سجون العراق تختنق بنزلائها وقانون العفو العام يتعثّر لأسباب سياسية وطائفية
المصدر: صحيفة العرب
ما زال الإقرار النهائي لقانون العفو العام في العراق يتعثّر على الرغم من أن الأمر لم يعد يتوقّف سوى على تمرير تعديل طفيف يتعلّق بإعادة تعريف لعبارات واردة في القانون الذي وضع سنة 2016 وعُدّل بعد ذلك في 2017.
وأنهى مجلس النواب العراقي الأحد القراءة الأولى لمشروع التعديل بينما تواصلت اعتراضات العديد من القوى والشخصيات على إقرار القانون لأسباب في معظمها سياسية وحتّى طائفية مغلّفة بهواجس أمنية، وذلك على الرغم من أنّ لقانون العفو العام فوائد إجرائية ومالية، تتجاوز الجوانب الحقوقية المتعلّقة بإنصاف المظلومين من المدانين والسجناء بتهم في حاجة إلى إثباتات جدية وإثر محاكمات مفتقرة لمعايير المهنية.
وتطالب قوى سياسية سنية بالتعجيل بإقرار التعديل سعيا لاستمالة القواعد الشعبية الممتعضة من أدائها السياسي وكثرة صراعاتها على السلطة، بينما تحاول قوى شيعية عرقلة التعديل كوسيلة لمخاطبة الأوساط الشعبية عبر اللعب على وتر المخاوف الأمنية من أن يصبح القانون وسيلة لحماية الإرهابيين من المحاسبة وإطلاق أيديهم في البلاد.
وإلى جانب العائلات التي تنتظر أن يحمل إقرار قانون العفو العام إنصاف أفرادها التي تقول إنهم مقيمون في السجون ظلما، يأمل كثيرون في أن يفتح القانون الباب لتخفيف حالة الاكتظاظ الشديد في سجون البلاد وما يرتّبه ذلك من ظروف إقامة بالغة السوء ومن صعوبة في إدارة المؤسسات العقابية وتقريبها من المعايير الدولية، فضلا عن تخفيف العبء المالي الكبير عن موازنة الدولة والمترتب على وجود الآلاف داخل السجون دون موجبات حقيقية والكثيرون منهم قضوا مدد محكومياتهم، إضافة إلى العبء الأخلاقي والحرج إزاء المجتمع الدولي والمنظمات والهيئات الحقوقية الدولية.
وقال حيدر الملا النائب العراقي السابق والقيادي الحالي في تحالف العزم إنّ أرقاما مستمدّة من وزارة العدل تظهر بلوغ عدد السجناء في جميع سجون العراق سبعة وستين ألف سجين، عشرون ألفا منهم محكومون بتهم إرهابية وسبعة وأربعون ألفا محكومون بجرائم جنائية من قتل وسرقة وتزوير وتجارة مخدرات وغيرها.
وأوضح في تعليق له عبر منصّة إكس أنّ المحكومين بتهم الإرهاب ليسوا جميعا مجرمين بالضرورة حيث يوجد بينهم كثيرون مشكوك في صحة إدانتهم.
ولا تُقنع الأرقام الرسمية المقدّمة بشأن عدد السجناء في العراق الكثير من الجهات السياسية والحقوقية التي لا تتردّد في التشكيك فيها، معتبرة أنّه يتمّ التقليل منها بشكل متعمّد للتغطية على حالة الاكتظاظ الفريدة من نوعها في سجون البلاد.
وذكر فاضل الغراوي رئيس المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق أن نسبة الاكتظاظ في السجون العراقية بلغت 300 في المئة ما حدا بجهات حقوقية إلى تقديم مقترح ببناء مدينة إصلاحية توافق المعايير الدولية وتجمع كل نزلاء السجون وتحتوي على مرافق وإمكانيات لإعادة تأهيلهم.
كما أقرّ الغراوي في حديثه لموقع رووداو الإخباري بوجود مشكلة تتعلّق بتأخير إطلاق سراح المقيمين دون موجب في السجون، وذلك بسبب الروتين الإداري وطول الإجراءات وتعقّدها، مشيرا إلى وجود الكثير من المسجونين دون صدور أي أحكام بحقهم، ومعلقا الأمل على تمرير تعديل قانون العفو العام لإطلاق سراح الكثير من السجناء.
وبحسب إحصائية للمركز الحقوقي المذكور يحتلّ العراق المرتبة الحادية والثمانين عالميا من حيث اكتظاظ السجون. وسبق لوزير العدل العراقي خالد شواني أن أعلن عزم الحكومة على خفض نسبة الاكتظاظ في السجون إلى مئتين في المئة، وذلك بفتح عدد إضافي من السجون.
ويأتي اكتظاظ السجون العراقية في مقدمة عوامل سوء ظروف الإقامة داخلها وتحولها بالكامل إلى مجرّد مؤسسات عقابية بعيدا عن أي دور إصلاحي أو تقويمي للنزلاء.
العراق يحتلّ المرتبة الحادية والثمانين عالميا من حيث اكتظاظ السجون
ويرتقي سوء الظروف في أحيان كثيرة إلى تهديد السلامة الجسدية للنزلاء والخطر على حياتهم. وقبل أشهر قليلة أحيت وفاة أحد نزلاء سجن ببغداد بسبب إهمال وضعه الصحي من قبل إدارة السجن الجدل حول الوضع الإنساني والحقوقي للسجناء.
وتوفي محمد تركي الزوبعي المعتقل في سجن الكرخ منذ ستة عشر عاما نتيجة إصابته بالتدرن الرئوي والفشل الكلوي بعدما عانى على مدى سنوات اعتقاله من الإهمال الطبي ورفض إدارة السجن تقديم العلاج له، بحسب ما أعلنه المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب.
واعتبر النائب رعد الدهلكي أن وفاة السجين وصمة عار وضربة لحقوق الإنسان، ودعا إلى “ضرورة الإسراع بإقرار قانون العفو العام وإخراج جميع المعتقلين بالتهم الكيدية”.
وقال في بيان إنّ “الإنسان مهما كانت جريمته وبغض النظر عن أيّ أحكام قضائية فطالما كان معتقلا ينبغي التعامل معه بكل إنسانية وفقا للقانون، لكن ما نراه من فظائع تجري خلف القضبان يجعلنا أمام موقف إنساني وأخلاقي لإنهاء هذه الفوضى والتحرك الفوري للتحقيق في كل ما يجري داخل السجون”.
وبشأن الكلفة المالية للعدد الكبير من السجناء، ورد في تقرير سابق للجنة حقوق الإنسان بالبرلمان العراقي أن الإنفاق السنوي العام على السجون في العراق يبلغ حوالي مئة وسبعين مليون دولار.
ولا يخفي وجود هذه العوامل الموضوعية، الدافعة إلى التعجيل بتمرير تعديل قانون العفو العام، حقيقة أن ملف هذا القانون كان مسيسا في كل مراحله.
قوى سنية تتهم في الوقت الحالي نظيرتها الشيعية بمحاولة نقض الاتفاق وتعطيل تمرير تعديل قانون العفو العام
وكان إقرار قانون العفو العام ولاحقا تعديله لإدخاله حيز النفاذ مطلبا سنيا بالأساس على اعتبار أن غالبية السجناء، وخصوصا المتهمين بالإرهاب، من السنّة بينما كانت الاعتراضات شيعية أساسا على اعتبار أن المراد بالقانون هو تبييض صفحة منتمين إلى تنظيمي القاعدة وداعش.
وبرز مؤخّرا أبناء المكوّن الإيزيدي كمعترضين شرسين على تمرير تعديل القانون بالاستناد إلى أنّ مكونهم كان الأكثر اكتواء بالإرهاب وفي مقدمة ضحاياه، في إحالة على ما لحق بالإيزيديين من تقتيل وتنكيل واضطهاد على يد تنظيم داعش عندما غزا مناطقهم في قضاء سنجار بشمال غرب العراق سنة 2014.
وفي مظهر على تسييس الملف كان تعديل قانون العفو العام جزءا من الاتفاق السياسي بين القوى الشيعية والسنية والكردية التي تجمعت إثر الانتخابات النيابية الأخيرة ضمن تحالف إدارة الدولة وشكّلت الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني.
وتتهم قوى سنية في الوقت الحالي نظيرتها الشيعية بمحاولة نقض الاتفاق وتعطيل تمرير تعديل قانون العفو العام، مستخدمة نفوذها السياسي وثقلها النيابي في البرلمان ووجود شخصية منتمية إليها على رأس المجلس نيابة، ويتعلق الأمر بمحسن المندلاوي الذي خلف محمد الحلبوسي المستبعد من عضوية المجلس ورئاسته بحكم قضائي.
ويقول هاوري توفيق مدير مكتب العلاقات التابع للرئاسة العراقية إنّ أغلب نزلاء السجون المحكومين بمواد ترتبط بالإرهاب هم من المكون السني، الأمر الذي يثير سخط السنّة ويجعلهم يشككون في أن محاكمات هؤلاء ليست مهنية وأن الاعترافات تنتزع منهم باستخدام التعذيب.
وشهد العراق، الذي عرف في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي أوضاعا أمنية معقدة مع صعود التوتّر الطائفي وبروز ظاهرتي التطرف والإرهاب، تداخلا كبيرا في أساليب التحقيق وباتت الوشاية أسلوبا معتمدا في ملاحقة المشكوك في ضلوعهم في الإرهاب ومحاكمتهم، وبرز ما يعرف بالمخبر السري كمصدر أساسي للمعلومات للقوى الأمنية والاستخبارية واستشرت ظاهرة انتزاع الاعترافات باستخدام التعذيب، وذهب بسبب تلك العوامل الآلاف من الضحايا الذين أدينوا وسجنوا أو أعدموا على أساس وشايات كيدية غير مستندة لأي أدلة مادية.
واعتبر الملا أن الإحصائيات المتعلّقة بأعداد السجناء في العراق تعكس حجم المشكلة بشكل دقيق ودعا إلى معالجة القضية بموضوعية بعيدا عن المزايدات السياسية.
وقلّل من سقف الآمال المعلقة على تمرير تعديل قانون العفو العام، قائلا في تعليقه عبر منصة إكس “يؤسفني أنّ تسعين في المئة من المطبلين لتعديل القانون يجهلون أن صيغة التعديل هي التشديد ولن يخرج بموجبه محكوم واحد”، ومضيفا “تسعون في المئة من المهووسين بالاعتراض عليه يجهلون أن مشروع القانون فيه تشديد ويزعمون أنه سيُخرج المحكومين”.