Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

رحلة حج إلى أبرشيات كنيسة المشرق المنسية " الجزء الثاني "

اليوم الثاني: الثلاثاء 13 حزيران 2006

صباحاً بعد أن احتفل صاحب السيادة بالذبيحة الإلهية في كنيسة دير مار كبرئيل تناولنا طعام الفطور، ثم انطلقنا لزيارة بعض المواقع في طور عبدين. وكانت محطتنا الأولى في قرية حاح، التي تضم ديراً شهيراً مكرس على اسم العذراء. ويتحدث تقليد الكنيسة السريانية أن المجوس في طريق عودتهم من بيت لحم، مروا من هذا المكان واستراحوا فيه من تعب الطريق، وقد شيد الدير في الجيل الخامس في نفس المكان. استقبلنا الراهب موشي رئيس الدير، وبعد أن رحب بنا شرح لنا عن تاريخ الدير والمراحل التي مر بها، ثم زرنا كنيسته البديعة. وبعد استراحة قصيرة ودعنا الراهب موشي متوجهين نحو قرية صالح ويدعوها العامة صلح.

والقرية اليوم خالية من الحضور المسيحي، لأن مختار القرية حسنو فتك بمسيحيي القرية في مذابح السفر برلك، ونهب أموالهم ومواشيهم، واستولى على أملاكهم وأراضيهم. وتضم هذه القرية دير مار يعقوب الحبيس الذي شيد في الجيل السادس، وبسبب عوداي الزمان قيض قسم من الدير، وقد بدأت عمليات الترميم على قدم وساق لإعادة ما تهدم. استقبلنا رئيس الدير الراهب دانيال مرحباً بنا، ثم زرنا كنيسة الدير واطلعنا على معالمها، وبعد استراحة قصيرة ودعنا الراهب متوجهين نحو مدينة مذيات.

وصلنا إلى مذيات التي تعتبر قصبة طور عبدين، تقع المدينة في سهل فسيح تحيط بها الروابي والتلال المزدانة بالكروم والأشجار. وكان اغلب سكانها من السريان الأرثوذكس، وقليل من الكلدان والبروتستانت والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك ، وقد أصاب مسيحييها الكثير من الويلات خلال مذابح السفر برلك.

وكان الأب لابورد اليسوعي قد وافى مذيات وشيد كنيسة فيها وذلك سنة 1850، وعندما تأسست نواة طائفة السريان الكاثوليك في المدينة أعطيت الكنيسة لهم. وقد هدمت هذه الكنيسة بعد المذابح من قبل المسلمين الذين استعملوا حجارتها لبناء جامع قريب منها.

زرنا كنيسة مار برصوم القديمة للسريان الأرثوذكس، ثم زرنا مصلى الكلدان المكرس على اسم العذراء، والتقينا بالعائلة الكلدانية الوحيدة المتبقية في المدينة. ومن المعلوم أن عدد الكلدان في مذيات زمن المذابح كان أكثر من ثلاثمائة نسمة. وفي صيف سنة 1910 رسم لهم المطران إسرائيل أودو كاهن لخدمتهم هو الأب كوركيس آل بهلون، [1] وفتح في المدينة مدرسة لأبناء الطائفة. وكان الأب المذكور يخدم الكلدان في قرية كفر جوز أيضاً. وفي حزيران سنة 1915 ألقي القبض على نيف ومائة رجل من الكلدان والبروتستانت ، وبعد أن سجنوهم عشرة أيام نالوا خلالها أبشع أنواع التعذيب والتنكيل، تم سوقهم في 28 حزيران مثقلين بالأغلال في أعناقهم وأكتافهم فوصلوا بهم إلى قرية كفر حور وقتلوهم جميعاً ورموا جثثهم في بئر يدعى بئر سيطا.

وفي 16 تموز أمر القائممقام الجنود أن يطلقوا الرصاص على بيوت المسيحيين، لكن المسيحيين قاوموا بشجاعة فائقة. وعندما رأى القائممقام عدم قدرة الجنود على الفتك بالمسيحيين، استحضر العشائر الكردية من نواحي ديار بكر وماردين وسعرت والجزيرة وانضموا إلى الجنود في محاربة المسيحيين، واستمرت المعركة أسبوعاً كاملاً حتى فتكوا بالرجال والنساء وذبحوا الأطفال والرضعان، وقد بلغ عدد الشهداء زهاء عشرة آلاف نسمة، وقام الجنود ورجال العشائر بنقل جثث المسيحيين خارج المدينة، وبعد أن عروهم من ثيابهم حرقوهم جميعاً. ثم عادوا إلى المدينة ونهبوا بيوت المسيحيين ومخازنهم، وجمعوا 500 طفل من سن الخامسة وحتى السابعة وساروا بهم إلى قرية أنحل وسلموهم لمسيحيي القرية حتى يهتموا بهم.

وقد نجا من مسيحيي مذيات حوالي ألف نسمة هربوا ليلاً إلى قريتي عينورد وأنحل، وعندما علم بذلك قائممقام المدينة حرض العشائر الكردية للفتك بسكان القريتين. وبعد أن أعدوا العدة حاصروا القريتين المذكورتين، لكن سكانها الشجعان كانوا قد حصنوا القريتين وقاوموا بشجاعة العشائر الغازية، وعندما نفذت ذخيرتهم أذابوا الأواني النحاسية وحولوها إلى ذخيرة، وبعد حرب استمرت شهرين اندحر الأكراد تاركين ورائهم الكثير من جثث قتلاهم. وعليه طلب متصرف ماردين من سريان القريتين تسليم سلاحهم، لكنهم رفضوا الطلب. وعليه أرسل المتصرف جنود لمساعدة العشائر الكردية الذين حاصروا القريتين من جديد، وبعد معركة استمرت عشرة أيام سقطت القريتين بيد الوحوش المفترسة الذين قتلوا الرجال والنساء ذبحاً تاركين الأطفال لمصير مجهول. وبعد سقوط القريتين انقضت العشائر على أغلب قرى طور عبدين وقتلت سكانها ونهبت ممتلكاتهم.

ثم زرنا قصر جبرائيل ( كلي ) هرمز الذي يعتبر تحفة أثرية فريدة، واليوم تسكنه عائلة كردية. ومن المعلوم أن عائلة كلي هرمز الكلدانية موصلية الأصل، هجرت إلى مذيات منذ قرنين حاملة معها صناعة الحلاوة والطحينة، ونالت مكانة مرموقة في المنطقة، وجمعت ثروة طائلة. وبسبب مضايقات أهل مذيات لهم اعتنقوا البروتستانتية اعتقاداً منهم أن البعثات الأمريكانية سوف تحميهم وتحافظ على أموالهم وأملاكهم من شر أهل مذيات، وقد قتل أغلب رجال العائلة في مذابح السفر برلك بتحريض من وجهاء السريان الأرثوذكس بمذيات. ويقال أنه عندما خرجت القافلة التي تضم رجال عائلة كلي هرمز من مذيات وهي تساق للذبح، خرج حنا سفر كبير وجهاء السريان في المدينة إلى شرفة منزله ليتفرج عليهم. فالتفت كلي هرمز نحوه قائلاً: " أعلم يا حنا إننا بدسائسك ودسائس أصحابك وصلنا إلى هذه الحال. فنحن قد قضي أمرنا وعما قليل نصير إلى لقاء ربنا. أما أنت ويعاقبتك فتمتعوا بالحياة الدنيا. ولكن لا يفتك أنك ستقتل أنت أيضاً شر قتلة ". وفعلاً بعد فترة قصيرة قتل حنا سفر داخل مذيات ولعب بهامته أذل الحيوانات وأخسها. ولم يتوقف وجهاء السريان بمذيات عن إلحاق الأذى بهذه العائلة الكريمة وإهلاك من تبقى من رجالها. ففي 21 تموز 1918 رفع كل من: الخوري عيسى والقس جبرائيل ومحي كوو مختار السريان والوجيه موسى أسمر مضبطة بالتركية إلى متصرف ماردين جاء فيها: " إننا نحن جماعة اليعاقبة ما زلنا منذ ألف وخمسمائة سنة تحت ظل الملة الإسلامية والدولة العلية العثمانية. ونؤيد أن أموالنا وأرواحنا هي فدى لها. كل ذلك يؤيده جميع من عاشرهم وعرفهم. غير أن داود بن جبرائيل هرمز أحد وجهاء البروتستانت بمذيات ما برح متحداً مع اليزيدية، وهو أحد أعضاء الجمعية المنتمية إلى الأرمن والإنكليز والإميركان. وقد أقاموه بمثابة جاسوس يسعى في ما يؤول لانتصار الأرمن والإميركان. بل هو من وجهاء الجمعية الخنجكيانية الأرمنية . وهذا داود انهزم هو وابن أخيه جرجس وأبن أخته بولس وقت سوق القافلات من وجه الحكومة إلى أنحل وعينور وباسبرينا وحباب وسائر قرى اليعاقبة واليزيدية، وأثاروا الأكراد الجهال المغفلين ولقنوهم ليقاوموا الحكومة السنية. وما فتئوا منذ ثلاثة أعوام على هذه الحال. بل أن داود منذ استاقت الحكومة والده وأخوته لا يفتر من أن يثير الفتن والمشاغب على الحكومة، ويحاول أن يسترجع أموال والده وأملاكه الحاصلة اليوم في حوزتها، ويتظاهر بأنه منتمِ إلى اليعاقبة قصد الفوز بغايته هذه. مع أنه يفرغ كل جهده في القدح في أعراضنا ليثير الحكومة علينا. بل نراه يتنقص الحكومة ويصرح للأهالي بأنها جائرة ظالمة غدارة. ولا يخفى أنه إذا استمر في مذيات أزداد الفساد واستفحل الشر. بناء على ما ذكر نسترحم أن تصدروا في حقه أوامر النفي بالخفية، لئلا يطلع أصحابه ولا سيما المنصبون فيبلغوه ذلك، ويستعجلوه على الهرب كما جرى الأمر منذ سنتين. فنسترحم إذاً أن تجروا به مثلما يستحق جرمه ذلك تأميناًُ لحقوق اليعاقبة الأذلاء المساكين، وصيانة لحياتهم وإطلاق الحرية لهم في الأخذ والعطاء. وألا سلبت الأمنية بالمرة وازداد الفساد والاضطراب ". [2] لكن داود فلت من هذه المكيدة بأعجوبة.

بهذه الطريقة تصرف وجهاء مذيات السريان مع هذه العائلة، والسبب يعود إلى الثروة الهائلة التي كانت تمتلكها، وقد حاولوا كثيراً ابتزازهم بطرق ملتوية لكنهم لم ينالوا مأربهم. ومع بدء مجازر السفر برلك طلبوا من كلي هرمز أن يمدهم بالمال حتى يشتروا السلاح. فرفض طلبهم قائلاً أننا لا نستطيع أن نقف بوجه الدولة، وأما إذا قتلونا فهذا فخر لنا لأننا سننال إكليل الشهادة من أجل المسيح.

وعليه وشى وجهاء السريان على كلي هرمز لدى الدولة مدعين أنه عرض عليهم المال للتسلح، لكنهم رفضوا طلبه لأنهم مواطنين صالحين ولا يتمردوا على حكومتهم. وهكذا شجعوا السلطات للنيل من هذه العائلة الكريمة حتى يستولوا على أموالهم وممتلكاتهم.

انتقلنا إلى طرف المدينة لنزور دير مار هابيل ومار أبراهام، فاستقبلنا رئيس الدير الراهب إبراهيم، وبعد أن شرح لنا تاريخ الدير زرنا الكنيسة، ووقفنا أمام قبر القس الكلداني سليمان مقدسي موسى المدفون هناك، وهو أخر كاهن خدم رعية مذيات الكلدانية حتى الستينيات من القرن الماضي.

تركنا مذيات متوجهين إلى قرية أنحل ومنها نحو وادي بونصرا. يقع الوادي على السفح الشمالي لجبل إيزلا، ويتحدث التقليد أن تسمية الوادي جاءت من اسم الملك نبوخذنصر الذي دمر مملكة إسرائيل، وجلب معه آلاف السبايا ووضعهم في هذا الوادي السحيق. وقفنا عند نبع نهر الهرماس الذي يروي نصيبين وقراها، ويعرف هذا النهر عند العامة بنهر الجخجخ. وبعد استراحة ممتعة عند النبع الذي تحيط به الأشجار المثمرة والمناظر الخلابة، عدنا إلى دير مار كبرئيل. وبعد تناولنا طعام العشاء خلدنا إلى الرحلة بعد يوم طويل.

اليوم الثالث: الأربعاء 14 حزيران 2006

صباحاً بعد أن احتفل صاحب السيادة بالذبيحة الإلهية في كنيسة مار كبرئيل تناولنا طعام الفطور، ثم انطلقنا نحو مدينة سعرت. وفي الطريق توقفنا في قرية كفر جوز، ومن المعلوم أن مسيحيي القرية كانوا من الكلدان يعملون في الفلاحة والزراعة، وخلال مذابح السفر برلك جمع يوسف حسن شمدين آغا الرجال، واستاقهم حفاة عراة إلى النهر القريب من القرية، وألقاهم فيه حتى غرقوا جميعاً، وكانوا خلال الطريق ينشدون الترانيم مشجعين بعضهم بعضاً لنيل إكليل الشهادة.

أما الأطفال فقد وضعهم في زريبة للحيوانات وأقفل عليهم، وصادف أن مر بالقرية الشيخ فتح الله العينكافي المعروف بدماثة الأخلاق وحسن السلوك والسيرة، فسمع عويل وصراخ فسأل عما يجري هناك، وما أن عرف حقيقة الأمر حتى استشاط غضباً وفك أسر الأطفال ومضى بهم إلى مدينة مذيات، وهناك سلمهم لمسيحيي المدينة. أما النساء فقد نلن الكثير من ظلم الأغا، حتى تركن بيوتهن وما تحتويه وهربن بالتدريج نحو مدينة مذيات صوناً لشرفهن وحياتهن. توقفنا قليلاً أمام القرية متأملين سهولها التي يشقها النهر، الذي أضحى يوماً مذبحاً قدم عليه قرابين بشرية، عربون محبتهم للذي فدى نفسه من أجل خلاص البشر.

تركنا القرية متوجهين شمالاً نحو مدينة بطمان، ومنها شرقاً لنمر بمنطقة البشيرية، هذه المنطقة التي كانت مزروعة بعشرات القرى المسيحية العامرة، أغلب سكانها من سريان وأرمن أرثوذكس، وكان للسريان ديراً شهيراً في قرية قبينه على اسم مار قرياقس، وكان للسريان الأرثوذكس كرسياً أسقفياً في هزو، لكن الأسقف كان يسكن في دير مار قرياقس. ويبدو من خلال مراجعتنا للتاريخ أن الكلدان كان لهم كرسيان أسقفيان في منطقة البشيرية، واحد في " هزو " والثاني في " غوردلاية "، وبسبب تراجع الحضور الكلداني هناك، نجد المطران إيليا مطران آمد " ديار بكر " يضم المركزين المذكورين إلى أبرشيته وذلك في سنة 1610. واليوم أضحت المنطقة خالية من سكانها المسيحيين.

أكملنا المسير شرقاً لنصل إلى منطقة أرزون أو أرزن الشهيرة في تاريخ كنيسة المشرق، ويتحدث التقليد أن مار ماري رسول المشرق بشر أهلها وأنار فيهم الإيمان، وشيد هناك كنيسة دعيت باسمه. وكانت أرزون منذ بدايات المسيحية مركزاً أسقفياً يتبع كرسي نصيبين المطربوليطي، وفي العصور المتأخرة تبعت أبرشية حصن كيبا، ومنذ زمن الاتحاد تبعت أبرشية سعرت.

ويدعوا العامة منطقة أرزون باسم غرزان، وبعد أن خربت أرزون على أيدي السلجوقيين سنة 1048 دعي موقع المدينة خراب باجْار وتعني المدينة المهدمة، أما اليوم فتعرف باسم كورتلان.

وكانت المنطقة تضم العديد من القرى الكلدانية العامرة حتى مذابح السفر برلك نذكر منها: بيكند. بركي. رضوان. زوق. هللر. عين قصر. تل منار. كوخا. عزو. عين دير ويقال لها أيضاً عين دار، وموقع هذه القرى في جنوب غرب سعرت. وإلى جانب هذه القرى كان هناك قرى سكانها خليط من الكلدان والسريان الأرثوذكس نذكر منها: حسحس. مار مارونه. بيبو. تليبة. قمارو. كندور. زنكا. كوتيبة. وقد دمرت جميعها وفرغت من سكانها المسيحيين.

زرنا قرية بيكند وتعرف في تاريخ كنيسة المشرق بـ بصي نغد " بيث قند " وتعني مكان الوثب أو القفز الواقعة جنوب كورتلان بمسافة 7 كم، هذه القرية الشهيرة بحدائقها الغناء، وعيون المياه المتدفقة التي تروي بساتينها الغنية بالأشجار المثمرة. ووقفنا عند بعض البيوت المهجورة المبنية من الحجارة بشكل بديع، وعلمنا من سكان القرية أنها تعود لمسيحيي القرية، وقد قتل أغلب سكان القرية ورموا جثثهم في وادي يبعد مسيرة ساعتين منها. وشاهدنا شمال قرية بيكند خرائب دير مار يوحنا نحلايا، [3] وحتى اليوم يدعوا الأكراد موقع الدير باسم ديري. ومن المعلوم أن الدير قد ضبطه السريان الأرثوذكس من الكلدان سنة 1825 بقوة فتاح باشا الغرزي، وقد بدلوا اسم شفيع الدير وأطلقوا عليه اسم مار أحو. أما قرية رضوان القريبة وحسب رواية شاهدة عيان، فبعد أن قتلوا رجال القرية، جمعوا النساء والأطفال وصبوا عليهم النفط واحرقوهم جميعاً وهم أحياء. وعلى هذه الطريقة البشعة تم تصفية مسيحيي القرى المجاورة. ومن شدة البطش وقساوة الظلم اعتنق العديد منهم الإسلام. وقد اقترف الآغا جميل جتو من آغوات منطقة غرزان أبشع الجرائم بحق مسيحيي المنطقة.

تركنا القرية متوجهين شرقاً، وبعد أقل من نصف ساعة وصلنا إلى مدينة سعرت، وقد اختلف المؤلفين في تسمية هذه المدينة، فيطلق عليها أيضاً اسعرت أو سعرد أو اسعرد. وقديماً دعيت المتبددة وأيضاً المدينة البيضاء. ويقال أن لفظة سعرد لفظة كردية مركبة من كلمتين هي سي وتعني ثلاثة، و عرد تعني الأرض، لادعاهم أن المدينة خربت مرتين ثم بنيت مرة ثالثة.

تقع المدينة في سهل فسيح غزير العيون كثير الخصب، يكثر فيه أشجار التين والرمان والبندق والبطم والكروم. يروي سهولها الغربية نهر البوتان، وينساب نهر خازر غرب المدينة مسافة 3 كم. وتحيط بها جبال بتليس العالية شمالاً، ومن ناحية الجنوب الشرقي جبال البوتان الشامخة ويقال لها أيضاً جبال البوهتان. تأسس كرسي سعرت المطرابوليطي في زمن انضمام أبناء كنيسة المشرق إلى الكنيسة الكاثوليكية سنة 1553 وكان يتبعه أسقف أشي في جبل البوتان، وقبل هذا التاريخ كانت منطقة البوتان تتبع أبرشية آثيل، أما منطقة أرزون فكانت تتبع أبرشية حصن كيبا.

ومنذ سنة 1555 وحتى سنة 1600 كانت سعرت مقراً للكرسي البطريركي، حيث سكن ثلاثة بطاركة في دير مار يعقوب الحبيس [4] الواقع على قمة جبل يطل على نهر البوتان جنوب سعرت مسافة 8 كم. وهؤلاء البطاركة هم: عبد يشوع الرابع مارون. [5] يبالاها الرابع. [6] شمعون الثامن دنحا. [7] وبعد الانفصال بقيت الأبرشية خاضعة لبطريركية آمد الكاثوليكية. وفي بداية القرن السابع عشر ( سنة 1620 ) نجد حضور كثيف للمشارقة في سعرت، " يضم 3000 بيت في المدينة وجوارها، يخدمهم أسقف و25 كاهناً و80 شماساً، ولهم في المدينة كنيستان هما: 1_ مار كيوركيس. 2_ مار ميخائيل. ولهم ثلاثة أديرة هم: 1_ مار يعقوب الحبيس. 2_ مار كورئيل. 3_ مار صوريشوع. ". [8] وقد تعاقب على كرسيها منذ زمن الاتحاد وحتى تدميرها سنة 1915 ثلاثة عشر مطراناً.

ما أن دخلنا مدينة سعرت حتى توفقنا بشخص استطعنا من خلاله أن نصل إلى حي عين صليب، ووقفنا عند العين التي لا زالت باقية شاهدة على هذا الحي الذي كان يوماً مكتظاً بسكانه الكلدان.

ومن المعلوم أن سعرت كانت تضم حيين مسيحيين، الأول الحي الكلداني المعروف بـ عين صليب، ويضم الحي كاتدرائية العائلة المقدسة وإلى جانبها المطرانية الكلدانية، بالإضافة إلى أبنية عديدة لرسالة الرهبان الدومنيكان [9] كانت تضم ديراً ومدارس للفتيان والفتيات ومدرسة صناعية وميتمان، وكانت رسالة الدومنيكان في سعرت تضم 66 راهباً وراهبة، غادروا المدينة امتثالاً لأوامر السلطات العثمانية مع بداية المذابح.

وأما الثاني فهو الحي الأرمني، وكان العامة يدعوه تاخا صْور أي الحي الأحمر، وكان للكلدان فيه كنيسة على اسم مار كيوركيس. وفي حي عين صليب يجد المرء بيوت قديمة مبنية من الحجارة لا زالت قائمة، كانت يوماً ملكاً لمسيحيي المدينة، ثم زرنا موقع جامع الخليلي الذي كان يوماً كاتدرائية الكلدان واليوم هدم وحول إلى مقبرة. ومنها ذهبنا إلى جامع النبي الذي كان كنيسة الآباء الدومنيكان.

لم نستطيع التعرف على باقي المواقع مثل المطرانية الكلدانية التي حولت إلى مدرسة حكومية، والحي الأرمني وكنيسة مار كيوركيس الكلدانية التي حولت إلى قاعة لنشاطات مدرسية، ودير الدومنيكان الذي حول بعد المذابح إلى مشفى عسكري، كلها كانت في ذاكرتنا وكنا نتمنى مشاهدتها، لكن الدليل الذي رافقنا بعد أن عرف أننا مسيحيين أخذ يشمئز منا متهرباً من أسئلتنا.

وفي النهاية استطعنا أن نقنعه ليدلنا على موقع دير مار يعقوب الحبيس الواقع جنوب المدينة بمسافة 8 كم، ويعود بناء الدير إلى القرن الرابع.

وصلنا إلى موقع الدير لكننا مع الأسف الشديد لم نجد شيئاً، لقد هدم كلياً ولم يبقى منه أي أثر يذكر، وقد سيج بالأسلاك الشائكة حيث حول إلى موقع عسكري. وقد احتضن هذا الدير في ثراه أضرحة بطاركة عظام، بعد أن جعلوه مقراً لرئاستهم. بالإضافة لمطارنة أبرشية سعرت الذي اتخذوه مقر لكرسيهم حتى زمن المطران بطرس برتتر [10]( 1858 _ 1884 )، حيث شيد بناء المطرانية في سعرت ونقل الكرسي هناك، وكان المطران المذكور قد جلب من روما مطبعة وأحرف كلدانية لطباعة الكتب، وفتح في الدير إكليركية. كل ذلك ذهب في مهب الريح بسبب عبث الحاقدين، حتى مكتبته الغنية والشهيرة أضحت طعمت لنار أحد الآغوات بعد أن نهبها، ويقال أن الآغا حرق كتبها لمدة شهر كامل حتى قضى عليها، ويقال عن المكتبة أنها كانت منظمة ومفهرسة أكثر من المكتبات العالمية اليوم. وكان المطران ميخائيل كتولا [11] ( 1826 _ 1855 ) قد رمم الدير، وأحضر عشرة رهبان أنطونيين من دير الربان هرمزد قرب ألقوش لإعادة الحياة فيه، واستمرت حتى المذبح المشئومة. ومن الدير شاهدنا جبال البوتان الشامخة التي كانت تضم حتى بداية القرن الماضي العشرات من القرى الكلدانية، واليوم لم يبقى منها سوى الذكرى. ومن المعلوم أن المنطقة كانت تضم العشرات من الأديرة الشهيرة دمر أغلبها على مر السنين، ويذكر المؤرخين العديد منها التي لم يبقى منها أي أثر يذكر، منها دير مار شليطا [12] الذي يقع على بعد مسيرة يومين جنوب غرب سعرت على ضفة نهر دجلة.

وكانت القرى التابعة لأبرشية سعرت والواقعة على جبال البوتان جنوب شرق المدينة أكثر من أن تحصى نذكر منها: قطمس. مار كوريا. كيدوانيس. تل ميشار. بينكف. دهوك. راموران. دير ربان. دهمزيان. رضوان. ارجيقانيس. كلوابيه. قوريج. اوريج. بوريم. شويتا. روما. حاخ. بيروز. دينتاس. أرتون العليا. أرتون السفلى. كوبرتانس. تل. كيرأثيل. مارانش. مار شانس. صدغ. مار يعقوب. مارت شموني. أشي. حديد. دير شمش. قب. اجنبت. تل نيفرو. شرنخ. مار شمعون. دير مازن. بنكوف. مار شمعون. ارشكنس. كيب.

وفي تقرير رفعه البطريرك عمانوئيل إلى قنصل فرنسا في بلاد ما بين النهرين السيد م. روو بتاريخ 29 كانون الثاني 1919 يبين فيه أسماء القرى الكلدانية المدمرة وعدد الشهداء وحجم الخسائر المادية، ويذكر أسماء العشائر التي اقترفت هذه الجرائم نذكر منهم: عشائر باتوا ومما وسينك ودومان. وآغوات أرو والحلنزي والجوانكية وكند.

وشرق جبال البوتان تقع جبال هكاري التي كانت مكتظة بالمراكز الكثيرة التابعة لكنيسة المشرق، نذكر منها جولاميرك وتدعى أيضاً كولاميرين، والتي كانت تعرف قديماً بـ الكمار، " وكانت تضم في القرن الخامس عشر 3000 بيت، يخدمهم أسقف وعدد كافي من الكهنة والشمامسة، ولهم فيها كنيستان. " [13]

وقد وضع الخوري توما بجاري [14] الوكيل البطريركي الكلداني في دار السلطنة العثمانية في اسطنبول، قائمة بمراكز الكلدان في أبرشية سعرت، حيث يبلغ عددهم أكثر من عشرين ألف، نذكر منها: سعرت 2000 نسمة. صدغ 2000. تل ميشار 1500. أرتون العليا 1000. قطمس 1000. حديد 1000. مار كوريا 1000. بيروز 1000. أرتون السفلى 500. بيكند 500. بركي 500. مار يعقوب 500 . . . إلخ.

إن المصائب والمصاعب التي حلت بأبرشية سعرت يعجز اللسان عن وصفها، بسبب خشونة الوحوش البشرية التي انقضت بدون رحمة على أناس ودعاء مسالمين. وفي زمان المذابح كانت سعرت تتبع إدارياً ولاية بتليس. وقد بدأت المجازر بأمر من جودت بك والي وان، الذي ترأس فوجاً من العسكر تغلي في دمائهم مثله شهوة الذبح أطلق عليه " طابور القصابين "، هؤلاء الوحوش الذين اندفعوا نحو المسيحيين كالضباع الجائعة ناهبين قراهم متفننين في أساليب الفتك والذبح. لقد شكل قائمقام سعرت أنيس بك كتيبة من جنود قوامها مسلمون، أوكل إليهم مهمة تصفية مسيحيي المدينة.

ففي رسالة البطريرك الكلداني مار يوسف عمانوئيل الثاني إلى وزير الخارجية الفرنسية السيد ستيفان بيشون والمؤرخة في 29 كانون الثاني 1919 يتحدث فيها عن مذابح سعرت قائلاً: " اجتيحت أبرشية سعرت ودمرت تماماً، المطران والكهنة وسكانها المسيحيين والثلاثة والستين قرية التابعة لها، ذبحوا بأبشع أساليب الهمجية. دمرت الكنائس والأديرة والصرح الأسقفي والمؤسسات، كما نهبت الممتلكات واستولوا على الأوقاف وعلى أرزاق المؤمنين، وحل الخراب في كل مكان. اخص بالذكر مكتبة المطرانية الغنية بمخطوطاتها القيمة، هذه المكتبة التي كانت قبلة المؤرخين والباحثين والمستشرقين من جميع أنحاء العالم، هذه المكتبة حولت إلى رماد للأسف الشديد ". [15]

تأمل أيها القارئ اللبيب 63 قرية كلدانية أبيدت عن بكرة أبيها، فكم كان حجم الكارثة الذي حل في هذه الأبرشية، لو نطق وادي زرياب [16] عن عدد الجثث التي ألقيت فيه، سوف تذهل من قسوة عديمي الضمير، وهل تعلم أنه حتى يومنا هذا لو زرت الوادي المذكور ستجد بقايا عظام الشهداء.

ويقول الأب بطرس عابد الكلداني في تقريره المرفوع إلى الكردينال ماريني أمين سر مجمع الكنائس الشرقية والمؤرخ في 18 نيسان 1918، يصف ما جرى في سعرت قائلاً: " بدأت مذبحة مسيحيي سعرت في شهر أيار سنة 1915، وقد سبقت مذابح بيتليس بثلاثة أشهر فقط. بادئ الأمر سجنوا عدداً كبيراً من المسيحيين مع كهنتهم، ثم أخذ الجنود الأتراك يفتكون بمسيحيي المدينة، وانتقلوا منها إلى الأرياف، حيث عشرات القرى الكلدانية. في هذه المذابح لم يسلم أحد من المسيحيين هناك ". [17]

أما مسيحيي القرى فكانت مهمة تصفيتهم منوطاً بالعشائر الكردية، التي عملت على إبادة ما طال أياديهم القذرة، فارتكبوا أبشع جرائم القتل والذبح والاغتيال والسلب والنهب والتدمير. لأن المسيحيين كانوا أصحاب الصناعة والتجارة في المدينة، وملاكي الأراضي الزراعية الخصبة في القرى، يعملون فيها ليل نهار بجد ونشاط، وكانت تدر عليهم الغلال الوفيرة، لقد حولوا قراهم إلى جنات عدن لكثرة ما غرسوا فيها من أشجار مثمرة ومن جميع الأصناف وأجودها. أم المسلمين فكانوا خالين من المؤهلات، وما أن بدأت المذابح وجدوها فرصة سانحة للانقضاض على هؤلاء المسالمين وتصفيتهم وسلب أموالهم وممتلكاتهم.

وحسب رواية أحد الناجين من المذابح ويدعى هرمز، فبعد هربه إلى ماردين وهناك قابل المطران إسرائيل أودو حيث حدثه عما جرى في قرية أرتون [18] قائلاً: " بعد أن ذبح الشيخ عبدالله المطران توما رشو [19] ومعه 180 شخص من أبناء قرية آثيل، تجمع من تبقى من شباب القرية الكلدان ومعهم شباب من القرى المجاورة وهجموا على الشيخ المذكور وقتلوه، وما أن شاهد عبد الرحمن أخو الشيخ عبدالله ما جرى لأخيه أنتابه الخوف والفزع، فهرب إلى مدينة الموصل وبقي هناك ". [20]

وفي رسالة الأب فيليب شوريز السعرتي النائب البطريركي للكلدان في بغداد، إلى الأب الدومنيكي كوفروا حول حوادث سعرت، مؤرخة في 22 أيار 1917، يقول فيها: " لو عدتم يوماً ما إلى دار الرسالة الدومنيكية لما تعرفتم عليها، كل ما فيها قلب رأساً على عقب. في سعرت حولوا دار الرسالة إلى جامع، ومساكن المسيحيين صار يقطنها المسلمون. لقد ألقوا القبض على جميع الكلدان، واقتيدوا في الليلة التالية موثقين ببعضهم إلى وادي زرياب، وبعد أن جردوهم من ثيابهم أطلقوا عليهم نار بنادقهم بغزارة، فأردوهم جميعهم قتلى. وقيل عنهم أنهم صمدوا في وجه الجلادين الذين عرضوا عليهم الإسلام فرفضوه قطعاً، وساروا بثبات نحو الاستشهاد وهم يلفظون اسم يسوع المسيح له المجد، صافحين لجلاديهم القساة الخالية قلوبهم من الرحمة. أما النساء لما أرادوا النيل من فضيلتهن فضلن الموت على العار، لذا ساقوهن إلى خارج المدينة في طرقات مهجورة مجهولة، وكانت أصواتهن تصدح بتراتيل شجية، ويقال أنهن رجمن بالحجارة ومنهن قتلن رمياً بالرصاص. أسرة عبوش [21] وحدها قدمت قرابة الأربعين شهيداً ". [22]

ويتحدث الأب فيليب شوريز السعرتي عن مقتل الأب جبرائيل عبوش قائلاً: " غداة هرب المطران أدي شير ألقت الحكومة القبض على جميع كلدان سعرت، باستثناء النساء والأطفال ما دون الخامسة. وكذلك قبضوا على الأب جبرائيل عبوش الذي لم يغادر دار المطرانية، وذهب ليقيم الذبيحة الإلهية في الكاتدرائية لشعب مذعور منتحب محتمِ بالكنيسة، وبعد القداس صعد إلى سطح المطرانية حيث ألقوا القبض عليه، وساقه رجال الجثا [23] مقيد اليدين وضموه إلى الكلدان الذين كانوا بالسجن. وهناك استمع الأب عبوش إلى اعترافات أبناء رعيته خلال ثلاثة أيام، حاثاً إياهم على الثبات والصمود على إيمانهم المسيحي القويم. وقبل أن يربطوهم إلى بعضهم نزعوا عنهم ثيابهم، ثم اقتادوهم كقطيع أغنام إلى خارج المدينة، وهناك أمطروهم بوابل من الرصاص دون رحمة ولا شفقة. أما الأب جبرائيل عبوش فقد دفعوا به إلى خندق محيط بمنزل أحد الأغوات في سعرت، واخذوا يطعنوه بالخناجر، ثم سكبوا عليه النفط واحرقوه، وقد تحمل أقسى العذابات حتى طارت روحه إلى باريها شهيد إيمانه. وتقول رواية أخرى أنهم غرزوا في جسمه أمشاطاً وسفافيد حديدية حادة، كانت تحمى بالنار حتى تحمر، ثم تغرز في جسمه. وكانت أدعية الشهيد تسمع من بعيد وهو يردد: من أجلك يا يسوع، هلم إلى عوني يا يسوع المسيح ". [24]

أما الأختان ستيرا ووارينا بنتا القس حنا شماس كاهن الكلدان في قرية صدغ، فقد تحدثت ستيرا عن قصتها بالقول: " بعد أن قتلوا جميع كلدان قريتنا صدغ بما فيهم والدنا كاهن القرية وجميع أهلي، أخذنا الأكراد كسبايا إلى قرية كواتي، وعندما مر حاكم سعرت من القرية المذكورة وعرف بوجودنا هناك، أخذنا من الأكراد وكنت أنا ستيرا بعمر 18 سنة وأختي وارينا أصغر مني، وهناك في سعرت سخرنا بخدمة البيت. بعد فترة سافر هو وعائلته إلى حلب فأخذنا معه. وفي أحد الأيام كنت أتجول في حي يقال له الصليبي، ورأيت جموع من الناس تخرج من إحدى الأبنية، فسألت عنهم فقالوا أنهم مسيحيون يخرجون من الكنيسة. تفاجئت لأننا في سعرت كنا نسمع من العثمانيين والأكراد أنه لم يبقى على وجه الأرض لا مسيحيين ولا كنائس. وعندما عدت إلى المنزل فكرت في الهروب، وفي صباح اليوم التالي أخذت أختي وهربت بطريقة لم تشعر بها زوجة الحاكم ولا الحرس المرافق. ذهبت إلى تلك الكنيسة والتقيت بكاهنها الأب ميخائيل شعيا، [25] وبعد أن شرحت له قصتي، أخذنا عند عائلة عبوش الكلدانية السعرتية وبقينا عندهم. وقد بذل الحاكم جهداً كبيراً للعثور علينا، لكنه لم يفلح بذلك حتى غادر حلب إلى القسطنطينية ". [26]

وكان الأب جوزيف نعيّم الكلداني الرهاوي [27] الذي عانى أيضاً من قسوة الاضطهاد، حيث فقد العديد من أفراد أسرته، وذاق مرارة السجن والعذاب مدة 130 يوماً حتى أطلق سراحه في القسطنطينية. وهناك التقى العديد من الكلدان الناجين من مذابح سعرت، منهم المدعوة حلاته حنا التي حدثته عن مقتل المطران أدي شير [28] والعديد من الكهنة: " كنت بين نساء سعرت اللواتي سقن إلى الذبح وعددهن حوالي الألف، وفي الطريق قتل عدد كبير من النساء، وعند عبورنا نهر خازر رمت بعضهن أطفالهن في مياه النهر من جراء إرهاقهن الشديد، وما أن وصلنا إلى قرية بيكند أخذونا إلى المكان الذي قتلوا فيه كلدان القرية لذبحنا هناك. وقد تمكنت من الهروب عن طريق راعي كردي من قرية بيكند كان يتردد إلى بيتنا في سعرت. وبعد أن عدت إلى سعرت عملت طباخة عند حاكم المدينة بيرام فهمي بك. سمعت أن مسلمي المدينة قرروا أن لا يبقى أي مسيحي فيها، كان دار المطرانية في سعرت قبل مقتل المطران قد أصبح ملجأ لكهنة كنائس القرى هرباً من المذابح الجارية في قراهم، وممن أعرفهم هم الآباء: الأب جورج كاهن قرية بركي، والأب حنا كاهن قرية صداغ، والأبوين موسى ويوسف كاهني قرية كيدوانس، والأب ميشيل كاهن دير مار يعقوب، والأب يوسف كاهن قرية بيكند، والأبوين جرجيس وعازار كاهني قرية قوطميس، والأبوين عازر وهرمز كاهني سعرت، وسكرتير المطران الأب كبرئيل أدمو. جميعهم قتلوا بوحشية. كما وضعت السلطة المطران أدي شير تحت الإقامة الجبرية في دار المطرانية، بعد أن دفع رشوة لحاكم المدينة قدرها 500 باوند ذهبي بعد أن وعده بإبعاد القبائل الكردية المسلحة عن المدينة. وقد أرسل عثمان آغا الطنزي الرجل الشهم وهو صديق مقرب من المطران خمسة عشر من رجاله الأشداء، وحضروا إلى دار المطرانية ليلاً وأخرجوا المطران بعد تنكره بلباس كردي، وساروا به إلى قرية طنزي في جبال البوتان التي تبعد مسافة ستة ساعات سيراً على الأقدام، وهناك استقبله أحسن استقبال على أمل أن يسفره إلى الموصل للنجاة من مصير محتوم. وفي الصباح وما أن علمت السلطة بالأمر، حتى سيرت كتيبة من الجيش. وقبل وصولها إلى القرية أرسلت خبر للآغا تدعوه لتسليم المطران وألا قتل مع جميع أهل بيته ورجاله، لكنه رفض طلبهم قطعياً وأخذ عائلته وهرب تاركاً رجاله يحرسون المطران المخابئ في " ديري بسان "، قرب قرية دير شو [29]. وبعد قتال مرير كشفوا المخبأ وألقوا القبض على المطران، فعرضوا عليه الإسلام لقاء بقائه حياً، لكنه رفض طالباً منهم بضعة دقائق ليصلي فسمح له بذلك، وبعد أن انتهى من الصلاة أطلقوا النار عليه فاردوه قتيلاً، وقد رأيت بعيني خاتم المطران في إصبع أحد الضباط خلال تجواله في سعرت. كنت في بعض الأحيان أمر أمام كنيستنا الكبيرة التي حولت إلى إسطبل للحيوانات أشعر بحزن كبير وأجهش بالبكاء، وقد دنسوا مقبرتنا الكلدانية وقلعوا أحجار القبور وعبثوا بجثث الموتى. أينما أدرت وجهي رأيت مشاهد حية لقسوة المتزمتين، وكأن الجحيم فتحت أبوابها على أحيائنا الكلدانية. لقد رأيت بعيني كيف جمعوا الأطفال بين سن السادسة والخامسة عشر، وأخذوهم إلى قمة الجبل المعروف رأس الحجر، وهناك قطعوا رقابهم الواحد تلو الآخر، ورموا جثثهم في الوديان ". [30]

وفي مطرانية حلب الكلدانية وثيقة بخط الأب ( المطران ) صموئيل شوريز [31] تحت عنوان " أضواء جديدة على استشهاد المرحوم المطران أدي شير " مؤرخة في 23/ 3/ 1963 وهي شهادة للمدعو عبدو حنا بزر وهو من تولد ماردين سنة 1891. تحدث فيها عن مقتل المطران أدي شير نقلاً عن عثمان آغا الطنزي. وأنا شخصياً أتذكر العم عبدو وهو من طائفة الأرمن الكاثوليك قصير القامة يعتمر طربوش، وكان في مجالسه يتحدث دوماً عما شاهد أو سمع خلال المذابح، ولا أعلم هل ما كان يملكه من المعلومات قد وثق من قبل طائفته أو أهله. وقد وجدت من الضروري ذكر هذه الشهادة، كون العم عبدو بزر قد سمعها من فم عثمان آغا صديق المطران أدي شير. وهذا نص الشهادة: " في سنة 1916 ذهبت مع الجيش الألماني إلى قرية طنزي لأجل شراء مستلزمات لأجل صناعة الأكلاك. وهذه القرية تقع في جبال البوتان بين مدينتي الجزيرة وسعرت. وهناك التقيت عثمان آغا الذي قص عليّ ما جرى للمطران شير قائلاً: تعود صداقتي الحميمة مع المطران إلى سنة 1913عندما حكمت عليّ الحكومة العثمانية بالإعدام غيابياً، فذهبت إلى سعرت والتقيت المطران شارحاً له قضيتي. فاستقبلني أحسن استقبال ومضى بي إلى دير البواتري " الآباء الدومنيكان " وخبأني عندهم، وطلب منهم التوسط لدى القنصل الفرنسي في استنبول للحصول على عفو من الحكومة لي. وبالفعل نلت العفو بجهودهم. وفي سنة 1915 عندما بدأت المذابح بحق المسيحيين علمت أن المطران يعاني الكثير من المضايقات، فذهبت ليلاً مع ثلاثة من أخوتي إلى سعرت وهربنا المطران وجئنا به إلى قريتنا طنزي التي تبعد مسيرة 6 ساعات سيراً على الأقدام. ما أن وصلنا القرية حتى سألني المطران عن رعيته في القرية. فقلت له أنهم بخير وقد صعدوا إلى الجبال مختبئين داخل المغاير. فطلب مني أن أوصله عندهم، لكنني قلت له يجب أن أوصلك إلى الموصل حتى تنجو من الموت، لأن في منطقتي أعداء كثر لي وأخاف أن يعلموا الحكومة بوجودك عندي. فرفض المطران عرضي قائلاً: طالما أن أبنائي هنا فيجب عليّ أكون معهم في هذه المحنة، ومن المستحيل تركهم لأنجو بنفسي. وقد كررت عليه طلبي مراراً، لكنه رفضه رفضاً قاطعاً. وعليه أوصلته عند جماعته في الجبل. وبعد ثلاثة أيام طلبت مني الحكومة تسليم المطران المختبئ عندي، لكنني نكرت وجوده عندي قائلاً أنه هرب هو وجماعته ولا أدري إلى أين اتجهوا. وقد نلت الكثير من الويلات بسبب موقفي هذا، فهدمت ممتلكاتي وسلبت أموالي. وفي هذا الأثناء أرسل رسول محمد آغا وهو من ألذ أعدائي رجاله إلى الجبل للتأكد من مكان المطران وجماعته. وبعد أن عرف رسول آغا مكان وجود المطران، طلب من الحكومة أن تزوده بالجنود، فذهب إلى المكان المحدد وحاطه بالجنود ورجاله حتى القوا القبض على المطران. فاقتاد رسول آغا المطران إلى قرية تل ميشار التي تبعد مسيرة ساعة عن قرية طنزي، وهناك سلمه لضابط تركي. فطلب المطران من الضابط أن يمنحه بعض الوقت ليؤدي صلاة قصيرة، فسمح له الضابط بذلك. وبعد أن انتهى من صلاته سلمه الضابط لرسول آغا وطلب منه أن يقتله بطلقة نارية دون تعذيب. فاقتاده رسول إلى مغارة صغيرة شمال القرية وقتله هناك. ثم جاء رجال رسول واحرقوا جثة المطران شير. وأضاف عثمان آغا أن رسول آغا قتل كل كلدان قرية تل ميشار وعددهم 200 عائلة واستولى على جميع ممتلكاتهم، كما قتل كل المسيحيين الذين التجئوا إلى حمايتي. هذا ما نقله العم عبدو بزر عن عثمان آغا طنزي. ويختم شهادته قائلاً: لقد استطعت الذهاب إلى تل ميشار بعد سماعي الحدث من عثمان آغا، وصعدت إلى مكان مقتل المطران شير وشاهدت المغارة التي قتل فيها، وهي صغيرة وبالكاد تتسع لثلاثة أشخاص. ولا يزال رسول محمد آغا قاتل المطران حي يرزق، وقد هجر إلى سوريا وهو يعيش في قرية عين ديوار السورية المطلة على نهر دجلة في المثلث الحدودي السوري التركي العراقي ".

ويتحدث الأب بولس بيرو [32] عن استشهاد المطران شير بالقول: " سبق قبل أن تُسفر القافلة الأولى أن أوقف مار أدي شير، وعهد أمر حراسته إلى أحد أفراد شرطة سعرت، المدعو نور الله بن مولود. وبقي سيادته مسجوناً في قبو المركز الحكومي. وهناك لقي أصناف الإهانات، وعانى من الحرمان وجرد من ماله ومن مال الكنيسة، بعد أن هددوه بالقتل، حاول إنقاذه أحد آغوات طنزي المدعو عثمان آغا، رداً منه على المعروف الذي أسداه نحوه سيادته، وعلى الخدمات الجليلة التي قدمها له في مناسبات عدة، بالأخص لقاء ما أبداه سيادته من عطف نحو عائلة بدر خان أمير أكراد بوتان [33]. فما أن بلغ عثمان نبأ توقيف المطران أدي شير، حتى بادر إلى إنقاذه في الحال مخاطراً بحياته، فأرسل إلى سعرت 15 من رجاله الشجعان مدججين بالسلاح. فتوجهوا إلى منزل نور الله وانذروه وهددوه باسم الآغا عثمان، إن لم يسلم إليهم المطران أدي شير سالماً معافى، سينهبون قطعانه ويحرقون مزارعه. فرضخ للأمر الواقع، وفضل أن يسلم لهم المطران من أن يخسر قطعانه وزرعه. لذا أسلمه لهم، فهربوا به متسترين تحت جنح الليل، حتى بلغوا به قرية طنزي [34] مقر إقامة الآغا عثمان، الواقعة على بعد ست ساعات سيراً على الأقدام من سعرت، وهناك رحب به الآغا أحر ترحيب. إلا أن الشرطي نور الدين الموكول على حراسة المطران، تعرض إلى سخط رؤوسائه وعقابهم، رغم محاولته تبرئة ذاته بتبرير موقفه. وفي تزاحم تلك الأحداث اضطر عثمان آغا هو ورجاله إلى مغادرة القرية لرد هجوم قام به أعداؤه على ممتلكاته. ولحرصه الشديد على حياة المطران خبأه بكهف في هضبة " ديري بسان " [35]. إلا أن محمد أفندي أخ النائب عبد الرزاق، ذلك المشهود له بحقده على المسيحيين وتعطشه إلى دمائهم، أبلغ السلطات بهرب المطران واختفائه. فكلف الملازم الأول حمدي أفندي بقيادة كتيبة من الخيالة، ليتعقب أثار المطران الهارب. وفي ديري بسان اشتبك رجال الأمن العثماني مع حراس المطران، في معركة غير متكافئة لم يصمدوا فيها طويلاً أمام عدد وعدة المهاجمين، إذ حين نفذت ذخيرة الحراس لاذوا بالفرار تاركين المطران لقدره، فريسة بين أيدي مجرمين خلت قلوبهم من المشاعر الإنسانية. وحالما وجدوه أطلقوا عليه وابلاً من نيران بنادقهم فأردوه قتيلاً مضرجاً بدمائه. وهكذا فارق الحياة هذا المؤرخ الكبير والحبر الأثيل، الذي أدى خدمات جليلة لأمته والإنسانية. وتحية إجلال للأكراد هؤلاء وإن اشتهروا بالقسوة، إلا أنهم في هذا الموقف أبدوا شهامة ونبلاً. إذ عملوا جهدهم لحماية هذا الرجل العظيم. ولكن ما حيلتهم أمام العثمانيين المتفوقين عليهم عدداً وعدة، والمتفوقين أكثر في بربريتهم وهمجيتهم، إذ لم يتورعوا من قتل رجل من هذا الطراز الفريد. عزاؤنا أنه نال إكليل الشهادة، ويتمتع الآن بالسعادة الأبدية في الأخدار السماوية " [36].

ويتحدث الخور أسقف فيليبس شوريز عن استشهاد المطران شير بالقول: " لقد ألقي القبض على سيادة المطران أدي شير أواخر شهر أيار سنة 1915، وبعد أن دفع دية قدرها 500 ليرة عثمانية إلى المتصرف، لم يودع السجن إنما بقي تحت الإقامة الجبرية في دار المطرانية، تحت رقابة صديق بدر الدين مدير الشرطة. وفي إحدى الليالي أرسل عثمان آغا رجاله إلى دار المطرانية، وأنقذوا المطران بعد أن دلوه من فوق سور البناية متنكراً بزي كردي. وتوجهوا وإياه إلى منطقة البوتان، حيث التحق به وجهاء قرى صدخ وقطمس وحديد ومار كوريال. واحتموا بقرية طنزي اليزيدية الواقعة إلى شمال بلق. إلا أن حكومة سعرت سرعان ما عرفت بهرب المطران فلاحقته واكتشفت موقع اختبائه، فأرسلت في أثره مفارز من الدرك، فحاصروا القرية واحرقوها وقتلوا سكانها اليزيد والمسيحيين على حد سواء. وغافلهم المطران فهرب إلى الجبل محتمياً بعثمان آغا، وتحين فرصة ليتسلل إلى طريق جبلي متعرج، لعله يواصل سيره إلى الموصل برفقة شلة من رجال الآغا المسلحين. إلا أن الدرك هددوا الآغا بالقتل إن لم يدلهم على الطريق الذي سلكها المطران الهارب، فدلهم ولحق به الدرك المدججون بسلاحهم. وعلى سفح الجبل أدرك الحرس والمطران وفتحوا عليهم النار، وجرت مقابلة حامية الوطيس بين الطرفين. وعند نفاد ذخيرة حراس سيادته، ولوا الأدبار وتركوا المطران بيد الدرك، الذين ألقوا القبض عليه وقادوه إلى رئيسهم، الذي أمر برميه بالرصاص. فرجاهم المطران أن يمهلوه قليلاً ريثما يتهيأ للموت، عندئذ خلع لباسه الكردي وارتدى ثوبه الأسقفي ثم جثا على ركبتيه مصلياً. وبعد مضي عشر دقائق هب واقفاً ليقول لأولئك الرجال المصوبين إليه بنادقهم: ها أنا ذا مستعد للموت. وللحال أطلقت عليه خمس رصاصات اخترقت صدره، وهوى على أثرها صريعاً مضرجاً بدمائه الزكية، لتصعد روحه الطاهرة إلى باريها متوجة بإكليل الشهادة. وهذه الرواية قصها أحد الرجال الخمسة الذين أطلقوا النار على المطران أدي شير، بينما كان في حراسة مدير بنك الحكومة العثمانية وهو في طريقه إلى الموصل، ليلتحق هناك بمنصبه الجديد. وقد نقل عن المطران أدي شير قوله: أن الإمبراطورية العثمانية لن يطول حكمها أكثر من خمس سنين، ولعلها نبؤة، وقد تحققت فعلاً " [37].

وهناك شهادة للمدعو حنا جلو، والذي ينحدر من قرية ميدن القابعة في طور عبدين. نزح إلى سوريا وانضم إلى الجيش الفرنسي، وترقى إلى رتبة كرديموبيل لدى المستشار الفرنسي في منطقة عين ديوار، والواقعة في أقصى شمال شرق سوريا، على المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق عند نهر دجلة. وقد روى ما سمعه من الأخوين عكيد ورسول آغا وهذا نص الشهادة: " وصل إلى عين ديوار أخوان كرديان هما: عكيد آغا ورسول آغا أبناء إسماعيل آغا أحد زعيمي بلدة طنزي الكائنة في جبال البوتان جنوب شرقي تركيا، وذلك هرباً من سخط مصطفى كمال أتاتورك الذي أعدم المئات من زعماء الأكراد وآغاواتهم. وقد تعرفت عليهم، ومع الأيام توطدت العلاقة بيننا. فأخذ يرويان لي عن المجازر التي ارتكبوها بحق المسيحيين المسالمين في طنزي، وفي سياق الحديث ذكروا حادثة قتل المطران أدي شير، وكيف كانوا السبب المباشر في قتله. وقالا لي: يبدو أن الجريمة الفضيعة التي ارتكبناها بحق المسيحيين الأبرياء المسالمين، وخاصة بحق المطران أدي شير، هي التي تلاحقنا الآن. ويبدو أن الله ينتقم منا الآن جزاء ما اقترفناه بحق المسيحيين، فها أن ضميرنا يؤنبنا ويعذبنا ليل نهار. وأننا هاربون من ملاحقة مصطفى كمال زعيم تركيا، فقد كنا من زعماء الأكراد الأغنياء في منطقتنا، نملك الكثير، نأمر وننهي كما نشاء. أما اليوم فنحن مهاجرون وهاربون من وجه العدالة، ومطاردون لا نملك شيئاً. أما قصة مقتل المطران أدي شير فقد جرت على الشكل التالي: لما بدأت المجازر بحق المسيحيين وتم القضاء على معظمهم، فر المطران أدي شير من سعرت، وتوجه إلى قرية طنزي لدى صديقه عثمان آغا، ولما حل المطران ضيفاً على عثمان آغا، أراد عثمان الرجل الشهم أن ينقذ المطران من المصير الأسود الذي حل بالمسيحيين. وقد دافع عنه وأنزله في داره، مزمعاً أن ينقله سراً إلى مدينة الموصل. علماً أن تلك المنطقة كانت قد فرغت كلياً من الوجود المسيحي لأنهم ذبحوا جميعاً. وكانت العداوة شديدة بينه وبين إسماعيل آغا والد عكيد ورسول. وما أن علموا بوجود الضيف المسيحي لدى عدوهم عثمان آغا، في وقت كان يجب فيه أن يباد جميع المسيحيين كم نصت الأوامر السلطانية بذلك. ولما لم يكن بمقدور إسماعيل وولديه مجابهة عدوهم عثمان آغا، ويطلبوا منه أن يسلمهم ضيفه المسيحي ليقتلوه. فقد أسرع عكيد آغا في التوجه إلى سعرت، لإعلام السلطات هناك طالباً مساعدتهم. وقد استجابت السلطات له، وعاد ومعه مفرزة من الجيش النظامي بقيادة ضابط. وبوصول الجيش إلى طنزي توجهوا نحو بيت عثمان آغا، وأخذوا يضربون الرجال والنساء، يسألونهم عن مخبأ المطران، وكانت غرفة المطران في أعماق الدار. وما أن سمع المطران أصوات الجنود القادمين لقتله، وأصوات وصراخ الرجال والنساء من جراء الضرب والإهانات الموجه إليهم، حتى قام لفوره وخرج من غرفته ووقف وجهاً لوجه أمام الجنود قائلاً: أنا هو من تبحثون عنه، فلا تضربوا هؤلاء الأبرياء. أنني حاضر أمامكم فتفضلوا وافعلوا بي ما يطيب لكم. فألقى الجنود القبض عليه حالاً، وساقوه إلى دار رسول وعكيد آغا، حيث كان الضابط قائد المفرزة في المضافة منتظراً. وكان الضابط مثقفاً، وبعد محادثة قصيرة بالتركية أخذ يتحدثان بالفرنسية معاً. فقال له الضابط: لدينا أمر صريح بقتلك. فرد عليه المطران: أجل أني أعلم بذلك. فقال له الضابط: اعتنق الإسلام وستنجو، ولن يصيبك مكروه، بل لن يتجرأ أحد على مسك حينها. فرد عليه المطران وهو يضع يده على لحيته قائلاً: يا حضرة الضابط لا يليق بي أبداً أن أفعل ذلك، فإذا كان لديك أمر بقتلي فأنا حاضر للموت، ولا أستطيع أن أتخلى عن ديني وأعتنق الإسلام، فأهين نفسي وأحتقر ديني، وأخون جماعتي التي ائتمنتني. فأن مسؤول في طائفتي وديني، أرجو أن لا تطلب هذا مني. فقال له الضابط: إذاً استعد للموت. فرد عليه المطران: أنا حاضر يا حضرة الضابط. ولما كان الضابط لطيفاً في كلامه مع المطران، فقد أراد أن يقدم له هدية تقديرية، إذ كان يقتني في جيبه ساعة قيمة، فأخرجها وقدمها للضابط طالباً منه قبولها كهدية. فأخذها الضابط شاكراً. ثم قال له المطران: يا حضرة الضابط لدي طلب، أريد أن تقتلوني رمياً ب Opinions