Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

سنبقى شعب واحد رغم أنوفهم....!

تنوع أهل البصرة بمختلف قومياتهم ودياناتهم ومذاهبهم هو شيء أصيل وتكاد تكون ألوان فسيفساءه البهية أعرق بالقدم من تأريخ الكتابة عند السومريين القدامى . والشيء الأجمل من ذلك هو تناغم وانسجام ذلك التنوع العريق والفريد من نوعه لاندماجه في واقع مليء بالمتغيرات والأحداث. فالبصرة حاضرة العراق تهافتت عليها موجات الشر متوالية ، موجة عقب موجة ، وكل موجة هي أعتى من سابقاتها ، ولكنها لا تنحني بل تصر على أن تبقى عصية على مدى الزمن ، شامخة ، شأنها شأن نخيلها الذي لا يعرف غير عنوان العطاء.
كنا صغارا وقد ألفنا في المدارس أصدقاءنا من الصابئة أو المسيحيين ، نلعب معهم وندرس سوية ويشاركوننا ونشاركهم الأحزان والأفراح . وكم من مرة كانت الزيارات المتبادلة لبيوتنا تبعث روح الأخوة والشراكة لتعززها المودة في نفوسنا فتبقي جذوة التآلف والمودة بيننا أو الحنين لذلك الصديق الذي قد فارقنا وأنصرف مع بقية أهله أو شق طريق الكفاح في هذه الحياة فأجبرته ظروفه للعيش بعيدا عن ديار الصبى فهاجر طلبا للرزق أو سعيا وراء فرصة أتيحت له للدراسة في خارج البلاد.

لم تقتصر تلك الألفة على صحبة الدراسة ، بل كانت هناك علاقات الأخ الأكبر والأب والعم والخال فالعوائل البصرية كانت تضم ولا زالت أعدادا كبيرة من الأهل والأقارب ، فلم تكن تقتصر على الأب والأم والأولاد فقط ، وطالما اشتملت مكوناتها العم والعمة والجد والجدة وأولادهما في بيت واحد . ذات يوم كان أحد أعمامي بحارا يعمل على سطح إحدى ناقلات النفط العراقية . ولطول مدة غيابه عنا ، حيث السفر بحرا ، كنا نشتاق لقاءه . لم يغب عن البيت أكثر من سبعة أشهر حتى يعود ونحن متلهفون لرؤيته من جديد ، لكننا لا نستطيع أن نراه إلا بصحبة أصدقاءه ووسطهم تتم فرحتنا بعودته للبيت . تقوم عند ذاك أمي بأعداد أشهى أنواع الطعام ، ونبقى نتندر أحلى النكات حتى ساعات متأخرة من الليل . كان له صديق صابئي وآخر مسيحي من بين أصدقاءه الكثيرين .

في أحد الأيام الحارة من شهر تموز كنت وصديق عمي الصابئي نتمشى مارين في أسواق العشّار في البصرة ،و حيث العطش يغلب على الماشيين سيرا على الأقدام ، فقد أخذتنا الحاجة إلى ما يروي أجسادنا نحو محلات بيع العصائر والمرطبات علنا نروي عطشنا بشيء بارد يطفئ نار الحر التي اشتعلت بها رؤوسنا من قيض شمس تموز . وفعلا فقد تناولنا شيء من العصير ، ولكن أي شيء يمكن أن يعوض عن الماء البارد ليرطب الجسم المكتوي من حرارة الجو في الصيف اللاهب ، أليس غير الماء ؟! وتكرم علينا صاحب المحل بوعاء كبير مملوء بالماء البارد ، وكما هي عادة الباعة في بلادنا ، لاتهمهم المسائل الصحية ولا الذوق و الاتكيت ، فلم نحصل منه ولو على قدح واحد لنشرب به ذلك الماء . كان الأخ الصابئي يتردد في شرب الماء قبلي رغم انه كان يكبرني سنا ، وكنت أمنع نفسي من شرب الماء قبله . وكانت ممانعته تستند إلى خلفية ذات أبعاد دينية ظانا أن المسلم لا يعتبر الصابئي طاهرا ، غير أنني أصررت على أن يشرب صاحبي الماء قبل أن أذوقه .وبعد إلحاح شديد منه وتزايد إصراري ، أذعن هو أخيرا وأمتثل لأمر لابد منه ، أردت من خلاله أن أبدد ذلك الشعور السلبي الذي عنده وأن أصححه بموقفي ذاك حينما شرب هو الماء قبلي وشربت من بعده في نفس الوعاء . ذلك الشعور الذي كان يحمله صاحبي ويتعامل وفق معطياته لم يأتي محض صدفة ، بل أنه كان جزء من التراكمات التي رغم تمسك أجيال كثيرة بها ، إلا أنها لم تجد لها موطئ قدم راسخة فتلاشت مع القليل من الوعي و كذلك الشعور بضرورة الحاجة إلى نبذ كل القيم الزائفة والتفرقة على أساس الدين أو المذهب أو العرق في المجتمع الواحد خاصة . بعد أكثر من عشرين عاما تلاقينا أنا وأخي الصابئي في الغربة ليجمعنا صدفة حب الوطن في
المشاركة بالانتخابات الأولى ولنتعانق بشوق أكبر من ذي قبل ونتصافح لتبدأ خطانا من جديد ترسم علاقة الأخوة المتينة والأمل بالغد رغم بعدنا عن الوطن .

في الثمانينات وأثناء الحرب كنا طلابا في الجامعة.من بين زميلات كثر تألق وجه بصري أسمر طيب هو لميلاد المسيحية ذات العشرين ربيعا.درست والدتها الأدب الأنگليزي شأنها شأننا ، لكنها جربت التدريس في فرنسا ،و رغم إنها عاشت أحلى سنين عمرها في أوربا ، لكنها رفضت الاستمرار بالغربة والبصرة بعيدة عنها ، فعادت إليها بلهفة الحبيب الذي يشتاق إلى حبيبته .كانت والدة ميلاد تتشوق لسماع القرآن الكريم عند كل افتتاح لبرامج البث التلفزيوني لتلفزيون بغداد وتبكي أثناء متابعتها القصيرة تلك لآي الذكر الحكيم . في التسعينات وأثناء الحصار الإجرامي العالمي بحق شعب العراق تركت عائلة ميلاد البصرة من جديد ، لنلتقي في عمان حيث ذات الطيبة البصرية موزعة بنفس القدر من العطف والحنان والألفة والكرم سواء في الغربة أم في مواطن الديار ..
استقبلتني العائلة وكأنني أحد أولادها . وخالجني نفس الشعور ، فأحسست أنني أترك أهلي عندما ودعتهم وكنت
أتمنى لو أنني أستطيع أن أنتشلهم من غربة عمان ويسافرون معي عند انتهاء إجازتي . وقتها رغم فراقهم ورغم
أنني كنت لا أستطيع دخول العراق ، إلا أنني عدت بشحنة جديدة من المعنويات عند رؤيتي لتلك العائلة الطيبة ،
ودخولي لبيتهم المتواضع مرة أو مرتين رغم إلحاحهم المتزايد على تكرار الزيارة ، وكأني قد رأيت أهلي في العراق برؤيتي لهم . Opinions