه، وكل من سار على الدرب وصل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقرير مع صور للملتقى

http://www.hdriraq.com/modules.php?name=News&file=article&sid=2353

Opinions