Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

رحلة حج إلى أبرشيات كنيسة المشرق المنسية " الجزء الأول "

المقدمة: شاء صاحب السيادة مار أنطوان أودو مطران أبرشية حلب والجزيرة العليا الكلدانية زيارة مراكز الأبرشيات الكلدانية في شرق تركيا للإطلاع على ما تبقى من هذه الأبرشيات العريقة والشهيرة في تاريخ كنيسة المشرق الكلدانية. وبعد التفكير والتحضير لمسار هذه الرحلة قرر سيادته أن تبدأ يوم الاثنين المصادف 12 حزيران 2006 وتنتهي يوم الجمعة المصادف 16 حزيران 2006.

وقد شملت الرحلة أبرشيات: نصيبين والجزيرة العمرية بازبدي وسعرت وآمد ديار بكر وماردين، القلب النابض لكنيسة المشرق الكلدانية حتى بداية القرن العشرين، والتي كانت تضم أكثر من مائة قرية موزعة حول المدن المذكورة. ناهيك عن النيابة البطريركية في وان [1] قرب حدود أرمينيا، حيث لم توضع في برنامج الزيارة بسبب البعد ووعورة الطرق والأوضاع الأمنية الغير مستقرة هناك، والتي كانت تضم العشرات من القرى في جبال هكاري [2] الأشم.

وبعد مذابح السفر برلك [3] التي ارتكبت بحق المسيحيين سنة 1915 أبيدت هذه الأبرشيات والقرى التابعة لها عن بكرة أبيها، واستشهد عشرات الآلاف من مؤمنيها بما فيهم ثلاثة مطارنة وعشرات الكهنة، ودمرت كنائسها وأديرتها ومدارسها. وهرب المتبقين إلى العراق وسوريا ولبنان تاركين الغالي والثمين في سبيل الحفاظ على حياتهم وإيمانهم. نعم تركوا أرض الآباء والأجداد، أولئك الأبطال الذين عاشوا على هذه البقعة من الأرض عقوداً وقروناً طويلة، كافحوا الظلم والطغيان ببسالة وشجاعة مدى الأيام، فسقوها بالدماء الزكية بسخاء، لذا عرفت ببلاد الشهداء. وقد عانى المفلتين من سيف الظلم والجور الكثير من الجوع والعطش والتشرد، وحلت بهم مآسِ مروعة ومهولة. لقد سمعنا الكثير عن هذه المعاناة من أفواه آباءنا وأجدادنا الذين عايشوا الحدث المشئوم، الذين كانوا يتحدثون بمرارة عما شاهدوا وما عانوا، وما فقدوا من أهل وأحباء، وما تركوا من بيوت وعقارات وأملاك وأموال. سمعنا من أحدهم أن إحدى الفتيات قالت لوالديها عندما كانت عائلتها مختبئة متوارية عن أنظار





السفاحين، فرأت جوع والديها وإخوانها، وليس عندهم ما يسدوا جوعهم فصرخت قائلة: " لكي لا نموت جميعاً جوعاً، أذبحوني وكلوا لحمي حتى تعيشوا أنتم ". إن المحن العظيمة التي تكبدها مسيحيي السلطنة العثمانية يتوقف القلم البليغ عن وصفها والإحاطة بها، بسبب وحشية العتاة الظالمين الذين انقضوا على قطيع المسيح الوديع، ونحروهم كالخراف فسالت دمائهم المقدسة تروي وتخصب أعتاب الكنائس والأديار والمساكن والبساتين والحقول والجبال والسهول والوديان والأنهار والآبار. وكانت زرافات الشهداء تترنم بأصوات شجية وهي تساق إلى الذبح كأنها ذاهبت إلى العرس. أجل أنها كانت ذاهبت إلى عرس الحمل، بدون خوف ولا وجل، لتنال إكليل المجد المعد لها منذ إنشاء العالم. وقد ضم الوفد المرافق لسيادته الآباء كهنة الأبرشية: نضال توماس وأنطوان غزي ومالك ملوس وسمير كانون والشماس نوري إيشوع.

اليوم الأول: الاثنين 12 حزيران 2006

انطلقنا صباحاً نحو بوابة الحدود السورية التركية، وبعد أن أكملنا المعاملات أصولاً دخلنا مدينة نصيبين التاريخية. وما أدراك ما هي مكانة نصيبين في التاريخ عامة، وفي تاريخ كنيسة المشرق [4] خاصة.

لقد دعاها سكان ما بين النهرين قديماً صوبا، وهي مشتقة من اسم " غلابً " " نصو " يعني نصب أو زرع، بسبب تربتها الزراعية الخصبة، وغزارة مياهها الجارية، وما كانت تحتوي من بساتين وحدائق وجنان. وقال عنها مار أفرام إنها " أكاد " المذكورة في سفر التكوين، وينسب تأسيسها إلى نمرود الجبار. [5] ويعتقد المؤرخون أن تأسيسها يعود إلى سنة 4000 ق.م. وقد دعاها السومريون " تريو "، وفي زمن حكم حمورابي ملك بابل دعيت " آراميس " وتعني الحديقة أو البستان. أما في المصادر الآشورية فقد دعيت " نابولا ". أما اليونان فقد دعوها " أنطاكية مقدونية ".

وكان المقدونيين في القرن الثالث قبل الميلاد قد جعلوا نصيبين مركزاً لسك العملة، فازدهرت اقتصادياً وقد أطلقوا على المدينة اسم " أنتيموسيا " وتعني " مدينة الزهور "، ودعوا النهر الذي يمر بها " مقدونيا " أو " لميكدونيوس ". وتذكر المصادر الرومانية موقع نصيبين في " الجزيرة العليا " ضمن منطقة " ميزوبوتاميا " أي " بين النهرين ". وفي القرن الأول الميلادي كانت نصيبين تحت حكم الأرمن، وكان " أردوس " شقيق الملك ديكران والياً عليها. وفي عهده سكب عملة في نصيبين عرفت باسم الملك ديكران.

أما الرومان فقد جعلوها قلعة الشرق الحصينة ومقراً لقائد بلاد ما بين النهرين. ثم أصبحت عاصمة ديار ربيعة. وبحكم موقعها كحد فاصل بين المملكتين الرومانية والفارسية دعيت مدينة التخوم أو مدينة الحدود، بسبب أهمية موقعها المتميز كبوابة لمرور القوافل بين الشرق والغرب. واحتلها المسلمون عندما فتحها عياض بن غنم سنة 640م، وقد حكمها الأمراء الحمدانيون في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، واحتلها صلاح الدين الأيوبي سنة 1188م، واستولى عليها المماليك سنة 1193م، واجتاحها تيمورلنك سنة 1395م، وخضعت لسلطة العثمانيين سنة 1515م ولا زالت حتى يومنا هذا ضمن حدود الدولة التركية. ويبلغ عدد سكانها اليوم نحو 75000 نسمة، وهي مركز قائممقامية تابعة لولاية ماردين.

وبعد دخول المسيحية إليها في الجيل الأول على يد مار أدي الرسول [6] أحد الأثنين والسبعين تلميذاً، تقلدت دوراً رائداً ومميزاً في المشرق، فأطلق عليها تسميات عديدة منها: مدينة المعارف وأم العلوم وأم الملافنة وترس كل المدن المحصنة ورئيسة ما بين النهرين ورئيسة المغرب. وقد تحدث عنها العديد من الرحالة في فترات متفاوتة نذكر منهم: جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: " نصيبين مدينة من بلاد الجزيرة، على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان، وعليه سور بنته الروم، وهي مدينة وبيئة لكثرة بساتينها ومياهها، ظاهرها مليح المنظر وباطنها قبيح المخبر، وينسب إلى نصيبين جماعة من العلماء والأعيان ". [7]

وجاء في صورة الأرض لابن حوقل: " وكان من أجلِّ بقاع الجزيرة وأحسن مدنها وأكثرها فواكه ومياهاً ومتنزهاتٍ وخضرةً ونضرة، إلى سعة غلات من الحبوب والقمح والشعير والكروم الرائعة الزائدة على حد الرخص. وهي مدينة كبيرة في مستواةٍ من الأرض، معروفة الفرسان مشهورة الشجعان، إلى ديارات للنصارى وبيعٍ وقلاَّاياتٍ، تقصد للنزهة وتنتجع للفرحة والفرج ". [8]

وجاء على لسان ابن جبير في رحلته: " نصيبين شهيرة العتاقة والقِدم، ظاهرها شباب وباطنها هرم، جميلة المنظر، متوسطة بين الكبر والصغر، يمتد أمامها وخلفها بسيط أخضر مد البصر، قد أجرى الله فيها مذانب من الماء تسقيه، وتحف بها عن يمين وشمال بساتين ملتفة الأشجار يانعة الثمار، ينساب بين يديها نهر قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافتيه، وتفيء ظلالها الوارفة عليه. فخارجها رياضي الشمائل، أندلسي الخمائل، يرف غضارة ونضارة، ويتألق رونق الحضارة، فرحم الله الشاعر أبا نواس حيث يقول:

طابت نصيبين لي يوماً فطبت لها يا ليت حظي من الدنيا نصيبين ". [9]

وجاء على لسان ابن بطوطة في رحلته: " نصيبين مدينة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها، وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية، والبساتين الملتفة، والأشجار المنتظمة، والفواكه الكثيرة، وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة، ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار، منبعه من عيون في جبل قريب منها، وينقسم انقساماً فيتخلل بساتينها، ويدخل المدينة فيجري في شوارعها ودورها. وبهذه المدينة مارستان ومدرستان، وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ". [10]

وجاء في المنجد في الأعلام: " نصيبين مدينة في ما بين النهرين، كانت منذ القرن الثالث مهد الآداب السريانية حتى سقوطها في أيدي الساسانين سنة 365م، ازدهرت فيها مدرسة نسطورية في أواخر القرن الخامس وحتى منتصف القرن السادس، لمع منها نرساي وبرصوما ". [11]

وقد تغنى الشاعر سيف الدين الحلي بطبيعة نصيبين، واصفاً البحيرة الطبيعية التي تقع جنوب المدينة، وكيف يتنقل السكان بواسطة الزوارق في هذه البحيرة. وهذا هو المصدر الوحيد الذي وجدته يذكر البحيرة، التي جفت مع الزمن وتحولت إلى وادي يفصل نصيبين عن القامشلي. وبالفعل إذا تمعن المرء في موقع مدينة القامشلي يجد أنها مبنية في وادي مما يؤكد هذه المعلومة.

ومن المعلوم أن النهر الذي يشق نصيبين دعاه الرومان " هرماس "، أما المصادر الأرمنية فتدعوه " جغجغ "، وهي مختصرة من الجملة الأرمنية " جغجخوت " وتعني " البحيرة البطيئة المياه "، وهذه إشارة لوجود البحيرة جنوب المدينة.

وفي سنة 1766 مر السائح الدانمركي نيبوهر من نصيبين فوصفها بقوله: " نصيبين بلدة مؤلفة من 150 بيت مشيدة من التراب، أما قلعتها فلم يبقى منها إلا بعض الحجارة المنحوتة. أما الجسر الذي فوق نهر الهرماس " الجغجغ " الذي يخترقها والمشيد على 12 قاعدة فلا زال قائماً، لكن الشيء الذي يستوجب رؤيته فيها هو بقايا كنيسة مار يعقوب النصيبيني ". [12]

وفي سنة 1799 زار نصيبين الرحالة أوليفر فوصفها بقوله: " لا زال في نصيبين بعض الأنقاض ومنها بقايا قوس نصر عائد للرومان، كما أنه يوجد معبد مربع الشكل وضمن المعبد دهليز يحتوي لحد " قبر " غطاءه من مرمر أبيض. كما رأينا خمسة أعمدة حجرية لا زالت قائمة، وشاهدنا لوحة مرمرية تشير إلى موقع كان سابقاً ميداناً لسباق الخيل ". [13]ويستطيع المغرم بالتاريخ أن يطلع على المزيد من تاريخ نصيبين الزمني، ليجد العديد من الحوادث المهمة التي جرت في سالف الزمان، وذلك بالعودة إلى العديد من المصادر نذكر منها: " البداية والنهاية "، [14] وأيضاً " الكامل في التاريخ "، [15] وأيضاً " تاريخ الطبري ". [16]

ما أن تخرج من حرم المنطقة الجمركية التركية لتدخل مدينة نصيبين، تجد عن يمينك أرض واسعة مسيجة بالأسلاك الشائكة، وضمنها عدد قليل من الأعمدة الحجرية يدعوها العامة بـ القبان، هذه الأعمدة هي مدخل مدرسة نصيبين الشهيرة، التي نالت شرف أن تكون أول كلية لاهوتية في العالم، وأول جامعة درس فيها علم الإلهيات. أسسها مار يعقوب النصيبيني [17] مطران نصيبين الذائع الصيت وذلك سنة 325، وجعل تلميذه مار أفرام النصيبيني ملفان الكنيسة الجامعة [18] مديراً لها، فدبرها بحكمة ودراية وغيرة وهمة قعساء، وسهر على مصالحها الأدبية والمادية، فنمت وازدهرت في عهده، حتى أغلقت سنة 363 بعد أن استولى الفرس على نصيبين. وفي سنة 457 فتحت المدرسة من جديد، وعهدت إدارتها إلى الملفان نرساي النوهدري [19] الملقب بالمعلم، لأنه كان معلماً لا منازع له في الرها ونصيبين، فخبرته العميقة وخصاله الحميدة وعلمه الغزير، أعطى هذه المدرسة انطلاقة سريعة وسير منظم من خلال القوانين التي سنها لهذه المدرسة. استمرت هذه المدرسة لمدة أربعة قرون حتى أغلقت سنة 660. وقد تخرج من هذه المدرسة آلاف التلاميذ، منهم من وصل إلى مراكز عالية في كنيسة المشرق، ومنهم من فتح مدارس في مناطق مختلفة، ومنهم أدباء زينوا الكنيسة بتصانيفهم الثمينة.

وقفنا أمام هذه الأعمدة نتأمل ونتسأل، هل من المعقول والمقبول أن تبقى هذه الأعمدة فقط من هذا الصرح الشامخ، الذي كان يعج يوماً بآلاف التلاميذ يتنقلون بين الأروقة والصفوف، لينهلوا العلوم والمعرفة على يد معلمين عظام خلد التاريخ ذكراهم بمداد من نور، واليوم أضحى موقعها كالصحراء القاحلة التي لا حياة فيها. وفي لحظة تأمل تذكرت ما قاله المطران إسرائيل أودو [20] في مذكراته عن المذابح التي جرت في نصيبين: " أين مار أفرام كنارة الروح القدس، وأين مار نرساي لسان المشرق، أليس من واجبهما أن يأتيا الآن ويشاهدا ما حل في مدرستهم الشهيرة التي كان صوتهما يصدح فيها، ليكتبا مراثي الألم والأسى على ما آلت إليه مدينة المعارف وأم العلوم وأم الملافنة ". [21]

غادرنا المكان بين الذكرى والحسرة لما آل إليه هذا الصرح الشامخ لنتوجه غرباً، وعلى بعد مائتي متر وقفنا أمام كاتدرائية مار يعقوب النصيبيني. التي شيدت سنة 313، وانتهى العمل فيها سنة 320 حيث كرسها مار يعقوب النصيبيني باحتفال مهيب. وكانت هذه الكاتدرائية واسعة الأرجاء وآية في الجمال والفن المشرقي. تعاقب على كرسيها المطرابوليطي خمسة وسبعين مطراناً لكنيسة المشرق، بدءً من مار يعقوب النصيبيني في بداية الجيل الرابع للمسيحية وانتهاءً بـ مار إبراهيم في نهاية القرن الثامن عشر.

وكان لهذه الأبرشية مكانة سنية في تاريخ كنيسة المشرق الكلدانية، لأن حدودها كانت تمتد من أطراف الموصل وحتى بلاد أرمينية، حيث نجد أحياناً أكثر من عشرين أسقفاً يتبعون مطرانها، وهذه المراكز هي: بيث زبداي. قردو. بيث مكسايي. أرزون. أوستان أرزون. بيث رحيمايي. قوبا أرزون. طبياثا. بلد. آذورمية. كف زمار. سنجار. كانوش. أخلاط. ميافرقين. آمد. حران. ريشعينا " رأس العين ". ماردين. الرقة. حصن كيبا. دنيسر. دارا. بيث ريشا. كفر توثا. وهذه المناطق جميعها معروفة لدى المطلعين على جغرافية المنطقة. وفي العصور المتأخرة أضحت بعض هذه الأسقفيات مراكز مستقلة بسبب ازدياد عدد مؤمنيها، وهنا نذكر بعض هذه المراكز وما وصلت إليه في العصور المتأخرة: " 1_ كفر توثا: في سنة ألف وسبعمائة كانت تضم 7000 بيت من أبناء كنيسة المشرق، يخدمهم مطران يعاونه أسقفان وعدد كافي من الكهنة والشمامسة، ولهم فيها أربع كنائس، ولهم بجانب المدينة دير على اسم مار بثيون.

2_ ريشعينا ( رأس العين ): في سنة ألف وستمائة كانت تضم 5000 بيت من أبناء كنيسة المشرق، يخدمهم مطران يعاونه ثلاثة أساقفة تحت يدهم مائة كاهن ومائتا شماس، ولهم في داخل المدينة أربع كنائس مكرسة هي: أ_ مارت شموني وأولادها السبعة. ب_ إيليا النبي. ج_ مار دانيال ومار يونان النبيين. د_ الصليب المقدس. وكان لهم كنائس كثيرة في القرى المجاورة للمدينة.

3_ دنيسر: في سنة ألف وستمائة كانت تضم 800 بيت داخل المدينة و1000 بيت في القرى المجاورة، يخدمهم أسقف تحت يده عشرون كاهناً وأربعون شماساً، ولهم في داخل المدينة ثلاث كنائس مكرسة هي: أ_ الشهيد هرمزد. ب_ مار كيوركيس. ج_ العذراء مريم.

4_ دارا: في سنة ألف وستمائة كانت تضم 2200 بيت داخل المدينة، يخدمهم أسقف تحت يده ثلاثون كاهناً وستون شماساً، ولهم داخل المدينة ثلاث كنائس مكرسة هي: أ_ مار ميخائيل. ب_ مار يعقوب. ج_ مار يوحنا ". [22]

هذه بعض المراكز التي استطعنا أن نعرفها من خلال المصادر التاريخية في هذه الحقبة، والتي تبين بوضوح الحضور الكثيف لكنيسة المشرق في هذه المناطق.

وبسبب أهمية نصيبين كمركز إشعاع روحي وديني وثقافي، اعتبرت الأبرشية الثانية في ترتيب أبرشيات كنيسة المشرق. وأعطي لمطرانها شرف الوقوف عن يمين السايوم في رتبة سيامة الجاثليق، ومرافقته لتنصيبه على العرش.

دخلنا الكاتدرائية التي قوض القسم الكبير منها بسبب عوادي الزمان وبقي جزء منها. تأملنا في جدرانها وحناياها مستذكرين ما كان لها من عظمة ومكانة، وما كان يجري فيها من احتفالات دينية مميزة، واليوم مع الأسف الشديد وجدناها خالية خاوية إلا من روح الله الذي يرفرف عليها. نزلنا إلى السرداب تحت الكنيسة حيث ضريح حجري كان جثمان مار يعقوب النصيبيني يرقد فيه حتى سقوط نصيبين في يد الفرس سنة 362، فتم نقل رفاته إلى الرها ومنها إلى القسطنطينية. تباركنا من الضريح وخرجنا إلى فناء الكنيسة لنجد أعمال التنقيب التي تجريها بعثة أثرية لمعرفة المزيد عن معالم وتاريخ هذا الموقع الهام. ويتحدث تقليد يردده أهل المدينة إلى يومنا هذا: " أن حجراً موضوعاً عند باب الكنيسة، كان الذي يعاني من آلام في ظهره يذهب إلى الكنيسة، وبمجرد أن يحك ظهره بذاك الحجر ينال الشفاء ". [23]

ومن المعلوم أن ملكية الكاتدرائية تعود للمشارقة منذ البدايات، وقد سقطت الكاتدرائية بفعل الزلازل الذي ضرب نصيبين سنة 713، فشيدت من جديد من قبل المطران سبريشوع الأول، [24] وانتهت الأعمال في عهد المطران قبريانوس الأول. [25] وفي سنة 1119 جرت أعمال ترميم الكنيسة في عهد المطران سبريشوع الثالث. [26] أما التجديد الأخير الذي أجراه المشارقة فكان في سنة 1562 في عهد المطران إيشوعياب. [27]

وقد عمل السريان الأرثوذكس الكثير للاستيلاء على الكاتدرائية، وأخيراً نالوا قراراً من حاكم ديار بكر سنة 1865 يعطيهم حق ملكيتها، بعد أن قبض منهم مبلغاً كبيراً من الذهب. ويبدو أن السريان الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس كانوا أيضاً يبذلون الجهود لدى الباب العالي في القسطنطينية لضبط هذه الكنيسة، لكنهم لم يتوصلوا إلى أي نتيجة تذكر. لكن الكلدان لم يقبلوا بهذا القرار الجائر، وعليه نقرأ في رسالة البطريرك يوسف السادس أودو [28] الموجهة إلى مطران الجزيرة العمرية مار بولس هندي [29] بتاريخ 14/5/ 1866 يشرح فيها ما جرى بقوله: " تبين لنا بأن دير مار يعقوب النصيبيني بحسب فصل الباب العالي أصبح للسريان، وقد كتبنا إلى مطران آمد مار بطرس دي نتلي [30] ومطران ماردين مار أغناطيوس دشتو، [31] كي يقفوا بوجه اليعاقبة أمام المحكمة ليعود لنا كما كان ". [32] أما البطريرك يوسف السادس أودو فإنه تابع هذه القضية بشكل جدي، وقد كلف لهذه الغاية بطريرك الأرمن الكاثوليك أنطوان حسونيان، [33] والذي بذل جهوداً مضنية في القسطنطينية، لكي يحصل من الباب العالي على قرراً يعيد الكنيسة إلى أصحابها الشرعيين، لكنه لم يفلح. وقد بلغ البطريرك أودو أنه فشل في تحقيق طلبه. وعليه خرجت الكنيسة من يد المشارقة، وذلك واضح من قول الشماس إسحق سكماني [34] المرافق للبطريرك أودو خلال سفره إلى روما لحضور المجمع الفاتيكاني الأول: " في أيلول 1869 ارتحلنا إلى قضاء نصيبين، وهنا زرنا مع البطريرك أودو قبر مار يعقوب داخل الكنيسة المبنية على اسمه، وهي كنيسة عمارتها فاخرة، إلا أن الخراب قد أصابها وحالها يرثى له، وهي الآن بيد طائفة اليعاقبة ". [35]

وقد جدد السريان الأرثوذكس الكنيسة سنة 1872 على عهد البطريرك يعقوب الثاني والمطران قورلس إشعيا، وذلك واضح من اللوحة الحجرية المثبتة في مدخل الكنيسة والمكتوبة بالسريانية الغربية.

وبعد أن فقد المشارقة الأمل في إعادة هذه الكاتدرائية، حيث لم يبقى لديهم مركزاً في نصيبين يقيمون فيه شعائرهم الدينية، مما حدا بالبطريرك يوسف عمانوئيل الثاني [36] بالعمل على إيجاد مركزاً لهم في هذه المدينة العريقة في تاريخ كنيسة المشرق، وذلك واضح من مذكرات سكرتير البطريرك عمانوئيل الخوري داؤد رمو [37]حيث جاء فيها: " سنة 1905 اشترى البطريرك مار يوسف عمانوئيل لهذه الغاية داراً في نصيبين بمبلغ 180 ليرة ذهبية وافتتحها مركزاً للطائفة في المدينة ". [38] وعين لخدمة الرعية هناك الأب متي كلاشو. [39]

وأسفاه على هذا الواقع المرير والذي يصفه المطران إسرائيل أودو في مذكراته: " لو جاء مار يعقوب النصيبيني ليزور أبرشيته اليوم لأنتابه العجب العجاب، لأنه لن يشاهد فيها مسيحياً واحداً لا رجلاً ولا امرأة، لقد ذبحوا جميعاً على أيدي وحوش بشرية مفترسة. ولو زار أحدى ساحة نصيبين لسمع من أحد الشهود كيف تم جمع أطفال نصيبين المسيحيين بعد قتل أهاليهم، حيث ربطوهم ومددوهم وجعلوهم مداساً لأرجل خيلهم حتى أسلموا الروح. أليس ما فعله هؤلاء المجرمين بأطفال نصيبين، شبيه بما فعله هيرودس الطاغية بأطفال بيت لحم ". [40]

توجهنا نحو جامع زين العابدين المجاور للكاتدرائية وتوفقنا في الدخول إليه، ومن المعلوم أن موقع الجامع كان ديراً للراهبات على اسم مارت نارسوي وكان يضم في بداية الجيل الرابع للمسيحية خمسين راهبة منهم الشهيدة فبرونيا النصيبينية. [41] وفي القرن العاشر حول إلى جامع.

ويتحدث المؤرخ المقدسي سنة 988 عن بيوت نصيبين الجميلة، وأسواقها الممتدة عبر كل المدينة، وحصنها وجامعها الذي يتوسط المدينة. وهذا الوصف للجامع هو الدليل الأول على تحويل كنيسة القديسة فبرونيا إلى جامع.

ومن المعلوم أن البطريرك السرياني استفاد من تقدم الجيوش البيزنطية في المنطقة الشرقية سنة 629، فأسس مركزاً لهم في " تكريت " حيث مركز الحاكم البيزنطي، وأعطى لقب " مفريان " لصاحب المركز الجديد. " وبسبب الحضور البيزنطي في نصيبين استطاع السريان الغربيين باستحداث كرسي مطراني لهم فيها لأول مرة وذلك سنة 631، وفي سنة 707 استطاع المطران شمعون الزيتوني بناء كنيسة كبيرة لهم على قسم من خرائب دير الشهيدة فبرونيا، وقد تكفل نفقة البناء رهبان دير قرطمين " مار كبرئيل "، وانتهى البناء سنة 907 ". [42]

وقد تحدث الرحالة بادجر الذي زار نصيبين عدة مرات بين سنتي 1844_ 1850 عما يتداوله أهل المدينة عن تقليد ملتزمون به: " يزور المسلمون ضريح القديس يعقوب النصيبيني للتبرك منه قبل أن يتوجهوا لزيارة ضريح الإمام زين العابدين والصلاة في جامعه، لأن التقليد يقول أن الإمام زين العابدين مؤسس الجامع كان يصلي ووجهه باتجاه ضريح مار يعقوب عوض القبلة ". [43]

شاهدنا معالم الجامع والضريح الموجود في غرفة خلف المحراب والذي يعرف بضريح زين العابدين، وهو في واقع الأمر ضريح الشهيدة فبرونيا النصيبينية، تباركنا من الضريح وغادرنا الجامع.

ومن المعلوم أن نصيبين كانت تحتضن العديد من المواقع المشهورة من كنائس وأديرة ومدارس ولم يبقى منها أي أثر يذكر سوى ما شاهدناه. ولم نستطيع زيارة جامع بصمة يد علي الذي شيد على خرائب مجمع بيث سهدي [44] الذي شيد في النصف الأول من القرن السادس عند باب الروم ويعرف اليوم بـ حي زهير، وكان المجمع يضم كنيسة ودير ومدرسة. وفي القرن السادس عشر ( سنة 1570 ) نجد للمشارقة في نصيبين حضور كثيف، " يضم سبعة آلاف بيت داخل المدينة، يخدمهم مطران وتحت يده أربعة أساقفة وعدد من الكهنة والشمامسة، ولهم في المدينة سبعة كنائس هي: 1_ مار يعقوب النصيبيني. 2_ مار أوجين وشليطا. 3_ مار توما الرسول. 4_ مار كيوركيس وقرياقوس. 5_ القديسة بربارة الشهيدة. 6_ مريم سيدة الزروع. 7_ مار يوحنا الطائي. ". [45]

ومن المعلوم أن قضاء نصيبين في بداية القرن العشرين كان يضم ثماني نواحي فيها 240 قرية. وكانت المدينة تضم 400 نسمة من كلدان وسريان أرثوذكس وأرمن كاثوليك وأرثوذكس وقلة من البروتستانت. وللمسيحيين في المدينة ثلاث كنائس تعود للكلدان والسريان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس. وكان في المدينة جالية يهودية قديمة ومهمة لها عدة أنشطة. ولهم فيها ثلاث مجامع " كنس " واحدة على اسم رابي يهوذا، أما الاثنان فبناهما رابي عزرا، ويقال أن في أحدها صخرة حمراء أحضرت من أورشليم. .

ومن الجدير بالذكر أن نصيبين أضحت اليوم خالية من الحضور المسيحي، سوى عائلة وحيدة تسكن في كنيسة مار يعقوب لتفتح الباب للزائرين. لأن مسيحيي المدينة من كاثوليك وأرمن قتل أغلبهم في 15 حزيران 1915 حيث سيقوا إلى قرية خراب كورث [46] المجاورة وذبحوا هناك كالغنم ورميت جثثهم للوحوش المفترسة وجوارح السماء، منهم ثلاثين عائلة كلدانية.

وأما المتبقين من كاثوليك وأرمن فقد هربوا إلى سنجار حيث حافظ على حياتهم زعيم اليزيدية حمو شرو. [47]

ولا ننسى أريحية شيخ عشائر الشيخ محمد الطائي [48] الذي أوصى أبناء عشيرته أن يحقنوا دم كل مسيحيي يلوذ بهم، وقد عمل الكثير في سبيل إنقاذ الكثيرين والحفاظ على حياتهم. أما العائلات السريانية الأرثوذكسية في نصيبين فقد تركت وشأنها، ولم يصب أحد منها بأذى يذكر.

وكان كاهن الكنيسة الكلدانية في نصيبين الأب حنا شوحا [49] قد ألقي القبض عليه في 9 أيار سنة 1915 بتهمة إيوائه المخربين، وسيق إلى ديار بكر ليحاكم هناك، علماً أن جريمة الأب المذكور أنه استقبل في داره شاباً كلدانياً قادماً من أضنة، وأنتظر بضعة أيام حتى يجد من يسافر معهم إلى بلدته تلكيف.

وفي صباح أحد الأيام خرج إلى السوق عله يجد من يسافر معه إلى بلدته، وجلس لهذه الغاية أمام دكان شاب أرمني كاثوليكي يدعى فرنسيس برغوث، وما أن رآه العسكر حتى قبضوا عليه وعلى فرنسيس وسيقا إلى المخفر، وهناك سئل أين ينام فقال عند الأب شوحا، فمضوا وألقوا القبض على الكاهن المذكور. ووجهت للشاب تهمة الهروب من الجندية، ولفرنسيس تهمة مهرب، وللكاهن تهمة أخفاء الهارب. وخلال مرورهم في ماردين بذل المطران إسرائيل أودو الجهود الكثيرة لإنقاذه لكن دون جدوى، وأرسل لهذه الغاية الأبوين يوسف تفنكجي [50] وبولس بيكو [51] إلى متصرف ماردين حلمي بك لهذا الغرض، لكنهما لم يحصلا منه لأي وعد يذكر.

ثم كلف المطران سليمان صباغ [52] في ديار بكر ليعمل هو أيضاً في سبيل إنقاذ حياته لكنه لم يفلح. فقتل بوحشية لينال إكليل الشهادة ليكون بكر شهداء الإكليروس الذين قدموا الكثير من الأساقفة والكهنة والشمامسة على مذابح الإيمان، وقد استشهد معه الشاب التلكيفي وفرنسيس برغوث، بالإضافة إلى زوج أخت الأب حنا شوحا المدعو يوسف مغزل الذي رافقه من ماردين إلى ديار بكر للعمل على إطلاق سراحه، وبعد يومين من وصولهم إلى ديار بكر ذهب يوسف إلى السجن للسؤال عنهم فألقي القبض عليه وضم إليهم. وما جرى للأب المذكور كان سببه حسد وغيرة مسلمي نصيبين من عائلة شوحا، لكونها عائلة مرموقة متألقة وموفقة في حقل التجارة والأعمال، وتعتبر من أغنى العائلات في المنطقة، وكانت هذه العائلة تتوزع بين ماردين ونصيبين لتسيير أعمالها. وقد وجدوها فرصة للإيقاع بهذه العائلة، وقد لحق بالأب الشهيد خمسون شهيداً من عائلته المتواجدين في المدينتين.

وهنا نذكر الشخصيات التي تولت تصفية مسيحيي نصيبين، هؤلاء الملطخة أياديهم بدماء الشهداء الأبرار، حتى تبقى أسمائهم السوداء معروفة لدى الأجيال المتعاقبة إلى نهاية العالم وهم: رفيق ابن نظام الدين. قدور بك ابن علي. سليمان ابن مجر. هؤلاء الثلاثة كانوا الرأس المدبر لهذه الجريمة، وقد ساعدهم في مهمتهم كل من: الحاج إبراهيم القنطرجي رئيس البلدية. وشاكر بك الحاج كوزي. والحاج اسعد جلبي. وبعد أن ارتكبوا فعلتهم الشنيعة فتحوا بيوت المسيحيين ومحلاتهم ومخازنهم، واستولوا على محتوياتها من أموال وأمتعة وبضائع، واقتسموها فيما بينهم. وصدق فيهم قول صاحب المزامير: " يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون ". [53]

ويصف الأب جاك ريتوري الدومنيكي [54] نصيبين في كتابه الشهير المسيحيون بين أنياب الوحوش قائلاً: " نصيبين تلك المدينة المسيحية الشهيرة فيما سلف من الزمن، أضحت الآن قصبة مهملة لا يقطنها غير المسلمين، وقد زالت وانمحت الصلبان التي كانت تزين كنائسها وأديرتها ". [55] غادرنا نصيبين وفي القلب غصة وفي العين دمعة، ورددت في نفسي لماذا لا تنطق هذه الحجارة لتحدثنا عن قصة هذه الأبرشية المشرقية العريقة خلال تسعة عشر قرناً من العطاء والبطولات الإنجيلية.

توجهنا شرقاً نحو جبل إيزلا المقدس [56] مهد الحياة الرهبانية المنظمة في كنيسة المشرق، والذي كان مزروعاً بعشرات الأديرة، وكلمة إيزلا تعني الشبكة. وما أن تخرج من نصيبين حتى تقع عيناك على جبل إيزلا لتشاهد أطلال دير بجانب قرية تدعى اليوم ديرا جومرا، وبعد مسافة 20 كلم وصلنا إلى قرية كري ميرا ومنها صعداً شمالاً سيراً على الأقدام، وبعد مسيرة ساعة أصبحنا أمام دير مار أوجين. [57]

يقع الدير بالقرب من قرية معرى وقد شيد في الجيل الرابع للمسيحية على شكل نصف هلال يضم كنيسة كبرى وبيت صلاة ومصلى صيفي ومناسك وصوامع كثيرة ومدرسة لتعليم الرهبان تضم مكتبة ضخمة صارت طعمة لنار نور الدين أمير حلب الذي هاجم نصيبين وجوارها في القرن الثالث عشر، وكان للدير خمسة قرى بالإضافة إلى خمسة رحى " طواحين " وقطيع من الغنم تعود وارداتها لمعيشة الدير. وقد استمرت الحياة الرهبانية فيه حتى أواخر القرن السابع عشر، ونال هذا الدير مكانة مرموقة في كنيسة المشرق حيث راجت فيه أسواق العمران الروحي والعلمي والديني والثقافي، ومنه انطلق العديد من الرهبان ليؤسسوا أديرة جديدة في مناطق عديدة، ومنهم من انطلق إلى بلاد الهند والصين حاملين بشارة الخلاص. ومن دير مار أوجين شاهدنا دير مار يوحنا الطائي [58] المعروف بدير يوحنا البدوي، ويبعد عنه نحو 3 كلم شرقاً، ويتميز الدير ببنيانه البديع، ولم نستطيع الوصول إليه بسبب وعورة الطريق.

ثم انطلقنا شرقاُ وعلى بعد 5 كلم عند سفح جبل إيزلا وصلنا إلى دير مار باباي برنصيبيناي، [59] ولم يبقى من الدير سوى مغارة قديمة، وقد شيد السريان الأرثوذكس على موقع الدير كنيسة جديدة، حيث يسكن في القرية حوالي عشرة عائلات حالياً. ومقابل دير مار باباي شمالاً وعلى الطرف الأخر من جبل إيزلا يقع دير مار إبراهيم الكشكري [60] والمعروف بدير إيزلا الكبير، وقد شيد هذا الدير في الجيل السادس للمسيحية في منطقة بيث جوجل، الواقعة جنوب شرق بيث ريشا التي كانت كرسياً أسقفياً تابع لأبرشية نصيبين، وتعرف المنطقة اليوم باسم باكوكي وتعني بيت العنكبوت. وقد لعب هذا الدير الشهير دوراً رائداً وبارزاً في الحياة الفكرية لكنيسة المشرق، حيث أضحى مدرسة روحية يتدرب فيها الرهبان على الفضائل المسيحية والغيرة الرسولية، واستمرت فيه الحياة الرهبانية حتى نهاية القرن السابع عشر. لم نستطيع زيارة الدير بسبب وعورة الطريق الجبلية والتي تتطلب نحو خمسة ساعات من السير على الأقدام للوصول إليه.

ومن الجدير بالذكر أن سفح جبل إيزلا كان مزروعاً بعشرات القرى المسيحية سكانها من السريان الأرثوذكس، خربت وحرقت أغلبها بعد أن قتل سكانها ونهبت أموالهم وممتلكاتهم. فبعد تصفية مسيحيي نصيبين نظم الطغاة رفيق نظام الدين وقدور بك علي وسليمان مجر خطة لتصفية مسيحيي قرى نصيبين، فأرسلوا رسلاً إلى الأغوات يحثوهم على القيام بهذه المهمة. وعليه قتل إبراهيم الخليل آغا قرية خزنه جميع مسيحيي قريته، وهكذا فعل أحمد اليوسف آغا قرية السيحة حيث ذبح مسيحيي قريته بيده، كذلك فعل علي العيسى آغا حلوة حيث قتل مسيحيي قريته، أما محمد العباس آغا الدوكر فقد استعان بقدور بك وقتل جميع مسيحيي قريته، ثم سار قدور بك ومعه أحمد العباس وإبراهيم الخليل وعمر الأوسي آغا الدكشورية فقتلوا مسيحيي قرى المحركان وكركي شامو وخويتله. أما سليمان العباس آغا كرشيران فقد أطلق الحرية لمسيحيي قريته فانهزموا ولم يقتل منهم أحداً، كذلك هرب مسيحيي قريتي السروجية وكريبيا فتفرقوا في البراري شذر مذر. وعليه سجل التاريخ لسليمان العباس شهامته ونبل أخلاقه، بخلاف الذين ذكرناهم أعلاه الملطخة أياديهم بدماء الأبرياء.

تركنا جبل إيزلا وتوجهنا شرقاً نحو مدينة الجزيرة العمرية، وقبل أن ندخل المدينة وبجانب الحدود السورية التركية شاهدنا وادي السوس المعروف باسم نوالا كوجا، هذا الوادي السحيق الذي ضم جثث الآلاف من المسيحيين الذي استشهدوا في مذابح السفر برلك، بعد أن نحروا كالخراف جزاء إيمانهم. ومن المعلوم أن مدينة جزيرة أبن عمر بناها المسلمون سنة 961 على بعد 3 كلم جنوب شرق بيث زبداي.

ويذكر المؤرخون الشرقيون أن بيث زبداي قد بشرها أدي الرسول وتلميذه أجي، [61] وكان مركز الأبرشية في فنك، [62] ويقال لها قسطر دبيث زبداي. ومنذ بداية القرن الثالث وجد أسقف للأبرشية يتبع كرسي نصيبين المطرابوليطيي. وفي بداية القرن الخامس نجد أسقفية ثانية مركزها ثمانون. [63] وكانت أبرشية الجزيرة العمرية قد أنظمت إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1552، ومنذ زمن الاتحاد وحتى تدميرها سنة 1915 تعاقب على كرسيها الأسقفي ثلاثة عشر مطراناً.

وفي بداية القرن السابع عشر ( سنة 1620 ) نجد حضور كثيف للمشارقة في الجزيرة العمرية، " يضم 4300 بيت، يخدمهم أسقف وعدد من الكهنة والشمامسة، ولهم في المدينة كنيستان هما: 1_ مار كيوركيس. 2_ ومار بهنان. بالإضافة إلى كنائس عديدة وأديرة كثيرة خارج المدينة ". [64] وهناك لائحة تعود إلى سنة 1607 م تضم سبعة أديرة تابعة لأبرشية الجزيرة هي: " 1_ مار يوحنا النحلي. 2_ مار آحا. 3_ مار فنحاس. 4_ مار يونان. 5_ مار إسحق. 6_ مار يوحنا الكمولي. 7_ مار يوحنا المصري ". [65]

دخلنا المدينة التي لم يبقى فيها أي أثر مسيحيي يذكر، فكاتدرائية مار كيوركيس للكلدان المشيدة في القرن الخامس عشر على موقع جميل قرب نهر دجلة قد دمرت وهدمت، كذلك دمرت كاتدرائية مار كيوركيس الجديدة التي شيدت في بداية القرن العشرين، وأضحى دار المطرانية مسكناً للغرباء، ولم نستطيع الوقوف على هذين الموقعين لعدم وجود من يدلنا إليهما. لكننا شاهدنا برجا بلك على ضفاف دجلة والذي كان قصر أمير الجزيرة في سالف الزمان، ومقابل القصر شاهدنا ما تبقى من الجسر الأثري الذي كان ممتداً فوق دجلة.

ويتحدث التقليد أن سفينة نوح بعد نهاية الطوفان قد رست على جبل جودي القريب من الجزيرة. ومن المعلوم أن مار يعقوب النصيبيني كان قد شيد ديراً على هذا الجبل، ودعاه دير " قيبوثا " أي " الفُلك أو السفينة "، وقد افتتحه وكرسه بحضور مار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق.

ويقال أن مطران الجزيرة العمرية للكلدان مار يعقوب أوراهام [66] قتل هناك، ورميت جثثه على ضفاف النهر. وكان المطران يعقوب قد زار قائمقام الجزيرة المدعو زلفي السيئ الصيت ليستفسر منه عن ما يدور حول مصير المسيحيين من إشاعات بين سكان المدينة. لكنه تفاجئ عندما سمع القائمقام زلفي يصرخ بوجه قائلاً: " سيأتي اليوم الذي نحملك كيس من الشعير يزن 100 كغ ونسوقك كالحمار في شوارع المدينة ". فرجع المطران إلى دار المطرانية وهو حزين وقلق على مصير رعيته. بسبب ما سمع من الطاغية زلفي من كلام قاسي.

وشرق شمال الجزيرة شاهدنا جبال البوتان الشامخة، [67] ويتحدث العديد من المؤرخين الشرقيين أمثال ابن الحجري وابن الصليبي وبيث إيشوع وأبو الفرج عن هذه الجبال حيث يدعونها بـ جبال كلدانستان، " لأن أهالي هذه الجبال كانوا من الكلدانيين القدماء قبل مجيء المسيح، وفي العصور المتقدمة أطلق عليها خطأً كردستان ". [68]

وكانت هذه الجبال تضم عشرات القرى التابعة لأبرشية الجزيرة نذكر منها: فنك. هربول. حسانة. طاقيان. أومر دمار آحا. أومر دمار سوريشو. منصورية. وحصد. أشي. بلون. شاخ. تل قبين. نهروان. أجنبت. أكرم. بيسبين. فيشخابور. وسطا. بازنايي. هوزومير. كيركيبدرو. ديسيون. هلتون. آقول. باز. كزنخ. ماير. بربيثا . باشوران. بيث فغالي. بيث شابتا. بيث زندان. دادار. حداثا. شريهيه. كوفنت العليا، كوفنت السفلى. وقد دمرت أغلب هذه القرى في حوادث السفر برلك. وهجر من تبقى إلى دول الجوار، وبقي عدد قليل من العائلات تعيش في بعض القرى، وهذه القرى كانت مناطة بأبرشية زاخو بعد تدمير أبرشية الجزيرة العمرية، حتى الثمانينات من القرن الماضي حيث هجر من تبقى إلى أوربا بشكل نهائي.

وفي رسالة للبطريرك يوسف عمانوئيل الثاني بطريرك بابل على الكلدان موجهة إلى السيد ستيفان بيشون وزير الخارجية الفرنسية مؤرخة في 7 شباط 1919، يشرح فيها وضع الأبرشيات الكلدانية بعد هدوء العاصفة، منها أبرشية الجزيرة العمرية إذ يقول: " كم من النكبات والمصائب حلت بنا، في خضم تلك النوائب والاضطرابات . . . والمصير ذاته كان من نصيب أبرشية الجزيرة، إذ ذبح أسقفها والكهنة وسكان المدينة والقرى المسيحية التابعة لها، وحل الدمار بالكنائس وعملت أيادي النهب والسلب في الممتلكات والمقتنيات، جميعها أصبحت في خبر كان ". [69] وكان البطريرك عمانوئيل قد رفع تقريراً إلى قنصل فرنسا في بلاد ما بين النهرين السيد م. روو بتاريخ 29 كانون الثاني 1919 يبين فيه بالتفصيل أسماء القرى الكلدانية المدمرة في أبرشية الجزيرة، وأسماء العشائر والآغوات التي ارتكبت المذابح في كل قرية. بالإضافة إلى عدد الشهداء وعدد الممتلكات المستولى عليها من منقولة وغير منقولة تابعة للكنيسة والأهالي.

ومن باب التذكير نذكر أسماء بعض هذه العشائر: سينك. مما. باتوا. ميران. وآغوات: شرنخ وسلوبي وبازامير وشابسيا وحسنه والكوجر.

وفي رسالة للأب فيليب شوريز السعرتي [70] النائب البطريركي للكلدان في بغداد موجهة إلى الأب كونزاليز الدومنيكي مؤرخة في 22 أيار 1917، يطلعه فيها على ما جرى في أبرشية الجزيرة قائلاً: " في غضون ذلك كانت جزيرة ابن عمر تعاني هي الأخرى من سكرات الموت لمدة أشهر ثلاثة مليئة بالرعب والهول من المستقبل الأسود المنتظر. وقد حاول عثمان أفندي رئيس البلدية أن يتهرب من تنفيذ أوامر القائمقام بذبح المسيحيين، ومع ذلك ففي نهاية الأمر تعرض المسيحيون كما في سائر المناطق للذبح والتهجير. كان من جملة الضحايا عدد من الكهنة الكلدان اقتيدوا مع مطرانهم فيلبوس يعقوب أوراهام ومعهم مطران السريان الكاثوليك ميخائيل ملكي [71]، ومجموعة كبيرة من المؤمنين، أخرجوهم إلى ظاهر البلد على مرتفع يدعى نوالا كوجا، وهناك أطلقوا عليهم الرصاص، ثم تركوا جثثهم لليهود ليسحلوها ويلقوها إلى النهر. وسبقت مذبحة المدينة مذابح القرى المجاورة ". [72]

وقد روى شاهد عيان نجا من المذابح وهرب إلى ماردين للمطران إسرائيل أودو الحادثة كالتالي: " بعد قتل المطرانين يعقوب أوراها وميخائيل ملكي ومعهما ثلاثة كهنة كلدان هم: إيليا عيسى [73] وحنا خاتون [74] ومرقس توما، [75] وكاهنين من السريان الكاثوليك هما: شمعون [76] وبولص. [77] جاء يهود المدينة فربطوا أرجلهم وساقوهم في شوارع وأزقة المدينة حتى وصلوا بهم إلى شط دجلة، وهناك جردوهم من ثيابهم، ثم بقروا بطونهم وهشموا جماجمهم، وتركوهم طعاماً لوحوش البرية، ومن المعلوم أن الذي أطلق النار على المطرانين يدعى عبد العزيز جاويش وهو من أهالي ماردين ". [78]

أما مسيحيي المدينة من الرجال فقد قبضوا على جميعهم وزجوهم في غياهب السجن وبقوا فيه أربعة أيام يعانون من ضنك وضيق العيش، ثم أوثقوهم بالسلاسل والحبال واستاقوهم إلى نوالا كوجا وقتلوهم واستحوذوا على ثيابهم وأمتعتهم. ثم قبضوا على النساء والأطفال واستاقوهم في بكاء وعويل وقتلوهم جميعاً، ولم يبقى من مسيحيي الجزيرة سوى أربعة نساء احتجبن في دار أحد المسلمين حيث حافظ على حياتهم. وبعد المجزرة استولوا على جميع ممتلكات الطوائف المسيحية من كنائس ومطرانيات ومدارس، منها مدرستان تابعتان للرهبنة الدومنيكية ودار لسكن الراهبات. بالإضافة إلى ممتلكات المسيحيين من منقولة وغير منقولة، في المدينة والقرى المجاورة. ويقال أن أهالي الجزيرة منعوا من شرب مياه نهر دجلة لكثرة مار رمي فيه من جثث المسيحيين. وأمام هذا الموقف أذكر قصيدة لشاعر أرمني يصف هذه الحالة بالقول: " الأنهر تعرف جيداً ما صنع فينا الأكراد، لقد عذبونا وقتلونا ورمونا فيها. ولو نطقت لحدثتكم عن مآسينا ".

وفي تقرير سري رفعه الخوري الكلداني بطرس عابد السعرتي [79] إلى الكردينال ماريني أمين سر المجمع الشرقي في روما، يشرح فيها مجريات مذابح 1915، ومنها الجزيرة العمرية قائلاً: " حال مدير البلدية دون وقوع مجازر للمسيحيين لفترة ما، إلا أن الأتراك حرضوا الأكراد على الاعتداء على القرى المسيحية، ثم حصلت المجزرة في المدينة، وتمكن البعض من الهرب والاحتماء في الجبال. وتعرض ما تبقى من أبناء الشعب ورجال الدين للذبح ". [80]

ومع تهرب عثمان أفندي مدير البلدية من تنفيذ عمليات ذبح المسيحيين، حرض قائمقام الجزيرة زلفي الأكراد للقيام بهذه المهمة. ففي قرية طاقيان قتلوا كلدان القرية بعد أن حشروهم في الكنيسة بما فيهم كاهنهم الأب بطرس الطاقياني. [81]

أما الأب أوغسطين مرجاني [82] كاهن الجزيرة الذي كان هناك يحث المؤمنين على الثبات على الإيمان فقد قتل معهم. وفي قرية فيشخابور قتل نايف باشا ابن مصطفى آغا ورجاله 900 شخص من القرية بما فيهم كاهنهم الأب توما شيرين. [83] كذلك ذبحت عشائر الشرنخ معظم أهالي قريتي وسطا وتل قبين، وهكذا كان مصير أغلب قرى الجزيرة العمرية. أما الأب أنطون يونان [84] فقد تمكن من الفرار إلى زاخو مع جماعة من المؤمنين، ومنها وصل إلى الموصل، وقد عانى الكثير في هروبه حتى فضل الموت على البقاء حياً. ولابد من ذكر بعض العشائر الكردية مثل عشيرة كويان وعشيرة آيهلان التي حمت مسيحيي القرى التابعة لهم مثل: هلتون وأمرا دمار شوريشو وبيجو وبلون وهوز مير وكزنخ وهربول وحسانة وبيسبين وآقول.

ويقال أن عثمان قتو آغا عشيرة آيهلان سأل الملا محمد أن يعطيه فتوى لقتل مسيحيي منطقته، بعد أن بعث له شيوخ الدين المسلمين في تللو رسالة عن طريق الآغوات الأكراد في شرنخ يدعوه فيها إلى قتل المسيحيين الذين تحت سيطرته، فرد عليه الملا بالقول: " إن أثم ذبح المسيحيين هو أشد من ذبح المسلمين، كما أن استباحة أموالهم وأعراضهم أشد قبحاً، لأن القرآن يحرمها على المسلم الخائف ربه، ولك أن تختار بين الانصياع لكلام القرآن أو إتباع رأي العثماني ". [85] فاقتدى عثمان آغا بقول الملا محمد، وأمر رجاله بعدم الاعتداء على المسيحيين المتواجدين في منطقته، والعمل على حمايتهم من اعتداء الآخرين.

أما في منطقة زاخو المحاذية لأبرشية الجزيرة العمرية، فقد رفع كل من يعقوب آغا السندي ومحمد آغا السيلفاني اعتراضاً إلى الحكومة العثمانية معترضين على طلبها بتصفية المسيحيين في منطقتهما جاء فيه: " إن أرادت الحكومة التركية ذبح المسيحيين فهذا شأنها هي. أما هنا على الصعيد المحلي فنحن نرفض ذلك، ونريد حماية المسيحيين لا إهلاكهم ". [86]

ومثل هذا الموقف الشريف اتخذه العديد من الزعماء الأكراد نقولها لإنصافهم، فمنهم من لم يكتفي فقط بشجب مجازر المسيحيين، بل وقفوا ضدها وحموا المسيحيين من عصابات الجزارين. ومع ذلك نال سكان هذه القرى الكثير من الصعوبات والمضايقات من خطف بناتهم والتعدي على أرزاقهم، مما حد بهم على ترك قراهم بشكل تدريجي حتى فرغت تماماً في الثمانينات من القرن الماضي.

ويبدو أن المتعقلين من الأكراد تبين لهم الأسباب التي دفعتهم إلى ما اقترفته أياديهم من فضائع بحق المسيحيين، وأبدوا نوع من التبرير الغير مقنع، لأن ما جرى غير خريطة المنطقة بعد أن أفرغت من العنصر المسيحي. فقد كتب خليل بدرخان صاحب صحيفة الرابطة الكردية سنة 1924 مقال جاء فيه: " الرابط المشترك الوحيد الذي يجمع الشعبين التركي والكردي هو رابط الدين الإسلامي، الذي استغلته الحكومة التركية للإيقاع بين الأكراد والمسيحيين. إن القادة الأتراك منذ أمد بعيد مارسوا سياسة فرق تسد لإطالة سلطتهم البغيضة. لحسن الحظ إن ذلك الزمن قد ولى وانقضى، والشعوب المتجاورة أسياد الأنضول الحقيقيين التاريخيين من أكراد وأرمن وآشوريين وكلدان وسريان لا زالت تجمعهم مشاعر المودة والألفة ". [87] لا أرى من رد مناسب على هذا المقال سوى القول المأثور: " عذر أقبح من ذنب ".

وفي أيامنا هذه ومع تزايد الوعي بين المثقفين الأكراد نسمع أصوات من هنا وهناك، تتحدث بصراحة عن معاناة المسيحيين بسبب تصرفات الأكراد، وقد نشر موقع عفرين نت مقالاً للسيد بْير رستم تحت عنوان " الخديعة والجريمة " نستعرض جزءً منه: " لن نقوم بتبرئة الكورد من سفك دماء إخوتهم الآشوريين والكلدان والسريان والأرمن، ولن ندافع عن تلك الزعامات القبلية الدينية والتي ورطت الرعاع الغوغاء والسذج والناس البسطاء الريفيين من الكورد في أحداث دموية ومجازر بحق هذه الشعوب والأثنيات المجاورة له، والتي تقاسمت معه الأرض والسماء. كان اللاعب والمخطط والمستفيد الأول من كل هذه الويلات والجرائم هم الطورانيون ومن بعدهم الكماليون الترك وأيضاً من وراءهم الدول الغربية، وما كان بعض الكورد في تلك الجريمة القذرة إلا أداة حمقاء في أيدي أولئك اللاعبين والمنفذين، ومع هذا لا ينفي عنا المسئولية التاريخية والقانونية، وعلينا التحلي بالشجاعة وإقرار ذلك، وعدم اعتبار من تدنس أياديه بتلك الجرائم والفضائع أبطال قوميين. وألا فإننا نكون نرتكب نفس أخطاء خصومنا من القوميين المغالين. ومع تأكيدنا على تورط بعض الكورد، وهنا كلمة البعض ليس بمعنى التقليل من حجم أو عدد المشاركين في تلك الجرائم من قبل الكورد، وأيضاً ليس بمعنى النفي والتهرب من المسؤولية وإلقائها على كاهل بعض الرموز والتي كانت محسوبة على السلاطين العثمانيين، كما يفعلها أكثر أبناء جلدتنا، ولكن ولكي نكون منصفين وموضوعيين فإننا نقول: بأن السبب الرئيسي والذي أورط الكورد في تلك المجازر، هو الفكر الإسلامي من ناحية، ومن ناحية أخرى الجهل والهمجية الريفية. فلولا استغلال الجانب العاطفي الديني من قبل بعض المشايخ الكورد ومن خلفهم السلاطين العثمانيون لدى تلك الشرائح والفئات الساذجة والبسيطة والريفية الفقيرة، لما كان من السهولة جر تلك القطعان من الغوغاء ل Opinions