رفاهية الابتهاج.... وضريبة القتل
28 آذار 2008من أشد دواعي الأسف أن يضطر الكاتب بين الحين والآخر أن يكتب عن القتل, الذي كما يبدو بات السمة البارزة لحياة مجتمعاتنا المبتلية بكل أشكال البؤس ابتداءً برغيف الخبز وشربة الماء النظيف وليس انتهاءً بأنظمة القمع ودكتاتوريات القرن الـ21 . مع كل ما تتضمنه من قهر وتنكر لأبسط حقوق الإنسان والمجموعات القومية والدينية وغيرها. مروراً بكل صور ومسميات الحركات الإرهابية الدينية المتطرفة التي نشأت وترعرعت في كنف تلك الأنظمة وما زالت في كثير من الحالات.
تأتي هذه المقدمة من وحي حادثة إطلاق الرصاص الحي على مجموعة من الشبان الأكراد كانوا يعبرون عن ابتهاجهم ليلة عيد النوروز في القامشلي ومقتل إثنين منهم وجرح عدد آخر. وقبلها ببضعة أيام جريمة خطف وقتل رئيس أساقفة الموصل ومرافقيه الثلاثة.وهذه ليست أولى الحوادث التي يسقط فيها ضحايا أبرياء عزل من الشعب الكردي برصاص قوات الأمن السورية لمجرد الانتقام وإرضاء شهوة القتل لدى هذه الأجهزة التي باتت لا ترى في أبناء الشعب السوري إلا أعداء مفترضين حتى يثبتوا العكس.كما أنها ليست الأولى التي يتعرض لها أبناء الشعب الكلداني السرياني الآشوري لعمليات اعتداء وخطف وقتل على أيدي مجموعات إرهابية لا ترى في ضحاياها إلا وسائل للتنفيس عن مدى الحقد والكراهية التي تعتمل في نفوسها تجاه الآخرين جراء التربية الشاذة التي تلقتها والدعم المستمر الذي تحظى به من أنظمة عشقت منظر الدم يسيل من ضحاياها. ولعل مظاهر الابتهاج التي قد يبديها شعب ما بمناسبة ما هي أكثر ما يؤلم هذه الأجهزة ويثيرها لأنها اعتقدت بممارساتها تلك أنها قضت على كل شكل من أشكال الإرادة والتعبير عن الفرح لدى الشعب.
والنظام في سورية لا يشكل بأية حال استثناءً عن هذه الصورة المغرقة في الظلامية إن لم نقل أنه مساهم أساسي في رسمها وتلوينها بكل ألوان الآلم والظلم والتعسف، معتمدة في ذلك على أجهزتها المتورمة إلى حد التعفن. وحين تفاجأ هذه الأجهزة بوجود من يصر على الابتهاج رغم كل صنوف المعاناة التي يعيشها أبناء الشعب السوري صابراً متحملاً, تفقد هذه الأجهزة صوابها وتفرغ حقدها ناراً في صدور العزل من أبناء هذا الشعب مؤكدة عبر الرصاص الحي حضورها الدائم الخانق لكل بسمة فرح لكل حي على أرض سورية.
منذ سنوات وسورية الدولة الوحيدة ربما في العالم التي سنت ما سمي بـ (ضريبة الرفاهية). مع العلم أن من هم مرفهون فعلاً لا يدفعون أية ضريبة من أي نوع كان. لا بل يفرضون على الآخرين الخوات بمختلف أشكالها وأنواعها، ويمارسون كل وسائل الابتزاز والنهب للمؤسسات العامة والخاصة. بينما يدفع المواطن المقهور الثمن مضاعفاً وكل ما يطلب منه دون أن يكون له الحق أو يمنح فرصة للاعتراض أو المراجعة. ضريبة الرفاهية هذه تحولت اليوم بعد أن لم يعد يوجد على امتداد الوطن السوري من هو مرفه فعلاً باستثناء تلك الفئة، تحولت هذه الضريبة إلى شكل آخر من أشكال التحصيل لتشمل مظاهر الفرح والابتهاج التي قد ينزلق إليها سيئو الطالع، فتقودهم نزوتهم تلك إلى دفع ضريبة الدم التي لا مناص منها أمام الإصرار على إرادة الحياة، ومناكدة السلطة وأجهزتها الأمنية بإعلان الفرح والابتهاج على الملأ. وليس الشعب الكردي استثناءً من بين شعوب الأرض ليمارس الحياة بطبيعتها المبهج منها والموجع على حد سواء. ولكن قدره كما هو قدر الشعب السرياني الآشوري كما كل مكونات الشعب السوري الأخرى أن يكون له تاريخه وتراثه وثقافته التي تميزه عن الآخرين دون أن تجعله متمايزاً. ولعل هذا بحد ذاته ما يغيظ أعمدة النظام السوري ودعائم استمراره من أجهزة قمعية تسمى تجاوزاً بالأمنية.كذلك هي حال الحركات الإرهابية المختلفة، فتتسلح باسم القانون الذي تسنه لحسابها الخاص كما هي موارد الدولة أو باسم الشريعة إذا تطلب واقع الحال. وتتصرف من وحي تلك المصالح التي تراها مهددة حتى من مسيرة ابتهاج وفرح بمناسبة ما، إن لم تقم بأوامر من تلك الأنظمة أو المجموعات الإرهابية، كما هو الحال دائماً. وإذْاك يجن جنونها وتركبها شياطين الشر فلا تجد ما يسكن هستيرياها تلك إلا مناظر الدم المسفوح من أبناء الشعب سواء كانوا كرداً أم سرياناً آشوريين أم أية قومية أو فئة أخرى، حتى العرب لم يشفع لهم سلالتهمم (التي تتغنى الأنظمة والإرهابيين باسمها دائماً وهم خير أمة أخرجت للناس) بإنقاذ رقاب (الشاذين في عيون هؤلاء) من النحر بأيدٍ لاوجود للحس الإنساني لدى أصحابها، وأحياناً كثيرة أمام عدسات الكاميرا، إمعاناً في الوحشية.
هل تختلف حوادث إطلاق الرصاص بهذه الوحشية عن تلك سوى أن القاتل تختلف تسميته من مكان لآخر، في حين أن الهدف والنتيجة هي ذاتها؟ والأنكى من كل هذا أن تغلف هذه الأعمال برداء القانون والنظام الذي لا لسان له لينطق بما يحس ويرتكب باسمه من فظاعات لأن الألسنة المرشحة للنطق قد قطعت. وكمت الأفواه التي تسكنها الحقيقة. وأفلت لجام من لا يرى إلا ماتراه الأنظمة وأجهزتها الموثوقة جداً بحسن حراستها للنظام.
إن المواطن المنكوب بهكذا أنظمة وربيباتها من الحركات الإرهابية لا بد له من التساؤل: هل باتت مظاهر الفرح والابتهاج أو الاختلاف رفاهية؟ وهل لا بديل عن ضريبة الرفاهية هذه إلا القتل؟ سؤال مغرض ليس أقل جريمة من إبداء البهجة والفرح أو التعبير عن الاختلاف في ظل أنظمة كهذه. أما ضريبته فلا شك سيأتي أوان دفعها لكل متسائل في حينه، إن جاز لهذه الأنظمة أن تستمر.