رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الشَّاعر الأب يوسف سعيد
أخَذَتْ قصيدة الطُّفولة من ديوان (السَّفر داخل المنافي البعيدة) للشاعر الأب يوسف سعيد*، وقتاً مطوَّلاً منّي، وكلَّما كنتُ أقرأها كنتُ أجد شيئاً جديداً، وما وجدتُ نفسي إلا وأنا غائصٌ في عالم هذا الشَّاعر المتدفِّق شعراً، مستمِّداً رحيق أشعاره من عالم الطُّفولة الرَّحب تارةً، ومن عالم الحياة تارةً أخرى. أيُّ عالم شفَّاف هذا الّذي يغرف منه الشَّاعر توهُّجات شعره المتلألئ في الذَّاكرة البعيدة!قصيدة الطُّفولة هي أشبه ما تكون بترتيلة الحياة، حياة الشَّاعر نفسه، إنّه يرغب عبر نصّه الشِّعري العودة إلى نقاء الطُّفولة، إلى الماضي الحميم، رغبةً منه في تجسيد هذا العالم المكتنـز بالصَّفاء ونزوعه إلى الحرّية، رغم قساوة الحياة الّتي عاشها! .. ومن خلال دراستي وتحليلي لهذه القصيدة، تبيّنَ لي أنَّ الشَّاعر أسقط بين ثنايا نصّه دلالات فكريّة وحياتيّة واجتماعيّة ورؤاه الكثيفة في الحياة وموقفه منها دون أيِّ تحفُّظٍ وكأنّه يتلو في حالة انتشاء ترتيلته المفضّلة من أخصب وأنقى محطّات عمره، حيث يبدو واضحاً أن الشَّاعر كتب قصيدته بكلِّ مشاعره وأحاسيسه وأحلامه ودمه وأعصابه، فهذه القصيدة هي أنشودته الروحانيّة الشَّفَّافة، والّتي انبثققَت من نقاط دمه، حيث يقول:
" أتركُ نقاط دمي على جوانب محبرة،
بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، ....
أشيِّدُ أعشاشاً لطيورٍ مصنوعة من دم الكلمات" ..
وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى أنَّ الشَّاعر ملتحم بكلّ مشاعره وأعصابه ودمه مع بناء القصيدة، فيعلنها صراحةً ويقول:
" هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر، ..."
طرح الشَّاعر موضوع الحرّية، ويبدو أن الشَّاعر يتوق توقاً عميقاً إلى الحرّية والتَّسامي والارتقاء والتَّأمُّل، وهذه الخصائل تشتركُ مع بعضها في مسألة صفاء الرُّوح ونبلها وسموِّها، حيث يقول:
"نفسي وهي في انتعاشتها المتسامية تحتسي شوقاً من مياه ينابيعها".
" جدائل ليلي قرب ساقية تروي شجرة التَّأمُّل" ..
" نسوةٌ قرب سريري يحدثنني عن هلاكي المؤجّل،
بينما أراقبُ كوكباً كبيراً، متمنِّياً الارتقاء إلى دياره،
هل في أحواضه السَّماويّة زنابق من نوع ٍآخر؟!" ..
هناك توق شديد لدى الشَّاعر للارتقاء والسُّموّ نحو أحضانِ السَّماء، وقد تلوَّنت شفافية روحه بهذا النزوع نحو عالم السُّموّ والارتقاء، ربّما لكونه أبّاً روحيَّاً، عمل أكثر من نصف قرن من الزَّمن في عالم الكهنوت وما يزال (يمارس طقوسه الكهنوتيّة رغم تقاعده عن العمل)، جنباً إلى جنب مع عالم الشِّعر، المتعطِّش إلى سماء القصيدة، سماء الرًّوح، سماء الإبداع، سماء الأب يوسف سعيد، وسماؤه لها نكهة خاصّة، نراها مطرّزة برحيق الكلمة، المتطايرة من تعاريج الحلم!.. مستمدّاً من رحاب رؤاه الحلميّة بناءً مختمراً في ذاكرة الشَّاعر التواّقة إلى مزج الواقع بالحلم والخيال فتأتي القصيدة متفرٍِّدة في بنائها وأسلوبها، حيث يقول:
" انّي أستيقظُ في ظهيرة النَّخيل،
أبحث عن مدنٍ متعرِّجة القلب، ...
انّي أحلم برائعِ نسكي،
وتصوُّفي أرجوزة خالدة" ..
" يوميّاً دجلة مع سرادقهِ البيضاء ينام في سفوحي" ..
"أحلم أن أنام على عتبات من مصاطب المرمر" ..
" كنتُ وحيداً مع أحلامي " ..
إنَّ ما يميِّز أسلوب الأب يوسف سعيد عن غيره من الشُّعراء هو عفويته في الكتابة ودمج نزوعه الصُّوفي الشَّفّاف مع رؤاه السُّورياليّة النابعة من تراكمات الحالات الحلميّة، ورؤاه المستمدّة من تجربته الحياتية الفسيحة في عالم الكلمة، حيث يقول:
" يخرج حلم المجدليّة من أحلامي" ..
"..ترشقني سهام الأحلام" ..
"وحدها الفراشات تستريح على أجنحة البرق" ..
هذه الصُّورة الشِّعريّة تحمل بُعداً عفويّاً مجنّحاً في عالم الإبداع! .. مع العلم أنّ الفراشات لا يمكن أن تستريح على أجنحةِ البرق، ولكن طالما ارتأى الشَّاعر أن يقول ذلك، فما علينا إلا أن نسمعَ إليه، دونما أن نناقشه في كيفيّة بناء هذه الصُّورة الغرائبيّة، لئلا نجرح أحاسيس (فراشات) الشَّاعر، لأنّه كما أنَّ للشاعر حساسيّة أدبيّة من نوع خاصّ، كذلك لفراشاته استراحات من نوعٍ خاصّ!
.. هناك حضور قوي للمرأة في قصيدته، مؤكّداً على أهميّة المرأة في حياة الإنسان من جهة، وإلى حاجة الإنسان للمرأة عبر العصور من جهةٍ أخرى!.. وقد طرحها عبر تساؤلات:
" هل ستأتي امرأة الحيّ إلى ديارنا؟
وهل في سلّةِ أحلامها عناقيد من عنب أو تفّاح أخضر؟
هل سترقص قرب سرير من الجوز؟" ..
وللشاعر موقف جليل تجاه الشُّعراء ويعتبرهم حكماء هذا العالم:
" .. ايُّها الشُّعراء أنتم حكماء العالم" ..
" مَنْ يقتلُ شعراءنا، يحذفُ مليون حكمة من دفاتر الشَّرائع" ..
ويعتبر الشَّاعر أنّ الشِّعر هو بمثابة روح الحياة، حيث يشبِّه العالم بإنسان، وهذا الإنسان (أعصابه من دماء الشِّعر).. إنّ حبَّ الأب يوسف سعيد للشعر والشُّعراء، جعله أن يضع الشَّاعر في مصافّ الحكماء والمشرِّعين، واعتبر الشِّعر عصب الحياة في هذا العالم:
"أعلنها صراحةً: هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر" ..
ونستشفّ من هذه الأمثلة أنَّ الشَّاعر لديه موقف تجاه نفسه كشاعر واتجاه الحياة كوجود، وموقفه تجاه نفسه هو أن يكون حكيماً يحمل بين جناحيه رحيق الشَّريعة والحكمة ليقدِّمها للحياة والوجود، وهناك نزوع ورغبة داخليّة في أعماق الشَّاعر للالتحام في الحياة، في هذا العالم الّذي يعيشه.
حملت قصيدة الطُّفولة بين ثناياها هموم الغربة وهموم الحياة، وهذه الهموم هي اِمتدادات لعذابات الطُّفولة وتشرُّدها، حيث عاش الشَّاعر طفولةً قاسية، ذاق خلالها مرارات التشرُّدِ والفقر، لكنّه مع كلّ هذا حافظ على نقاوته منذ الطُّفولة:
" لا شيء في حياة هذه الطُّفولة،
سوى ممارسة التشرُّد،
ماشياً بلا زوجين من الأحذية،
ومن فرط الانشقاقات في قميصي،
الشَّمس تغزو جسدي .." ..
إلا أنَّ الشَّاعر (الطُّفل) ما كان يهتمُّ بمسألة الفقر وما كانت الانشقاقات في قميصه تشكِّلُ له مشكلةً حتّى ولو غزَت الشَّمس جسده .. لقد كان يوسف سعيد (الطُّفل) كما يرسمه الشَّاعر، يحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن ولكنَّه كان أكثر سعادةً منهم (أي من الأغنياء)، لأنّه كان يستمدُّ سعادته من حرّيته وتجواله في غابات المدينة ويصوِّر لنا الشَّاعر هذه المواقف بوضوح في قصيدته حيث يقول:
" الموصل العذراء تعرف جيّداً كم كنتُ أعاني الفقر.
مراراً مارستُ طقوسه في سبوتي اليتيمة،
أمخرُ في عباب مياهِ الكنائس،
ومع هذا كنت أحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن،
لكنّني في تشرُّدي كنتُ أكثر سعادةً منهم،
كنتُ حرّاً في الظَّهيرة المحرقة،
أسوح في غابات المدينة" ..
إنَّ يوسف سعيد (الطّفل)، يحمل خصائص يوسف سعيد الشَّاعر، ويبدو من خلال تصوير الشَّاعر لطفولته، أنّه كان ينـزع نزوعاً عميقاً نحو الحرّية وهو طفل، وكان يحبُّ السُّموّ فوق المادّيات، مفضِّلاً مشاهدة الطُّيور في الحديقة عن لذائذ الطَّعام وكلّ هذا يشير إلى أنّ نفسيّة يوسف سعيد (الطّفل) كانت راقية وسامية بالرَّغم من الفقر الذّي كان يعانيه، وهذه إحدى الدَّلالات الّتي تشير إلى أنَّ الشَّاعر ما كان يهتم بمادّيات الحياة منذ نعومة أظفاره، وتبدو لنا مواقفه مجسّدة من خلال المقطع التَّالي:
" .. ربّما تلك القيلولة عادة مكتسبة في الظَّهيرة،
تناول الأغنياء غذاءهم الدَّسم من مقاصفهم.
أغزو موائدهم ببراثن جوعي،
أحياناً أنظر خلسةً،
آكلُّ سريعاً من مقاصفهم،
أتناول فتاتهم فقط، ثمَّ أهرع إلى برّية المدينة،
راكضاً وملاحقاً أسراب القبّرات وأعودُ أدراجي،
وقد نسيتُ لذائذ تلك المناسف،
مراقباً الطُّيور في الحديقة الوحيدة .." ..
إنَّ تفضيل يوسف سعيد (الطّفل)، مراقبة الطُّيور، عن لذائذ الطَّعام ينمّ عن وجود خصوصيّة مزاجيّة تقترب إلى عالم فضاءات الشِّعر والحرّية. ولو اهتمَّ منذ الطُّفولة بالمادّيات، لأصبحت هذه الاهتمامات في مقتبل الأيام على حساب حساسيته الشِّعريّة، ولكنّه لم ينجرف إلى عالم المادّيات رغم قساوة طفولته، لهذا حافظ على نقاوة ذاته الشِّعريّة، ويبدو لي أنّ يوسف سعيد (الطّفل)، كان في داخله شاعراً، وذلك من خلال سلوكه وتوقه إلى عالم الطُّيور والبراري الفسيحة، تاركاً خلفه لذائذ الطَّعام ومادّيات الحياة، مركِّزاً ومستمتعاً بمباهج الطَّبيعة. وعندما شبَّ الشَّاعر عن الطَّوق، وبدأ يمارس رسالته الكهنوتيّة، نراه يمارس (نزوعه الطُّفولي النقيّ)، حيث لم يجده أحد طوال رسالته الكهنوتيّة الّتي امتدّت أكثر من نصف قرن، أن قَبِلَ عرضاً ماليَّاً خلال قيامه بأعمال أكاليل الزَّفاف، والعماد ومراسيم التَّأبين والدَّفن والقائمة طويلة في المهمّات المترتِّبة عليه، على عكس رجالات الدِّين الآخرين، الّذين ما كانوا يتوانون دقيقة واحدة عن استلام الهبات الّتي كانت تُقدَّم إليهم، بل غالباً ما كانوا يبدون امتعاضهم لو كانت الهبة المقدّمة إليهم قليلة، لا يضعون بالإعتبار فقر الآخرين أو ظروفهم القاسية، لهذا نرى أنّ الأب يوسف سعيد حالة استثنائية نادرة في عالم اليوم!..حيث تحوَّلت العلاقات إلى عالم مادّي بغيض، إلا أنَّ الأب الشَّاعر كان بمنأى عن هذا العالم، ترك لذائذ الطَّعام منذ الطُّفولة، واتّخذ من القلم رايةً له غير مبالٍ بمادّيات هذا العالم على الإطلاق!
هل نجح في حمل القلم؟
نعم، نجحَ إلى حدٍّ بعيد!.. لم ينقطع الأب يوسف سعيد عن الكتابة منذ أن مارسها حتّى الآن، وهو في خريف العمر، يجد في الكتابة متعةً لا تضاهيها متعة على الإطلاق. وعندما يكتب نصّاً جديداً تراه يتّصل مع أصدقائه الشُّعراء ويقرأ لهم نصّه عبر الهاتف بفرحٍ عميق. كلّ هذا يدلّ بوضوح على نجاحه واستمتاعه في حمْلِ القلم.
أصدر عام 1958 مسرحيّة بعنوان المجزرة الأولى، ثم غاص في عالم الشِّعر، يغترف منه دون كللٍ أو ملل. وأصدر ديوانه الأوّل الموت واللُّغة عام 1968. يقول الأب يوسف سعيد في مقدِّمة الدِّيوان:
" إنّ لمجموعة الموت واللُّغة قصّة، كانت تربطنا بالمرحوم رئيف الخوري، الأديب الفذّ، صداقة عميقة. وكان رئيف إنساناً، حيَّاً في إنسانيَّته، عظيماً في تعبيره، ذا رسوخ في الأدب .. فجأةً غيَّبه الموت، وكأنَّني بموته وجدتُ أشياء جديدة في عالم الموت. وعشتُ في دوَّامة أربعين يوماً وأربعين ليلةً، أكتبُ ما يعصره المجهول عليّ. وولدَت هذه المجموعة، تجربة تحاول أن تتجاوز الموت باللُّغة!
تراني وقفتُ أمام الجدار أم اخترقته؟! " ...
هكذا يمرُّ الشَّاعر بإحدى رحلاته الشِّعريّة، معتكفاً أربعين يوماً وأربعين ليلةً، يكتب عن الموت، موت صديقه، موت الإنسان، محاولاً على حدّ قوله تجاوز الموت باللُّغة! .. فهل يستطيع الإنسان فعلاً أن يتجاوز الموت عبر اللغة؟! .. ربّما تمنح اللغة الكاتب، فضاءات جديدة، تنسيه ألم الفراق، تمنحه السَّلوى وتضمد جراحه، إلا أن الإنسان في النّهاية لا يستطيع تجاوز الموت لا باللغة ولا بأي وسيلة أخرى، لأنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة الّتي لا بدّ للبشر من عبورها، ولكن محاولة الأب يوسف سعيد في تجاوز الموت عبر اللغة، هو نوع من رفض العقل الباطني لموت الأصدقاء والأقرباء، موت إنسان عزيز!..لأن عقل الإنسان لا يتقبَّل الموت بشكلٍ عقلي، ولا يتقبّل الإنسان بسهولة فكرة الموت، لهذا يهرب منها أحياناً (من فكرة الموت)، ويواجهها أحياناً أخرى كما في حالة الأب يوسف سعيد، حيث نجده عبر ديوانه يواجه الموت باللُّغة، إلا أن هذه المواجهة ليسَت أكثر من تفريغ حالات حزنيّة وانفعاليّة، وفاءً منه لصديقه، وهو يعلم في قرارة نفسه أنّ الموت لا يمكن مواجهته ولا يمكن تجاوزه، ولكن الإنسان لا يبقى مكتوف الأيدي أمام صدمة موت الأعزَّاء، فهناك مَنْ يبكي بكاءً مرّاً، وهناك من يصمت صمت الموتى، ومَن يرتِّل ترتيلة الفراق والمبدع له المساحة الأكبر في تلقّيه الصَّدمة، نظراً لحساسيّته المرهفة تجاه الموت أو أي حدثٍ في الحياة! فنرى الأب يوسف سعيد يقول في قصيدة قبض الرِّيح:
"الرَّوضةُ تغنّي!
المنقار الورديُّ انفصل عن حساسية البلبل
لأنَّ قفص الفلاسفة سجنٌ غائر
آهٍ! .. أقدام الرَّابية تخور." ..
يشبّه الشَّاعر الإنسان كجزء من الطَّبيعة، فقد اعتبر أن موت صديقه أشبه ما يكون بأقدام رابية تخور! .. لقد كان الشَّاعر مصيباً عندما اعتبر الإنسان جزءاً من الطَّبيعة، ولكن كيف شبّه الموت بأقدام رابية تخور، فهذا ما يراه الشَّاعر! وفي قصيدة الموت واللغة، الّتي حملَت عنوان الديوان يقول:
" ... أنا جزءٌ من الموت
في سطح لساني عرقٌ أخضر
ينـزُّ على بوّابة مخّي،
لغةَ الإشارة والضّحك والنَّحيب والرُّموز
أَكنتُ ذات يومٍ إلهاً؟ قذىً؟ صخرةً؟!
بلى كنتُ تراباً
أدثِّرُ رأسي بالموت واللُّغة
ننشد في هيكل الكلس
تتمطّى اللُّغة في مركبات القواميس
الشّفرة الغامضة غامضة! " ..
يتساءل الشَّاعر أسئلة عديدة ويجيب عن أسئلته بتكثيف واضح،
" كنتُ تراباً
أدثِّرُ رأسي بالموت واللُّغة"
ثمَّ ينهي القصيدة بغموض، وكأنّه يريد أن يقول بقدر ما هو الموتُ واضح بقدر ماهو غامض أيضاً! وفي قصيدة استسلام، يقول الشَّاعر:
" سيَّجَ الموتُ أصابعي
انفصلَت الرُّوح عن الصدأ
مَنْ يلمسُ الموت؟ ...
حكمتي أن أرقدَ، أنامَ، أنسى القيامة الميلاد
أبيع في سوق النَّخاسة ذكراي وصداي وقميصي..
عشيرتي تبكي ...
هل في أفريقيا فردوس؟!! " ..
من خلال هذه القصيدة يتبيّنُ لنا أنَّ الشَّاعر لا يكترث للحياة كثيراً فهي فانية، نهايتها الموت، والموت قريبٌ من الإنسان في كلِّ لحظةٍ، وحكمة الشَّاعر بحسب منظوره هي أن يرقد، ينام، ينسى القيامة، الميلاد، أن يبيع ذكراه وصداه وقميصه في سوقِ النَّخاسة! .. انّه يستسلم للموتِ، معتبراً هذا الإستسلام حكمة. ولكن عشيرته ستبكي أثناء موته، متسائلاً في إقفال القصيدة:
"هل في أفريقيا فردوس؟!!" هو يعرف أنَّ لا فردوس في أفريقيا ولا في أيّ قارّة من قارّات العالم، لأنّ الموت هو نهاية النّهايات، هو مصبّ الإنسان!
وفي قصيدة الخلاص، يتساءل الشَّاعر:
" أنموتُ؟
لا أنتَ ولا أنا نموتُ
مخُّ الموتِ تحوَّل إلى الصَّدأ
إلى غبار كبريت
الفاجعة أنَّ الموت مات .. مات
مَنْ يشتري العفونة من تابوت قيصر؟
مَنْ يشتري الحياة؟!! " ..
لا يعتبر الشَّاعر موت الإنسان موتاً، بل يعتبر الموت مات وشبع موتاً، متسائلاً: "مَنْ يشتري العفونة من تابوت قيصر؟ مَنْ يشتري الحياة؟"، ربَّما يقصد الشَّاعر بالعفونة أنَّ جسد الإنسان، جسدٌ فانٍ وكذلك الحياة فانية هي الأخرى! .. وقد ترك لنا بين السُّطور أنَّ الرُّوح حيّة باقية لا تموت، من خلال قوله:" لا أنتَ ولا أنا نموت .." حيث نراه يقول في ختام قصيدة حصاد التَّجربة:
" امسحوا بمنديل العذارى عينيَّ الشَّاعر الّذي ينشد للأبديّة " ..
ثم أصدر ديوان: ويأتي صاحب الزّمان/ الديوان الثَّاني ويتألّف من قصيدة نثريّة واحدة، تدور أحداثها وعوالمها حول الكتب والأماكن المقدّسة، فيحلّق الشّاعر في فضاءات روحيّة فسيحة، مستعرضاً بأسلوب سردي أفكاره وتصوّراته، متَّخذاً من أنجيل المحبة منطلقاً له لبناء نصّ مفتوح على القدس وبابل وكربلاء والنَّجف وسائر الأماكن المقدّسة لدى مختلف الأديان والحضارات القديمة حيث يقول في مطلع القصيدة:
" في كفن الأسطورة الورديّة،
جفّفت كلمات إنجيل المحبّة.
وقلت لقافلة القدّيسين،
هل اللَّحظة في بؤبؤي عيني النّجف العذراء قلادة،
سبحة من شيخ؟" ..
نراه مركِّزاً على قدوم صاحب الزَّمان، ومَنْ هو صاحب الزَّمان، الّذي ينوّه الشَّاعر إلى قدومه على مدار القصيدة كلّها؟! .. هل هو المنقذ؟ ومَنْ هو هذا المنقذ؟ .. يقول الشَّاعر:
" وقلتُ للفتى الغرّير: ياصاحب الزَّمان،
توّجتَ هامتكَ بإكليل الشَّهادة،
وجذبتَ كتلة بيضاء من نور،
تسربل نبض النبوءة .." ..
مَنْ هو هذا الفتى الغرّير الّذي يشير إليه الشَّاعر؟ .. وينوّه الشَّاعر إلى أنَّ صاحب الزمان:
" سيأتي في ساعة بلا ظنون،
سيأتي في ليلة ليس للقمر ظلال،
وجفون النَّجوم في إغفاءة مقتطعة من سجف الدُّهور .." ..
" سيأتي صاحب الزَّمان،
حاملاً في كيسه الأخضر،
قنبلة من مياه الغمر،
وقيل قنبلة من رحيق الورود،
وقيل يحمل سيفاً،
يندلق منه رائحة الفلّ والنّسرين .."
ما هذا الرّبط ما بين القنبلة ومياه الغمر ورحيق الورود ورائحة الفلّ والنّسرين، التي يرسمها الشَّاعر في سياق تنويهه لقدوم صاحب الزّمان، وبنفس الوقت يقول سيأتي في ساعة بلا ظنون، أي في وقتٍ غير معلوم؟ .. ما هذا الضّباب الّذي يغلّف صاحب الزَّمان الّذي يتحدّث عنه الشّاعر، حيث نراه يسترسل في غموضٍ مسهب بطريقة قدومه:
" سيأتي صاحب الزّمان في اللَّحظة البكر،
في هبوب النّسيم على رعشة الجفون.
سيأتي بعد أن يستنـزف من أصابعه الخمسة رعشة الأشواق ..
سيقول لهذه الجحافل المنتظرة،
عمّموا هاماتكم بألوان من قوس قزح،
وادخلوا في سجف السّنين ثانيةً
لينام الوقت محنَّطاً في أوداجكم الورديّة ..
ويبقى البحر ثانيةً، وقد كُبِّلَت أمواجه الدَّهريّة لأيّام وسنين،
وعندما يتحوَّل الإنسان في كلِّ مكان إلى رقيم مطلسم،
يأتي صاحب الزَّمان على حافّة الحفر البابليّة ..
عادةً في الصَّباح الوليد يقرأ قصائده
وفي المساء يوقع على قيثارته
ذات الأوتار العشرة مزاميره الرَّقيقة ..
ويأتي ثانيةً صاحب الزَّمان وتبقى الحياة مجفّفة
داخل محارة الأسرار " ..
بهذه الصُّور والحالات المتفرّدة بالغرابة، يكتب الشَّاعر نصّه حول صاحب الزَّمان، فتارةً يصوِّره كإنسان يستنـزف من أصابعه رعشة الأشواق، وتارةً يصوِّره وكأنّه شاعر يقرأ قصائده في الصَّباح الوليد، وتارةً أخرى كموسيقي يعزف على قيثارته مزاميره الرَّقيقة! .. ما هذه الفضاءات الشِّعريّة الّتي يحلِّق فيها الشَّاعر عبر تجلِّياته الرَّحبة مركِّزاً على صاحب الزَّمان، أحياناً يحسُّ القارئ وكأنَّ الشَّاعر يعرف صاحب الزَّمان معرفة عميقة، وأحياناً أخرى يبدو وكأنّ الشَّاعر لا يعرفه على الإطلاق! ..
هذه المفارقة الشِّعريّة تدعنا أمام شاعر أطلق العنان لمخيّلته في أرقى حالات تجلّياته الشِّعريّة غير آبه لأيّة مفارقات، مركِّزاً على تدفُّقه الشِّعري بعفويَّته المعهودة، مجسِّداً بذلك خصوبة الخيال المتناثرة على مساحات الرُّؤى الرَّغائبيّة المتطايرة من أحلامه البعيدة، المنسوجة من ذاكرة شاعر، نذر نفسه للشعر والحياة والإنسان!
ويبدو واضحاً أنّ الشَّاعر متأثِّر بالفضاءات الدينيّة من خلال بناء نصّ القصيدة، حيث نراه يركِّز على الزَّيت المقدّس، ماء زمزم، هيكل، لغة الطقوس:
" يا صاحب الزَّمان .. في رحلة القدس،
تلمع حوافي البرق بأنوار الزَّيت المقدّس" ..
كما ركّز على لغة الكتاب المقدّس والأماكن التي وردت في الكتب المقدّسة كأورشليم/ القدس، كفرناحوم، سادوم وعامورة، كربلاء والنَّجف.. حيث يقول:
" .. وأورشليم تبتلع أسرار مدينة الموصل." ..
" .. وعلى ناصية لمذابح الرَّبّ يقرأ علينا تعويذة عن السِّنين ..
نسمعه يرتّل بالسّريانيّة ذات الجرس المبجّل الجميل" ..
"تريد أن تحمل على قماشة بيضاء كلمات تعازيك إلى كربلاء" ..
كلّ هذا يدلّ على اعتماد الشَّاعر على الفضاءات الرُّوحيّة الرَّحبة، والقصيدة بمجملها هي حالة من حالات تجلّيات الشَّاعر، ويبدو وكأنّ القصيدة مفتوحة على شواطئ المحبّة والحياة الفسيحة. إنّها ترنيمة بهيجة من ترنيمات الشَّاعر المنبثقة من تلألؤات قبّة الرُّوح!
ثمَّ يصدر ديوانه الثالث بعنوان: طبعة ثانية للتَّاريخ، وللوهلة الأولى يلاحظ القارئ بغرابة العنوان، وكأنَّ العنوان ليس له علاقة بالشِّعر، فعندما وقع هذا الدِّيوان تحت يدي توقَّعتُ أن للشاعر اهتمامات بالتَّاريخ لهذا ظننت أنّه ربّما يتناول مسائل تاريخيّة عبر كتابه هذا، لأنّ على غلاف الكتاب لا يوجد مايشير إلى أنّه شعر، أو نصّ، فقط العنوان ثمَّ الأب يوسف سعيد، منشورات الشَّباب، جونية ـ لبنان.
وعندما فتحتُ الكتاب وجدت الكتاب يتصدَّر مقاطع شعريّة شفافة بعنوان: إيماءات، مقطّعة إلى مقاطع شعريّة، اندهشتُ متمتماً، إذاً طبعة ثانية للتاريخ هو ديوان شعر وليس دراسة عن التَّاريخ، وهكذا من العنوان والمدخل يفاجئكَ الشَّاعر، وقبل أن أدخل في جوِّ الدِّيوان أريد أن أشير إلى أنَّ الأب يوسف سعيد فعلاً من المهتمِّين بالتّاريخ، وقد حصل على دكتوراه فخريّة من السويد في التَّاريخ، لمعرفته وإهتماماته الواسعة في هذا الحقل، لهذا فإنّ ورود اسم الدِّيوان بهذه الصِّيغة لم يأتِ من فراغ، وأتساءل، هل يريد الشَّاعر من خلال نصوصه أن يعيد صياغة التَّاريخ بطريقته أم أنّه كشاعر يريد أن يكون التَّاريخ بغير صياغاته التَّاريخيّة وإنّما يريدها بصيغة شعريّة كما يتخيّلها أو يريدها هو؟ وهذا يقودنا إلى تساؤل، هل هو غير راضٍ عن التَّاريخ كتاريخ لأنّه في أغلب الأحيان يُصاغ بطريقة بعيدة عن حقائق التَّاريخ! .. وهذا يذكِّرني بمقولة أحد المحلِّلين عندما قال "بما معناه": (إن أغلب مايرد في كتب التَّاريخ هو غير صحيح، ما عدا الأرقام والتَّواريخ وأسماء الأماكن والمدن والخ، وأغلب ما يرد في الرِّوايات هو صحيح ما عدا الأسماء والأماكن والتَّواريخ، لأنّها من بنات خيال الكاتب ...) ومن هنا نرى أنّه من الجائز أن نشكِّك بموضوعيّة التَّاريخ كتاريخ! .. نعود إلى مدخل القصائد، إيماءات، التي إنطلق منها الشَّاعر حيث يقول:
" انعطافات نهريّة داخل أزمنة مهرولة
فوق جسر الذُّهول.
صبّير يفتح درباً
في صدر الفضاء
ليحلب أثداء متدلّية.
جلد معبّأ باسفنجة بحريّة" ..
هكذا يبدأ الأب الشَّاعر إيماءاته، حيث نراه من الجملة الأولى يحلّق بفضاءاتٍ لا يمكن الإمساك بها، تقوده مخيّلته الجامحة في عالم الشِّعر، ما هذه الإنعطافات النَّهريّة داخل أزمنة مهرولة، تسير فوق جسر الذُّهول؟ .. هنا لبّ الفكرة الّتي تضع الإصبع على الجرح، وهي أزمنة مهرولة، وهل هناكَ أزمنة مهرولة مثلما نراها الآن، علماً أن الأب الشَّاعر كتبَ نصّه هذا منذ ربع قرن من الزَّمان، وكأنّه كان يقرأ هرولة الأزمنة، فوق جسر الذُّهول، نعم وهل يوجد ذهولاً أكثر من الذُّهول الذي نراه الآن؟ أنّه قمّة الذُّهول والإندهاش لما نراه على السَّاحة سواء في الشَّرق أو في الغرب، ويقول في مقطعٍ آخر:
" .. ضفاف من جيلٍ مرمد
يلولب بأصابعه الحجريّة
محارة خضراء.
لا محالة ، آتية تلك المسافة الأنثوية .." ..
هناك إشارة إلى أنَّ المرأة ستأخذ موقعها في المستقبل والجيل يلولب بأصابعه محارة خضراء، هل فعلاً تحقّق تخيّل الشَّاعر، ثمَّ يتأوَّه قائلاً:
" آهٍ .. أأجرؤ أن أقول
الفرح يزهر في جدران قصائدي؟ " ..
لغة التَّفاؤل واردة بقوّة في متون نصوص الأب الشَّاعر لأنّه ينظر إلى الحياة من منظور خيّر راغباً أن يتحقّق الخير والفرح للإنسان، حيث يقول:
" ثمّة إيماءات حارّة تصنع قفاز البهجة ...
تعانق وجه تفاحة الأفق
وتحتسي الحياة من وجنة الشَّمس" ..
كما يقول:
"..ضمائرٌ تتأرّجح على حبال المحبَّة
وتفتحُ أكثر من شراع فوق رأس تنّين الخليج" ..
وهل يوجد أكثر مما يوجد الآن من أشرعة فوق قمم الخليج ورأس الخليج وأعماق الخليج! .. منذ أكثر من ربع قرن يتوقّع الشَّاعر أن تنفتح الأشرعة فوقَ رأس تنّين الخليج! وهل يقصد بتنّين الخليج المرصرص بالنّفط، الذَّهب الأسود أم يقصد قوى الخليج؟! والشَّاعر يحبُّ العراق حبّاً رومانسيّاً عميقاً حيث يقول:
" العراق في بؤبؤي أقحوان" ..
إنّ مَنْ يدرس نصوص الأب الشَّاعر يجد جموحاً واضحاً في خياله:
"..يا رمشاً يحرِّكُ قطارات العالم في بواطني
ويسافر رابطاً قرن الشَّمس بأعضائه الناتئة." ..
وفي مطلع قصيدة المسافة يقول:
" في هذه المسافة فقط دوائر لها حفائر عميقة
لكنّها معبّأة بطين أحمر وأحذية الجنود القتلى." ..
وفي قصيدة، حناجر محنّطة بمادة الأوقات، يقول:
" .. أهواء الرُّوح، أنتِ أبعد من شهوةِ الجسد
وأقرب من تفاعل الماء
فوق أنسجة اللَّغة النَّامية
في حقول العقل." ..
من خلال هذا المقطع نرى أن الأب الشَّاعر يركِّز على شفافية الرُّوح وتوقها إلى عوالم العقل وابتعادها عن شهوة الجسد، وهو بهذا يلتصق بنـزوعه الصُّوفي النَّقي، مؤكِّداً على هذا النـُّزوع من خلال نصوصه. والأب الشَّاعر يجنح إلى التكثيف ولديه قصيدة بعنوان، لا ... يقول فيها:
" أيُّها اللَّيل،
هل ترصَّعَ جدار جسدي بالأوقات؟
لا ..." ..
يكتبُ قصيدة من بضعة كلمات، لكنّها معبّرة ومكثّفة ككثافة الوقت الذي أشار إليه عبر جملة شعريّة تساؤليّة.
وفي قصيدة رمل القمر، التي أهداها إلى الشَّاعر وديع سعادة، نراه يركِّزُ على، أهمّية الكلمة ونكهتها الطيّبة أكثر من العسل، ناسجاً فكرة أن يترك الشَّاعر لأطفالة الكلمة الطيّبة أفضل من أن يتركَ لهم قفائر العسل:
"عيناكَ حبّتان من رمل القمر،
ولعلَّها من قمح السَّنابل،
عيناكَ من فرط حبّكَ،
تحوّلتا إلى كهفين
لا يستوعبان هسيس خفّاشة صغيرة،
وعندما تنهدم أسوار مدينة القريض،
تلتهم ما بعثرته الرِّياح من شجن.
تلقيها في قفيرة نحل، وترحل،
ثمَّ تعود مثقلاً بالهموم، تبحثُ عن روضة ،
تخبِّئ فيها قفيرة جديدة، وترحل،
ثمَّ تعود إلى كلّ القفائر
فلا تجد فيها عسلاً، ولا خبزاً، ولا طعاماً.
ولكنَّكَ سترحلُ من جديد،
بعدَ أن تتركَ للرفاق قصيدة،
يحملونها إلى أطفالكَ،
ويقرأون في سطورها الأخيرة:
(القفار كلَّها فارغة، فكلوا من طيبات الكلمة) صبحاً، وظهراً، ومساءً." ..
لقد وضع، القفار كلّها فارغة، فكلوا من طيّبات الكلمة، بين قوسين فهل اقتبسها من الكتاب المقدّس لأنّها تحمل رؤية نكهة الحكم والأمثال الواردة في الكتاب المقدّس، وقد جاءت إنسيابيّة وكأنّها جزء لا يتجزّأ من النصّ.
وفي قصيدة فاتحة، يركِّز الشَّاعر على حميميّة القصيدة، على أنّها ثمينة للغاية، إلى درجة أنّه قارنها بالطُّفولة التي لا يمكن للإنسان أن يبيع طفله حتّى ولو كان الطّفل الخامس عشر، حيث يقول:
" من الممكن أن تبيع أثمن قلادة لؤلؤة في عنق التي تحبّها،
ولكنَّكَ لا تستطيع أن تبيع طفلكَ الخامس عشر،
ولا يمكن أن تبيع قصائدكَ للناس
وقصائدى أنا، أبداً لا تُباع" ..
والشَّاعر يحبُّ الطَّبيعة حبّاً عميقاً، إلى درجة أنّه يريد أن يتوحَّد مع الطَّبيعة، ويتجلَّى لنا حبّه هذا من خلال قصيدة بعنوان، حديقة:
" لأنّني وحدي أحبِّذ ماء يتفصّد من مسامات جسدي
تمتدُّ أصابعه عبر السُّهول،
وأطرافه تلوب، تتكوَّر، تمتدّ،
وفي الأخير جسدي يصنع حديقة" ..
والشَّاعر معروف بنصّه الجامح نحو إدهاش القارئ، يقول في ختام قصيدة نصوص:
" .. وبعد أن تعشّى جسد الغمامة،
توارى ثانيةً داخل أحشاء اللغة" ..
ومن شدّة شغفه بالموجودات التي تحيطه يتواصل معها وينغمس فيها وكأنّه جزء منها أو جزء منه، ففي قصيدة أثداء ، يقول:
" غداً، عندما يبحثُ اللَّيل عن جدائله القديمة
يعانق صوتي مساءات عظيمة،
ويرتدي جسدي صبائح مستقبل بعيد،
حينئذٍ أكونُ كساقية، يرتعش الضَّوء في خريرها .." ..
وفي قصيدة: أحشاء الكلمة، يركّز الشَّاعر على أنّه تحرّر من ولادته القديمة:
" .. في حلمي قرّرتُ أن أتحرَّر من ولادتي القديمة .. "
ماذا يقصد الشَّاعر بتحرُّره من ولادته القديمة، هل يقصد بأنها ما كانت بالقدر الذي تناسبه وبالتَّالي تحرَّر منها، ثمّّ يُركِّز على المكان لأنّه غذاء للشعر حيث يقول:
" ..سيحون، نهر آلهة العراق، يغذّي قريحتي بالشِّعر،
بعطرِ أمواجه تتجدّد خيالات قصائدي" ..
وله نزوع نحو الهدوء والتفاؤل:
" لماذا لا يطلع من تجاويف الغضب ابتسامة؟
ولماذا لا يأتي الهدوء التَّام ..
سنين ويندمل جرحها" ..
وفي قصيدة: المخيّلة، يجمح الشّاعر نحو عوالمه الفسيحة متنقلاً عبر المخيّلة ما بين الينابيع الوارفة والرِّيح وشعائر الرّقص واللَّيالي الحالمة و الأنغام الشَّجيّة:
"عزّيفاً يطلع من ناعورة الدَّم ..
" منتهياً بمرأة ..
ترتدي فقط قهقهة الجداول ..
وتستنشق رائحة البيلسان" ..
هذا هو عالم الشَّاعر الذّي يحلّق فيه، جموح تدفُّقات الخيال! .. وفي قصيدة برقيات شعريّة، هناك تبادل البرقيات ما بين الشَّاعر وصديقه الشَّاعر صلاح فائق، وأتساءل بدوري هل النصّ من وحي المخيّلة والذَّاكرة أم أنها برقيات متبادلة بينه وبين صديقه، حيث يقول:
" ماذا في الوطن الحبيب"
" في مدينتكَ الموصل يقام مهرجان لأبي تمّام،
تحدّثوا مراراً عن الزَّبدِ المجفف" ..
فيسأل الشَّاعر صديقه:
" إنّ حبّة الرَّمل ترتاحُ جدّاً للحديث عنها فكيف الزَّبد؟ ...
بلّغ أبي تمّام تحياتي" .
" ماذا تكتب في السّويد؟".
" أرتِّق الجانب الأيمن من اضبارة الشِّعر، وأنت؟".
" إنَّ مرض الدّفتريا، يغزو سطور قصائدي ".
فيجيبه الشَّاعر:
" اطمئن! فالرِّيحُ لا تكذب، ارحم بؤبؤيكَ قليلاً"
فيجيب صلاح فائق الشَّاعر قائلاً:
" .. الشَّاعر الذي أهمله الرِّفاق، الآن يحتسي رحيق أزهاره".
وهكذا يقفل الشَّاعر القصيدة وهو " يحتسي رحيق أزهاره" وهذا الرَّحيق هو الشِّعر الذي يعانق الشَّاعر في محطّات غربته، فأينما يرحل وأينما يحلّ يضمُّه الشِّعر وهو يضمُّ عبق الشِّعر ، ويعتبر القصيدة صديقته الأبدية، لا تفارقه أبداً، فأغلب الأحيان، إمّا تراه يكتب شعراً أو يقرأُ شعراً، هناكَ علاقة شعريّة حميمة مفتوحة تعانق هضاب ذاكرة الشَّاعر، ويتواصل مع الشُّعراء والفنّانين من كلِّ حدبٍ وصوب، هوذا يكتب قصيدة عن رحيل جون ميرو، حيث يقول:
" .. ماتَ جون ميرو كموت العضلة في فخذ الجبابرة،
وحده مات ميرو كما تموت الغابات في سيبيريا .." .
وفي قصيدة أسمال بالية يتحدّث عن أهميّة العقل حيث يقول على لسان الصُّوفي:
" .. وحده الصُّوفي، يستطيع أن يرتدي أسماله البالية
ويسير في أسواق مدينة كركوك ..
توارى ذلكَ الصُّوفي وكتبَ على عمود المرمر
أنا أصطاد حجل الجبال الشِّمالية،
ثمَّ أرحلُ صوب الصَّحراء العربيّة لأصطاد قبَّرة العقل" ...
وعلى غلاف ديوان : الشموع ذات الاشتعال المتأخر، نقرأ انطباع بعض الشعراء بكلمات موجزة مكثفة تعبر عن مدى ولوجهم إلى عوالم الأب يوسف سعيد في ديوانه المفعم بتجليات الإبداع.
يقول وديع سعادة:
"يكتب كمن يصلّي لله والإنسان بلغة فيلسوف ميِّت من السكر، كأندريه بروتون، تحت نخلة عراقية أو كسلفادور دالي يقيم قداساً".
بينما محمد علي شمس الدين يقول:
"كأنّ المصهر الذي تنصهر فيه أدوات هذا الشعر مركَّب من لغة وصورة ذهن في آخر تطوّراتها، ودونما المرور بأية محطّة للغناء، أو الوجدان أو الحكاية أو الاشراق .... وهي عدّة الشاعر الشرقي على العموم".
وأمّا صباح خرّاط زوين فيرى الأب يوسف سعيد:
"يستقر على الرابية، لا يهتم لالتصاقه بالقمّة أو بالله كما في الحالات السلبيّة الشعرية القصوى، لا يطمح إلى الصعود كما لا يقع في تجربة النزول".
في حين يوسف بزّي يرى أن الأب يوسف سعيد:
"يتمتّع بطوباوية حارّة تشبه الرسم المسربل من الفضاء حيث يتبيّن من قصائده شرود جامح نحو شروق الله والوطن من عبثيات الأشياء وانتظامها"!
ويقول جو الحاج:
"الأب بوسف سعيد يتلو عظّته شعراً ويحكي مع رعيته شعراً ويناجي ربّه شعراً، حتّى انّك لتراه ولا تراه يتنفّسُ شعراً في رعشات صافية".
ومن أجواء هذا الديوان، ومن قصيدة: الموصل، نقتطف إليكم هذه المقاطع الشعرية:
" فيها نار تتقمّص روحاً كبريتيّة،
فيها حضارة متباعدة
يلمع اسفينها الأخضر كحجرة ساقطة من نيزك
صبائحها تتقمّص لون البنفسج
غاباتها تداعب حشرات لامعة
جدارنها تتنفّس رحيق الطحالب
أهدابها الوردية تستقطر خلاصة رحيق الزعفران ..
الموصل اخصابٌ مبارك
طائرات ورقيّة ملوّنة
رغبة معلّقة فوق جسر العصور
الموصل، النظرة اللامتناهية لمسيرة الأفلاك
جذور ملوّنة في غيمة الصباح
تغتسل جسدها برغوة الربيع
شاعر مخضّب بالخيال الجامح، تتوهّج تجليات الأب يوسف سعيد، يستوحي من نشيد الأناشيد من سفر الرؤيا قصائد شعرية عذبة فيها تدفُّقات شفيفة وعذبة، تغفو فوق نصاعة غيمة وتزدهي بالسموّ والصفاء كأنها بخور الحياة، ينقلكَ إلى عوالم فسيحة، قسّم الديوان إلى اثني وعشرين فصلاً، كل فصل عبارة عن نصّ شعري متدفّق بالصور الفياضة وتوق عميق إلى مروج الروح!
يقول الأب يوسف سعيد في مستهل ديوانه سفر الرؤية، تحت عنوان كلمة عابرة:
"هذا السفر هو السفر المقفول، والموصد والمغلق، وتأويلاته لا تعدّ ولا تحصى، وأرقامه تشبه زوبعة بحرية، وعندما تقرأ باقي الأسفار، كأنّكَ السالك في طريق صحراوي تعرفه أرباب القوافل، وإذا سلكتَ فيه، ما عليك إلا أن تنظر إلى العلا، فترى سماء زرقاء، وآفاقاً بعيدة. وإذا جاء الليل، ففي سيرتكَ الطويلة، تكتشف نجوماً متحرّكة، متقاربة وأحياناً منفصلة، لها أنفاس تصدر عن جسدها. وكواكب خضراء ودروب التبّانة، كضربة فرشاة في وعاء المحبرة الكبيرة.
سفر يأخذك إلى عوالمه السحيقة، وتستشف أنظارك خيالات جميلة واشراقات رائعة.
بعض من درسه، أراد خذفه كلّياً من أسفار الفلك وبعضهم عطف على نصفه، وآخرون لم يجدوا فيه مبتغاهم. أما أرقامه فمطلسمة، وأي اجتهاد لاهوتي في حلّها، كمن يطرق على جدار مدينة لا بوّابات لها.
وحدهم الشعراء، أدركوا فيه قيمة هذا السفر، وعندما يقرأونه، يجدون فيه تحريضاً قويّاً لكتابة قصيدة جديدة أو كتابة مسرحيّة شيّقة.
ستجد في هذا السفر، رحلات لملائكة ولقاءات للقدِّيسين والأنبياء، وغضباً من السَّماء وخضوعاً من الأرض والإصغاء التَّام من حركاتها اللامرئية.
هذا السفر يثير فيك عاطفة نقية أو يحرّضكَ على كتابة قصيدة جديدة.
وتستطيع أن تحدِّد تاريخيّاً الفترة التي دخلت من بوّاباته، لكنّكَ لا تعرف متى ستخرج منه، ومتى سوف تستدلُّ على البوّابة المؤدّية إلى خروجكَ من عوالمه".
ديوان سفر الرؤية ديوان معبّق بروح السموّ والتواصل مع بهجة السماء والحياة من خلال حالات روحانية سمحاء، أدلق الشاعر محبة خضراء فوق بهاء القصائد!
وأصدر في عام 1999 ديوان حول الأرض التراب السماء الماء، أطلقت دار النشر (دار نشر صبري يوسف)، على الفضاءات التي أصدرت الديوان عنوان: فضاءات الأب يوسف سعيد، ولقصة اصدار هذا الديوان قصة رائعة وفريدة من نوعها، حيث أنه كان يتواصل معي الأب يوسف سعيد عندما كان يكتب هذه الفضاءات الرحبة، عبر الهاتف، وكان يقرأ ما يكتبه عن الأرض مثلاً، وكنت (أحتال) عليه احتيالاً ايجابياً منعشاً، قائلاً له، أبونا بيّض ما كتبته وأرسله إلي عبر رسالة بريدية، وهكذا بدأت رحلة التواصل البريدي بيني وبين الأب يوسف سعيد، يكتب مقتطفات عن الأرض ثم يدقّها على آلته الكاتبة الالكترونية، ثم يرسل الاشعار إلي، وكنتُ بدوري أتصل معه قائلاً أبونا نقلتُ كل ما أرسلته إليّ على برنامج الوورد كي أصيغه صياغة اخراجية نهائية، وكل ما كتبته أصبح بعد الاخراج والتبويب بضعة صفحات فقط، فحبذا لو تتمم قصيدة الأرض ببضعة صفحات أخرى وهكذا خضتُ معه لعبة راقية تعتبر من ألذ وأمتع الألعاب التي خضتها مع مبدع في حياتي، وخلال أيام قلائل، كنتُ أتلقى منه هاتفاً وإذ به يقرأ شعراً حالما أرد عليه، يقرأ ويقرأ ثم يقول ما رأيك بهذه الاضافات حول قصيدة الأرض، رائع جداً أبونا.
كنت أتمتّع بقراءاته وجموحاته وتحليقاته الرائعة، وكنتُ أحرّضه على كتابة المزيد، وكنت أشعر كما ذكرت في مقدمة الكتاب أنه أشبه ما يكون بنزيف شعري، يتدفق شعراً، وهكذا انتقل من قصيدة الأرض إلى قصيدة التراب، واتّبعت معه نفس الطريقة التحريضية، فكلما كتب مقاطع عن الأرض، يتصل بي ويتلو عليّ ما كتبه ثم يكتبها على الآلة الكاتبة ويرسلها إلي، أدوّن ما يردني منه، ثمَّ أرد عليه بهاتف قصير قائلاً، أبونا ما كتبته عن الأرض ما هو سوى مدخل لعوالم القصيدة، اترك عوالمك تسبح في عوالم التراب! فكان يعود ويتمم القصيدة ثم أشرت إليه انه من الضروري الوقوف عند السماء، فقال لي فعلاً فكرة رائعة، وبدأ يكتب قصيدته عن السماء، وبعد أن كتب ما كتبه قلت له ما رأيك لو تقفل هذه العوالم بالماء لأنه محرك الكائنات كل الكائنات فقال لي فكرة رائعة حقاً ثمَّ بدأت رحلته مع عوالم الماء!
كان يدهشني أيما إدهاش في كيفية بناء نصه، لا أظن أن هناك شاعراً في العربية من جيله أو بعده بأجيال، لديه هذه الطاقة الشعرية في جموح القصيدة، تدفق غريب ومنعش وعميق. يحمل عبق الشعر دون أية تزويقات، يعتمد على خياله المتلألئ بحبق الشعر الأصيل وكأنه خلق فقط لكتابة توهجاته الشعرية، وعندما استكمل فضاءات القصائد، ذات العناصر الأساسية في الحياة، بدأتُ أصيغ وأبوّب القصائد بطريقة تناسب أجواء الديوان، وكنتُ أود أن يقدِّمه أدونيس بمقدمة من وحي عوالم نصه البديع، لأن أدونيس على صلة طيبة مع الأب يوسف سعيد، لكنّي لم أتمكّن من الحصول على عنوان أدونيس من جهة، وانشغلتُ في إعداد الديوان وإخراجه من جهة أخرى، واستهواني أن أتوقّف مليّاً عند عوالم تدفقاته، وبدأت أتغلغل رويداً رويداً في حيوية النص الذي كنتُ أشتغل على تبويبه ومراجعته واخراجه، فما وجدت نفسي في ليلة من ليالي كانون الأول الممطرة، إلا وأنا أفتح حاسوبي على برنامج الوورد، بعد رحلة فسيحة مع فضاءاته العذبة، أكتب الاستهلال التالي، والذي أصبح مقدمة للكتاب، وعندما قرأتُ له الاستهلال عبر الهاتف، قال لي أبونا، انشر هذا الاستهلال لأنه يناسب عوالم الديوان:
"فضاءات الأب يوسف سعيد، فضاءات مفتوحة على أبجديات الكون، لغة من لون الشفق الصباحيّ، من لون العسل البرّي، من لون الماء الزلال! .. من لون أرض خصبة، خصوبة الحياة، من لون تربة "بازبداي"، يحمل بين ثناياه بذور المحبّة، لينثر ذراته على وجه الدنيا لعلَّ هذه الذرات تعطي خيراً وفيراً للبشر، كل البشر!
الأب يوسف سعيد حالة شعرية متفرّدة للغاية، هو نزيف شعري متدفق في كل حين! .. لا أظن أنه ينتمي إلى (جيلٍ ما)، انه جيل .. يتناسب أن نقول عنه (من كلِّ الأجيال!) ..
صنّفه بعض النقاد من جيل الستينيات، لكن هل توقّف الشاعر عند جيل الستينيات أم تغلغل إلى كل الأجيال التي جاءت بعده؟! .. وهل هذا التغلغل تطاول على أجيال غيره أم انه انصهار تامّ في ديمومة تجديد الشعر عبر كافة منعطفات الأجيال المرافقة لمحطّات عمره؟! ..
كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة؟ ..
الحياة عنده كتابة، والكتابة هي حياة متجدِّدة عبر غليان شعري .. ومن خلال تراكم هذه الغليانات، توصّل الشاعر إلى حالة ولا كل الحالات، انها نزيف شعري دائم .. يتدفّق شعراً كنزيف!
الزمان والمكان عنده ليسا مهمين، يكتب في أي زمان وأي مكان! وعندما يكتب قصيدة ما، لا تنتهي عنده، تبقى القصيدة مفتوحة، لأن النتزيف الشعري عنده مفتوح على فضاء الكون! .. ولا يشعر بالموجودات التي حوله أثناء الكتابة، يتقمّصه الشعر فيكتب ويكتب ولايتعب من الكتابة، كأنه في ريعان شبابه! .. وعندما يقرأ لكَ نصّاً ما كتبه، تجده يضيف جملاً شعرية عديدة غير مكتوبة، فتسأله: ( ...)، يضحك ويقول، هذه الإضافات لم أتمكَّن الامساك بها أثناء ولادة القصيدة، لأنها كانت تتزاحم على مخيَّلتي بشكل هائج، فتنحّت (هذه الإضافات) مختبئةً ثنايا الذاكرة الشعرية النازفة .. الآن جاء دورها لأقطفها وأضعها في سياقها المناسب.
ولكن هل تستطيع الإمساك بما يفلت منك من الجمل الشعرية المتدفّقة؟
لا، لا أستطيع أن أمسك بكل ما يفلت منّي، آخذ نصيبي وأترك الآخر يداعب ثنايا المخيلة، إلى أن تحينَ فرص أخرى.
عندما يزورك الأب يوسف سعيد، ضع في الحسبان، أن يتوفَّر في أركان منزلكَ أوراقاً وكتباً وأقلاماً! .. انه جاهز في كل لحظة للكتابة، وإليك يا أيها القارئ العزيز مثالاً عن كيفية إقتناصه الوقت من خاصرة الزمن.
فيما كنتُ أعدُّ فنجانين من القهوة، لا أخفي عليكم، تأخرت دقائق معدودة.
القهوة جاهزة (أبونا!)..
ضحك ضحكته المعهودة الرائعة، ثم قال، تعال وأسمع كي يبقى للقهوة مذاقٌ آخر! .. ثم تلا علي قصيدة .. ابتسم وبدعابة قال، أما كنتَ تستطيع أن تتاخَّر دقيقتين أخريين في إعداد القهوة؟ ..
فقلت لماذا؟ ..
أجابني، كنتُ سأكمل القصيدة!
يكتب عن أي موضوع،، وما يكتبه، يكتبه بعمق .. الحياة عنده برمتها مواضيع لكتابة الشعر، إنه يكتب (القصة، المسرح، والدراسات التحليلية) .. لكنّه نادراً ما ينتهي من كتابة القصّة أو المسرحية التي يكتبها! .. لأنه سرعان ما يعود ليغوص في عالم الشعر الممتدّ على مساحات روحه، فيترك هذه المتفرقات (قصة، مسرح، دراسات)، يتركها جانباً ويسبح في بحار الشعر، يروي غليله، لعلّه يعود لاحقاً إلى القصة أو الدراسة التي بدأ بكتابتها.
الأرض، قصيدة من قصائد الأب يوسف سعيد، تعبِّر عن الحالة الحميمية بينه وبين الأرض .. يتواصل مع الأرض تواصلاً عميقا، فينبش بقلمه بطون الأرض مغترفاً الخيرات المكتنزة في أحضانها، ليقدِّمها للإنسان عبر الكلمة.
التراب، قصيدة مفتوحة على فضاء الرُّوح! .. الجملة الشعرية عند الأب يوسف سعيد، لا يمكن الإمساك بها، إنها جمل متشرشرة من أفواه النُّجوم ومنبعثة من ضياء الوجود وحفيف الأضجار! ..
عندما تناقشه في خيط القصيدة وما شابه ذلك، يجيبكَ .. أية خيوط تتكلَّم عنها؟! .. فتسأله، طيب، على أي أساس كنتَ تكتب القصيدة؟
يجيبكَ ببساطة، لا يوجد عندي أي أساس وأية خيوط، القضية أعمق مما تظن، لأن الشعر عندي هو أشبه ما يكون بنزيف متدفِّق! .. أكتبه بعيداً عن الخيوط والأساليب التقليدية لكتابة الشعر، أكتبه كما أحسّ، عفواً! .. (لا أحسُّ) أثناء الحالة الإبداعية، أشعر وكأني (مختَطَف) نحو الأعالي، نحو فضاء فسيح، أكتب وكأنّي غائب عن الوعي أو في قمَّة وعيي! .. وأحياناً عندما أكتب نصَاً شعرياً، أجدني أتغلغل في نصٍّ آخر غير الّذي كنتُ (أنوي) كتابته .. وكم من المرّات، أكتب قصائد غير التي كنتُ أنوي كتابتها لحظة الكتابة، فالحالة الغليانية هي التي تحسم الومضات الإبداعية المتدفّقة.
السماء، قصيدة تحمل روح السموّ والارتقاء، يتوغَّل الشاعر في فضاءات الكون، راغباً أن يرتشفَ رحيق الوجود، ليقدّمه على طبق من ذهب للقارئ العزيز، ثم يفاجئكَ بقصيدة الماء! .. وأي ماء هذا الّذي يكتب عنه؟ إنه ماءٌ زلال! .. يغوص الشاعر في أعماق البحار، غير آبه بخطورة الغوص، كل ذلك من أجل أن يقدِّمَ لكَ درراً لاتعثر عليها في قاع المحيطات، أنها درر من نوع خاص، إنّها درر الشاعر الشفاف الأب يوسف سعيد!" ..
ومن أجواء هذا الديوان أقتطف لكم المقاطع الشعرية التالية:
الأرض
الأرض تحمل بين طيَّاتها السفليّة رعشة أبدية
زمهرير يمتصُّ من أحشائها النموّ
تفتح أبواب مصاريع الأبدية
تعبر مواكبها نحو ذخائر الظلمة
آخر ملحقات شرائح الحديد
وتراب الفضة والقصدير ..
الأرض تزين صدرها بأثداء ملوَّنة من هضاب
تتفلّى جدائلها رائحة شمس شرقية
ناطقة بلغات مسيرات الغيوم والسحب الصيفية
أسابيعها بيضاء من نصاعة شمس
تداعب اجفان يشوع بن نون
الأرض تحتضن في أحشائها مهجة النّور
تتلقى قطرات النَّدى والغيوث من صدر الجَلَد
أيّتها الأرض،
وجهكِ قطعة من شرائح مطر البركات
بذارك من برارة النجوم البعيدة ...
الأرض تخبِّئ في أوداجها منازل الظلمة
تجسُّ أصابعها بدغدغات رفرفات فوق المياه
قواعدها أبديّة
ركائزها من أنفاس النُّور ..
ثمَّ يأخذك الأب يوسف سعيد في رحلته الفسيحة عبر قصيدة الأرض إلى معالم من خير ومحية ومن دهشة وانتعاش! عوالم لا تخطر على بال!
وإليك مقطع من قصيدة التراب حيث يقول:
أخذ حفنة من تراب الأرض
واستنشقَ رائحة زهرة الاقحوان
تحسَّسَ بأصابعه السحرية عقارب ميلاده
وجسَّ أوان موته،
وبسط يده اليمنى على أمِّه التراب
وأباه التراب
تحسَّس جسده التراب ..
وسادته من تراب
لحافه من تراب
عظامه من تراب
تراب في بيت العبيد