رحلة حج إلى أبرشيات كنيسة المشرق المنسية " الجزء الرابع "
اليوم الخامس: الجمعة 16 حزيران 2006استيقظنا باكراً وتوجهنا إلى كنيسة الدير لحضور صلاة الصباح، ومن المعلوم أن دير الزعفران هو من أقدم أديرة السريان. يقع في الجهة الشرقية من ماردين، وكان في غابر الزمان حصناً منيعاً للرومان، وقد أخربه الفرس سنة 607 فبقي مهجوراً. ابتاعه مار حنانيا مطران ماردين بعد سنة 793 وجعله ديراً، واهتم في بنائه وتنظيمه واشتهر باسمه دير مار حنانيا. ويضم الدير كنيسة جميلة على شكل صليب، وفي الطابق الأعلى كنيسة الكرسي التي شيدت في نهاية القرن السابع عشر. وكان الدير مقر كرسي البطاركة السريان منذ القرن الثاني عشر، وكان البطريرك مار ميخائيل الأول أول من جلس فيه. واستمر الكرسي هناك حتى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث نقل إلى مدينة حمص السورية ومنها إلى دمشق. ويضم الدير الكثير من الغرف بالإضافة إلى العديد من القلالي حوله كانت مسكناً للرهبان والنساك. ويطلق على الدير اسم دير الزعفران أو الكركم، وقد جاءت هذه التسمية بعد القرن الخامس عشر، حيث يتحدث التقليد الشائع أنه خلال بناء الدير مر من هناك تاجراً يبيع نبات الكركم أو الزعفران، فاشترى منه رئيس الدير كمية كبيرة وخلطها مع مواد البناء، وبسبب ذلك أطلق على الدير هذا الاسم.
بعد أن تناولنا طعام الفطور غادرنا الدير متوجهين نحو مدينة ماردين، هذه المدينة الشهير في بلاد ما بين النهرين، والمشيدة فوق جبل باذخ، تعلوه قلعة حصينة، سماها الكتبة سيدة القلاع ومركز الحصار والدفاع. وماردين كلمة آرامية تعني الحصون. عرفت المدينة وجوارها المسيحية منذ القرن الثالث بفضل مطارنة نصيبين، ومنذ ذلك الزمن وجد فيها كرسي أسقفي يتبع مطرابوليطية نصيبين. وأضحت كرسياً أسقفياً مستقلاً منذ زمن الاتحاد، وقد تعاقب على كرسيها خمسة عشر مطراناً حتى منتصف القرن العشرين. وتضم المدينة اليوم 75 عائلة مسيحية، أكثرها من السريان الأرثوذكس وبضع عائلات من الأرمن والسريان الكاثوليك وعائلة كلدانية واحدة تسكن في دار المطرانية هي عائلة عدنان دهين. ويخدم هذه العائلات بمحبة وتفاني القس كبرئيل السرياني الأرثوذكسي.
ومن المعلوم أن ماردين وجوارها كانت غنية بالحضور المسيحي منذ البدايات، والدليل على ذلك كنائسها وأديارها القديمة التي تشهد على عراقتها بالقدم، ومنذ القرن الثاني عشر تقلصت هذه الصروح تدريجياً، إما بسبب مصادرتها من قبل الحكام وتحويل أبنيتها إلى جوامع كما جرى في زمن الأراتقة، وإما بسبب الحروب والغزوات كما حصل في زمن المغول. أما في بداية حكم العثمانيين الذين انزلوا بالمسيحيين النكبات والعقوبات، " فاضطر مسيحيي الصور والأحمدي وأستل ورشمل وعشائر المحلمية والراشدية والمخاشنية والأومرية أن يهجروا المسيحية ويدينوا بالإسلام حفاظاً على حياتهم ". [1] والدليل على ذلك الإحصاء الذي جرى في ماردين في بداية القرن السادس عشر، حيث نجد أن أغلب سكان ماردين كانوا من المسيحيين، وإلى جانبهم قلة من اليهود والشمسية [2] والإسلام.
وكانت أبرشية ماردين الكلدانية تضم في القرن الثامن عشر 50000 نسمة موزعين على المدينة و36 قرية، ولكن العدد تناقص كثيراً بسبب الاضطهادات العنيفة والمستمرة بحق المسيحيين. وقبيل المذابح كان للأبرشية عدة مراكز إلى جانب المدينة هي: نصيبين. مذيات. تل أرمن. ويران شهر. ديركي. وجميع هذه المركز دمرت بعد قتل سكانها وهجر من تبقى منهم.
وقد عانى مطرانها الأخير مار إسرائيل أودو الكثير من الصعوبات خلال المذابح، وكما مرة هدد بالاعتقال والقتل لكنه نجا من ذلك، وكم بذل من جهود ودفع ما كان يملك من الأموال في سبيل تحرير الكثير من النساء المسيحيات اللواتي كنا يسقن من سعرت وديار بكر والمناطق الأخرى إلى البرية مروراً بماردين. وخلاصة القول أن هذا الحبر الجليل لزم الصبر على المحن والبلايا، وفاضت عيناه بالدموع حزناً على أولاده، وجرح قلبه الكبير على ما آلت إليه أبرشيته. وقد كتب ما شاهده في ماردين، أو ما سمعه من شهود عيان من باقي المناطق في مذكراته. وكتب قصيدة تتحدث عما جرى خلال المذابح بلغة كلدانية صافية، جاءت في 16 صفحة من القطع المتوسط.
ويتحدث المطران إسرائيل أودو في مذكراته عن الشخصيات التي ارتكبت الجرائم بحق مسيحيي ماردين وجوارها: " مع بداية المذابح كان متصرف ماردين يدعى حلمي باشا، هذا الرجل الشريف رفض بشكل قاطع أوامر رشيد والي ديار بكر ورد عليه بشجاعة: لست رجلاً بلا ضمير، وليس لي ما ألوم به مسيحيي ماردين، ولن أنفذ أوامرك ما حييت. وبعد أيام أقيل من منصبه وعين بديل عنه شفيق بك, وهذا أيضاً لم يقبل بالمظالم التي كانت ترتكب وعارضها بشدة، فأقيل من منصبه بعد أربعين يوماً. وعليه شكل رشيد والي ديار بكر لجنة خاضعة له مباشرة مؤلفة من: عارف أفندي رئيس المحكمة الجنائية. توفيق بك. هارون قائد الشرطة. محمود مدير شرطة ماردين. وقد عين بدر الدين بك متصرفاً بديل عن شفيق بك، وفي عهدهم جرت هذه المظالم " [3].
وهنا لا بد من ذكر شخص نبيل هو وهبت بك قائمقام صْور قرب ماردين، الذي استضاف في منزله ومزرعته قرابة مائتي مسيحي أغلبهم من النساء والأطفال، افلتوا من القوافل التي كانت تمر بماردين. وقد أبدى شجاعة كبيرة للقيام بهذه المهمة الإنسانية الحميدة، في وقت كانت تسود البلاد موجة من الإرهاب والاضطهاد. وبعد هدوء العاصفة تركهم وشأنهم، فغادروا من عنده شاكرين أريحيته وشهامته.
أما الأب يوسف تفنكجي الكلداني فقد هرب من ماردين إلى جبل سنجار بسبب تهديده من قبل الأشرار، ليدفع لهم ما وضعته لديه حسب أدعاهم النساء الأرمنيات من أموال ومجوهرات كي يحافظ عليها، وبقي هناك من سنة 1915 وحتى نهاية سنة 1916 يخدم نفوس الكلدان الفارين هناك من جور الظالمين. وما أن عاد إلى ماردين حتى ألقي القبض عله في بداية سنة 1917 واتهم بالتجسس لصالح فرنسا، وفي السجن نال الكثير من الضرب حتى اقتلعت أظفاره عن أصابع رجليه. ثم سيق إلى سجن ديار بكر، وهناك احتمل شتى أنواع العذاب حتى صدر الحكم بإعدامه، فطلب منه أن يشهر إسلامه لينال العفو، وقد رد على طلبهم بثبات: " موتي في سبيل إيماني خير من حياتي مسلماً ".
لكن المطران سليمان صباغ ميز الحكم بمساعدة صديقه رضوان بك، ففسخ الحكم ونال العفو، وعاد إلى ماردين في شباط 1918 ضعيف البنية من سوء العذاب. فطلب منه المطران إسرائيل أودو أن يغادر ماردين خوفاً على حياته، فغادرها إلى سوريا ومنها إلى لبنان حيث استقر هناك حتى وفاته فيها سنة 1950.
أما الأب حنا يغمور الكلداني [4] فقد بقي مصيره مجهولاً حتى يومنا هذا، فبعد أن رسم كاهناً في الموصل سنة 1915. طلب منه المطران سليمان صباغ أن يعود إلى الرها ليخدم نفوس الرعية هناك، وبعد أن ترك الموصل في طريقه إلى الرها فقد أثره ولم يصل إلى مركز عمله، وعلى الأرجح قتل في الطريق.
أما الأب أوغسطين خرموش [5] فقد ألقي القبض عليه سنة 1929 وأدخل السجن. وعمل المطران إسرائيل أودو على إطلاق سراحه، ثم أرسله إلى الجزيرة العليا السورية ليخدم النفوس في مدينة الحسكة المستحدثة.
ما أن وصلنا المدينة حتى توجهنا إلى كاتدرائية الربان هرمز الكلدانية، والتي تعتبر أقدم كنيسة في المدينة إذ شيدت سنة 410 م، وقد تجمع العديد من مسيحيي المدينة، وبحضور المطران صليبا والقس كبرئيل أقام المطران أنطوان أودو السامي الاحترام قداساً احتفالياً.
بعد القداس وقفنا عند قبر المطران إسرائيل أودو أخر مطارنة ماردين، وإلى جانبه قبر المطران أغناطيوس دشتو وصلينا من أجل راحة نفسيهما، والقبران يقعان عن يمين المذبح. ثم زرنا قبر المطران إيليا ملوس [6] الواقع عن يسار المذبح وصلينا من أجل راحة نفسه.
ثم شاهدنا بئر الماء عند باب الكنيسة، هذا البئر الشهير الذي يتهافت عليه مسلمي ومسيحيي المدينة في عيد شفيع الكنيسة الربان هرمزد، لأخذ كمية من ماءه لرشها في البيوت حتى تقيهم من لسع العقارب، وعليه عرفت الكنيسة بين العامة بـ كنيسة العقرب أو بيعة العقرب.
ثم صعدنا إلى دار المطرانية وشاهدنا ما تبقى فيها من مخطوطات وكتب مبعثرة هنا وهناك مما يدمي القلب، وشاهدنا مكتب المطران إسرائيل أودو والذي يضم ثلاث لوحات زيتية رائعة لمطارنة ماردين هم: مار إسرائيل أودو. ومار طيمثاوس عطار [7]. ومار إيليا ملوس. إلى جانب العديد من الصور والتحف، وقد لفت نظرنا نظارات المطران إسرائيل المحفوظة في بيت من الفضة كتب عليه بالكلدانية أية من المزامير ترجمتها " أنر عيناي حتى لا ترى الموت ". لم نستطيع أخذ أي شيء من الموجودات، لأن جميعها مسجل لدى الدولة ومحسوبة من الأشياء الأثرية مسلمة لمسئول الكنيسة.
ثم زرنا كنيسة الأربعين شهيداً للسريان الأرثوذكس المشيدة في أواخر القرن الثاني عشر، وشاهدنا ما تحويه من أيقونات بديعة، وما يشد الانتباه ستار المذبح القماشي البديع، والذي يحمل صورة مار بهنام الشهيد ورفاقه الأربعين شهيداً.
غادرنا الكاتدرائية متوجهين إلى كاتدرائية مار يوسف للأرمن الكاثوليك، هذا الصرح الشامخ لأكبر طائفة كانت تسكن المدينة قبل المذابح حيث بلغ عددهم زهاء خمسة عشر ألف نسمة، وخلال المذابح سيقوا ونحروا كالخراف الوديعة مع مطرانهم الشهيد أغناطيوس مالويان [8] بالإضافة إلى 19 كاهناً، ولم ينجوا منهم إلا من هرب أو اختفى. ومن المعلوم أن المطران مالويان قد قتل في منطقة قره كيوبرو في الطريق بين ماردين وديار بكر ضمن قافلة مكونة من 417 شخص من مسيحيي ماردين عرفت بـ القفلة الأولى، وكان ضمنهم 36 شخصاً من كلدان ماردين حسب قول المطران إسرائيل أودو. ويقال أن محمود مدير شرطة ماردين قد قتله بيده، وهناك من يقول أن ممدوح بك قد قتله بمسدسه بعد أن رفض المطران مالويان جحد إيمانه واعتناق الإسلام حسب دعوة ممدوح.
ويتحدث المطران إسرائيل أودو في مذكراته عن انتقام العدالة الإلهية من قتلة المطران الشهيد مالويان: " بداية شباط 1922وفي منتصف الليل تدحرجت صخرة من أحد كهوف قلعة ماردين، وسقطت بسرعة على أحد بيوت المدينة، فهدمت سقف البيت على من فيه. وفي الصباح عمل الأهالي على إخراج الجثث من تحت الأنقاض وقد بلغت 12 جثة، وعرفنا أن صاحب البيت هو المدعو نوري بن زلفو البدليسي الأونباشي، الذي كان زمن المذابح كبير السجانين في سجن ماردين، وقد ارتكب الكثير من الجرائم بحق المسيحيين، حيث عذب الكهنة والمؤمنين وصلب بعضهم وخلع أظافرهم ووضع النفط في فمهم حتى خنقهم. وكان يفتخر بالقول أنه بيده ضرب المطران مالويان 12 عصا على رجليه. واليوم حل عليه الغضب الإلهي، فهذه الصخرة الغير مصنوعة بأيدي البشر أمرتها العناية الإلهية لتخرج من الكهف وتسقط على بيت هذا الطاغية، فهشمت عظامه وعظام نسائه وأبنائه وبناته، ودمرت مسكنه ولم يبقى له نسلاً في الأرض. فبدل الاثنا عشر عصا ضربها على رجلي المطران مالويان، هلكت العناية الإلهية هو وأفراد عائلته البالغة اثنا عشر شخصاً. مرحى للعدالة الإلهية كم هي قوية وقاسية وعادلة للانتقام من دماء الأبرياء " [9].
ومما يحز في النفس أن دار المطرانية الرائع البنيان تسكنه عائلة مسلمة، وبشق النفس فتحت لنا الباب لنزور هذه الكاتدرائية الجميلة البنيان.
ثم زرنا كاتدرائية العذراء للسريان الكاثوليك المشيدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت مقراً لبطاركتها، وإلى جانب الكاتدرائية زرنا دار البطريركية الرائع الجمال، هذا البناء الذي استولت عليه الدولة التركية وحولته إلى متحف للولاية. وقد عانى المطران جبرائيل تبوني [10] الكثير من المصاعب خلال المذابح، وفقد العديد من كهنة أبرشيته.
وبسبب ضيق الوقت لم نستطيع أن نزور العديد من الصروح الدينية الهامة في المدينة، منه ما بقي ومنه ما دمر أو غيرت معالمه مثل مركز الرهبنة الكبوشية في المدينة، التي وافى رهبانها ماردين سنة 1882، وشيدوا فيها كنيسة بديعة كانت قبتها مزينة بالنجوم، حتى أن العامة كانوا يدعوها كنيسة النجوم. وكان لهم إلى جانب الكنيسة ديراً للرهبان وأخر للراهبات، ومع بداية المذابح غادرت جميع الراهبات وأغلب الرهبان سوى راهبين هما: الأب دانيال الإيطالي الأصل، والأب ليونارد ملكي اللبناني الأصل. وقد قتل الأب ليونارد خلال المذبح، أما الأب دانيال فقد سجن ثم أطلق سراحه بعد أن دفع 150 ليرة ذهبية. وقد حولت كنيسة الكبوشية إلى أهراء، وديري الرهبان والراهبات حولا إلى مشفى عسكري، وضم ساحة الديرين إلى الطريق العمومي.
وعند الظهر غادرنا المدينة إلى نصيبين ومنها إلى الحدود السورية، وقد أبى إلا أن يرافقنا إلى الحدود نيافة المطران صليبا والقس كبرئيل، معبرين بذلك عن عمق محبتهم نحونا، فلهم منا جزيل الشكر والاحترام. وبهذا اليوم انهينا جولتنا الممتعة والمتعبة، تعرفنا من خلالها على الكثير مما كنا نسمعه من أحاديث الآباء والأجداد عن أرضهم الطيبة والتي سقوها بسخاء بدمائهم الزكية عبر الأجيال.
وهنا لا بد أن نذكر من كان يقف وراء هذه الفواجع التي حلت بمسيحيي السلطنة العثمانية عامة، وبكنيسة المشرق الكلدانية خاصة، مستعرضين ما نملك بهذا الشأن. يتحدث الأب هاويل زيا الكلداني [11] عن أسباب ما جرى بالقول: " من أجل مصالحها الاقتصادية أصبحت ألمانيا العسكرية شريكة لحكومة الشباب الأتراك، لم تحجم فقط عن إيقاف الجرائم ضد الإنسانية، بل شجعت جزاري المسيحيين الشرقيين بإرسالها ضباطاً إلى مواقع المجازر " [12].
وفي سنة 1914 مر القنصل الألماني بالجزيرة العمرية، وأعلن لقائمقام المدينة رأي حكومته في مسيحي السلطنة العثمانية: " ليكن معلومكم أن المسيحيين لديكم هم أصدقاء فرنسا وحلفاءهم، فهم خونة ومن الواجب عليكم أن تبيدوهم عن بكرة أبيهم ". [13] أما المارشال ليمان فون ساندر قائد القوات الألمانية التركية الموحدة فقد صرح لأحد أصدقائه ما يدور في خاطره قائلاً: " لو كان الأمر متعلقاً بي لأسلمت جميع المسيحيين للذبح، فهم جميعهم خونة ينوون الشر للحكومة العثمانية ". [14]
وقد رفع السفير الألماني في اسطنبول تقريراً سرياً لحكومته في 2 آب 1915 يعلمها فيه ما يجري في السلطنة جاء فيه: " إن الحكومة التركية مقدمة على التخلص من جميع مواطنيها المسيحيين في الأقاليم الشرقية من البلاد، أي بالقضاء على الجماعات المسيحية المتواجدة في آسيا الصغرى بكافة مللها ". [15]
يقول الأب دنكليمونير [16] بعد جولة سنة 1917 قام فيها للمناطق التي جرت فيها المذابح بعد أن نال أذن من السلطات العثمانية: " أن عمليات الاضطهاد في أماكن تواجد المسيحيين ستؤلف فصلاً خاصاً من تاريخ الحرب والتي لم يقترف مثيلها من القسوة حتى في العصور البربرية. ففي المدن أبعد الرجال من قبل الجنود إلى مناطق نائية بعيدة عن الأنظار ثم قتلوا من دون رحمة. أما في الأرياف فقد اعتمدوا على بعض القبائل الكردية فساعدتهم في حرق كل شيء وذبح الجميع، عدا النساء والأطفال الذين احتفظوا بهم كغنائم. وقد فقد الكلدان ثلاثة من أساقفتهم والعشرات من الكهنة وثلثي سكانهم في السلطنة. أما النساطرة فقد خسروا مائة ألف نسمة من رجالهم ومعظم أساقفتهم. في وقتنا الحاضر هناك عدة آلاف من الأرامل والأيتام الذين نجوا بأعجوبة، وهناك بعض الفتيات اللواتي اختطفن ووضعن للبيع كالماشية في مزدات علنية في الأسواق. بالإضافة إلى المئات من العائلات الكلدانية من دون أي وسيلة للعيش، وسوف يهلكون جوعاً إذا لم يتم إسعافهم ". [17]
وفي رسالة بعثها البطريرك يوسف عمانوئيل إلى رئيس وزراء فرنسا ألكسندر ميلارد في 29 كانون الثاني 1920 يبين فيها ما جرى بقوله: " اجلب انتباه سيادتكم إلى أن ستة أساقفة وخمسين كاهناً وخمسين ألف كلداني ذبحوا بيد الأتراك بموافقة ألمانية مستترة، ولكن أكيدة. ولقد تم ذلك ليس فقط كرهاً بالدين المسيحي، إنما أيضاً لأننا أتهمنا بالانحياز إلى الحلفاء. التمس من سيادتكم أن تطالبوا أعداءنا الأتراك والألمان بتعويضات نستحقها لقاء الدمار الذي سببوه لنا، والأموال والممتلكات التي استولوا عليها في أربع أبرشيات هي: سلاماس وأورمية في إيران، وسعرت والجزيرة في تركيا، وهذه الأبرشيات الأربع دمرت كلياً. وفي أبرشيتي ديار بكر وماردين اللتين تضررتا كثيراً ". [18]
بعد أن استعرضنا جزء يسير مما اقترفته يد الأجرام المنظم، ضد مسيحي السلطنة العثمانية الأبرياء الودعاء، وما تحملوا من مصاعب ومشقات وعذابات لم تضعف عزيمتهم. وقد تخلوا عن كل شيء دنيوي، وتشبثوا بإيمانهم بثبات وعزيمة لا تقهر. وصدق فيهم قول الرب: " وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ". وتحقق فيهم وصف لسان المشرق مار نرساي للشهداء في إحدى قصائده العصماء إذ يقول في بعض الأبيات: " * شن الشرير حرباً ضروساً على الشهداء بواسطة الملوك، فهو والملوك بالوعد والوعيد، هددوا الشهداء ليجحدوا إلههم، لكنهم لم يفعلوا. * بقدر ما كانوا يعذبونهم بقدر ذلك كانوا يفرحون، لأنهم كانوا يتذكرون مخلصهم، ولدى تعذيبهم من قبل الأعداء، كانوا برجاء سيدهم يعتصمون. * كان هؤلاء الأبطال في جهادهم يتذكرون الملكوت الذي لا يفنى، ويتعزون بوعد سيدهم: من يعترف بي يملك معي. * إن العذاب والشدائد في نظر المؤمنين كالخمر اللذيذة، والذين يقتلون من أجل الرب ينبتون كشقائق النعمان. * عجب الجلادون وملكهم من شدة عزيمة الشهداء، وقوة إلههم الذي سندهم وقت العذاب لئلا يضعفوا. * عجب العلويون من جهادهم، وكذلك جموع السماء لما سمعوهم يصيحون بصوت واحد: لن ننكر ذلك الذي صلب من أجلنا ". [19]
ويصف المطران إسرائيل أودو في مذكراته ما جرى بالقول: " من الواضح أن سبب الاضطهاد للشعب المسيحي هو الحقد الكمين والعدواة الدينية المتوارثة من جذور سامة قديمة الأزمان ضد كل من لا يعتنق الإسلام. بالختام نستطيع أن نجزم بأن الذين قتلوا من المسيحيين في آمد وسعرت وبازبدي وماردين ونصيبين وجوارهم من أساقفة وكهنة وشمامسة ورجال ونساء وشبان وشابات وأطفال، حسب رأيي هم شهداء حقيقيين للإيمان المسيحي، وعليه تستحق كنيسة المشرق الكلدانية أن تفتخر أمام أمم الأرض بأنها في القرن العشرين كما في القرون السابقة في عهد شابور وغيره، قدمت أكثر من عشرين ألف شهيد للمسيح كهدية ثمينة، ولا تزال مياه الحياة الروحية التي تفوق كل طبيعة تجري في جسمها. " [20]
الخاتمة
قد يستغرب البعض ويتسأل لماذا اخترت هذا العنوان. في الحقيقة ونحن كنا نستعد للانطلاق في رحلتنا هذه، كنت أفكر ما عسى أن يكون العنوان المناسب لهذا الحدث. وفجأة رددت في نفسي " رحلة حج إلى الأبرشيات المنسية "، ثم توقفت عند كلمة المنسية؟ وقلت لماذا هذه الكلمة الخنوعة التي تدعونا إلى الاستسلام. وتسألت أيجوز أن نكون مستسلمين لقدرنا ونحن أبناء من قام من القبر وأنتصر على الموت، هذا الذي منحنا الرجاء والخلاص فمَّمن نخاف، وهو حصن حياتنا فمَّمن نفزع. وهل تناسينا ما نردده مع بولس الرسول: " من أجلك نحن نعاني الموت طوال النهار، ونحسب كغنم للذبح ولكننا في هذه الشدائد ننتصر كل الانتصار بالذي أحبنا، لا شيء في الخليقة كلها يقدر أن يفصلنا عن محبة الله في المسيح يسوع ". وعليه تبنيت هذا العنوان دون تردد. فرحلتنا هي حج مقدس للتبرك من ديار الآباء والأجداد الذين سقوا بدمائهم الزكية ثراها الطيب. والمنسية علها تكون حافزاً لكل من نسى أو تناسى هذه الأرض الطيبة، حتى تبقى ذكراها العطرة معلقة في ذاكرة الأجيال.
وبما أننا أبناء الرجاء نؤمن بأن دماء الشهداء ستنبت من جديد سنابل مليئة بحنطة الإيمان والرجاء والمحبة، وسيأتي اليوم الذي يشع فيه نور المسيح على تلك الأرض التي أظلمتها وحشية العتاة. وأنني أؤمن بأن ذاك اليوم لناظره قريب، لأننا سوف نغلب الشر بالخير، ونطفئ جميع السهام الشريرة المشتعلة، حاملين الإيمان ترساً في كل وقت أمين. الهوامش:
1_ مدينة ماردين حسن شميساني ص 139.
2_ الشمسية: طائفة تعبد الشمس كانت تعيش في ماردين وجوارها ولهم فيها معابدهم الخاصة، وحتى يومنا هذا يوجد في ماردين محلة تدعى باب الشمسية.
3_ عضيبغريا " مكتبنوثا " " تأريخ " مخطوط للمطران إسرائيل أودو ص 25_ 27.
4_ الأب حنا يغمور: هو مجيد جرجس بحو يغمور كلداني من أبرشية آمد. ولد في الرها " أورفا " سنة 1891.دخل معهد شمعون الصفا الكهنوتي البطريركي بالموصل سنة 1910. رسمه كاهناً البطريرك يوسف عمانوئيل سنة 1914 ودعي حنا. شهيد الإيمان سنة 1916.
5_ الأب أوغسطين خرموش: كلداني من أبرشية ماردين. ولد في ماردين سنة 1892. درس في معهد شمعون الصفا الكهنوتي البطريركي بالموصل. رسمه كاهناً البطريرك يوسف عمانوئيل سنة 1914. خدم في ماردين حتى سنة 1929 حتى نقل للخدمة في الحسكة. توفي في الموصل سنة 1955 ونقل جثمانه إلى الحسكة ودفن في الكنيسة التي شيدها.
6_ المطران إيليا ملوس: تذكر نسبته في بعض المصادر ميلوس. ولد في ماردين سنة 1831. دخل الرهبنة الهرمزدية الأنطونية سنة 1850. رسم كاهناً سنة 1856. رسمه البطريرك يوسف أودو مطراناً على أبرشية عقرة. في سنة 1874 أرسل إلى الملبار وبقي هناك حتى سنة 1882. نقل إلى أبرشية ماردين سنة 1890 وخدم هناك حتى توفي سنة 1908 ودفن في كاتدرائيتها.
7_ المطران طيمثاوس عطار: ولد في آمد سنة 1834. درس في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير لبنان. رسم كاهناً سنة 1862. رسمه البطريرك يوسف أودو مطراناً على آمد سنة 1870. نقل إلى كرسي ماردين سنة 1873. ترك ماردين واستقر في آمد سنة 1883. توفي في آمد سنة 1891.
8_ المطران أغناطيوس مالويان: ولد في ماردين سنة 1869. درس في دير سيدة بزمار من سنة 1883 وحتى سنة 1895. رسم كاهناً سنة 1896. خدم في مصر من سنة 1897 وحتى سنة 1903. عين أميناً لسر البطريرك صباغيان في القسطنطينية من سنة 1904 وحتى سنة 1905. خدم مجدداً في مصر من سنة 1905 وحتى سنة 1910. رسم في روما مطراناً لأبرشية ماردين وذلك سنة 1911. نال إكليل الشهادة في 11 حزيران 1915.
9_ عضيبغريا " مكتبنوثا " " تأريخ " مخطوط للمطران إسرائيل أودو ص 117_ 118.
10_ المطران ( البطريرك ) جبرائيل تبوني: ولد في الموصل. درس في معهد مار يوحنا الحبيب للآباء الدومنيكان بالموصل. رسم كاهناً سنة 1902. رسم نائباً بطريركياً على ماردين سنة 1913. نقل إلى أبرشية حلب سنة 1921. انتخب بطريركاً للكنيسة السريانية الكاثوليكية سنة 1929. نال رتبة الكردينالية من روما. توفي في بيروت سنة 1968 ودفن في دير الشرفة.
11_ الأب ( المطران ) هاويل زيا: ولد في قرية ماوانا قرب أورمية سنة 1872. انتسب إلى الرهبنة اللعازرية. رسم مطراناً على أبرشية أورمية الكلدانية 1945. خدم أبرشيته حتى وفاته سنة 1951. له العديد من المؤلفات، وكان عالماً بالرياضيات. عاش حياته ناسكاً متواضعاً فنال احترام جميع الملل والنحل والمذاهب في أورمية.
12_ المسيحيون بين أنياب الوحوش مذكرات الأب جاك ريتوري القسم الثاني ملحق وضعه جوزيف اليشوران ص 355.
13_ المسيحيون بين أنياب الوحوش مذكرات الأب جاك ريتوري القسم الثاني ملحق وضعه جوزيف اليشوران ص 323.
14_ المسيحيون بين أنياب الوحوش مذكرات الأب جاك ريتوري القسم الثاني ملحق وضعه جوزيف اليشوران ص 322.
15_ المسيحيون بين أنياب الوحوش مذكرات الأب جاك ريتوري القسم الثاني ملحق وضعه جوزيف اليشوران ص 322.
16_ الأب دنكليمونير: كاهن ألماني من أبرشية سانت فرانس دي سيلز الكاثوليكية في مقاطعة بافاريا. عين سنة 1917 كاهناً لخدمة نفوس أسرى الحلفاء المعتقلين في معسكر أفيون التركي.
17_ هل ستفنى هذه الأمة الأب جوزيف نعيم ص 78_ 79.
18_ المسيحيون بين أنياب الوحوش مذكرات الأب جاك ريتوري القسم الثاني ملحق وضعة جوزيف اليشوران ص 353.
19_ محاورات شعرية مرتلة منسوبة إلى نرساي الملفان المطران لويس ساكو ص 69_ 76.
20-_ عضيبغريا " مكتبنوثا " " تأريخ " مخطوط للمطران إسرائيل أودو ص 22_ 23.