سياق نشأة داعش عربيا وعراقيا وقطع الرؤوس ونظرية المؤامرة !!!
كلما ننتكس ونصفع على وجوهنا وتخور قوانا العقلية في النباهة والقدرة على التحليل والاستنتاج لمعرفة ما يدور من حولنا مقرون بضعف إمكانياتنا للدفاع عن وجودنا, نلقي اللوم على غيرنا ونحمله كل ما يحل بنا من كوارث, وكأن الآخر متفرغ وليست لديه مهمات إلا الإيقاع بنا, وكأننا نمتلك العصمة والنزاهة والقدرات الخارقة, ولكن الآخر لا يعطينا الفرصة الكافية لكي ندافع عن أنفسنا !!!.
هذه الآلية النفسية في الإسقاط والتبرير وتحميل الآخرين بما يحل بنا من كوارث أو اتهام الآخر بما نحن فيه معروفة في المجتمعات المأزومة. وتشتد شكوانا على الآخر كلما عجزنا في الدفاع عن مقدراتنا وأخفقنا في تحقيق أي تقدم ملموس يحفظ ماء الوجه. ففي الوقت الذي لا نريد فيه من الآخر أن يتدخل في شئننا الداخلي, نطالبه الآن بأن يحل مكاننا في الدفاع عنا وأن ينقذنا من محننا الداخلية في وقت لا نمتلك فيه مقومات الحد الأدنى من اللحمة الوطنية للدفاع عن الأرض والأعراض !!!.
تفزعنا اليوم داعش بقطع الرؤوس وسبي الأعراض وإلغاء تنوعنا الديني والمذهبي والعرقي علنا بكل وقاحة وتهز وتستنفر الضمير العالمي لما ترتكبه من جرائم بحق الإنسانية جمعاء, ولكن قطع الرؤوس وجزها لم يكن ولادة داعشية بحته, بل هو استمرار لما قطعت من الرؤوس والسبي عبر عقود خلت, كانت تقطع فيه الرؤوس في الخفاء, في المعتقلات وزنزانات السجون, ولكنها كانت تجري على قاعدة " أقطع رأسا وموت خبر ", أما اليوم فأقطع رأسا وشيع الخبر لكي يخلق مزيدا من الذعر والرعب والإحباط, وتلك هي وسيلة الإرهاب لتحقيق أهدافه !!!!.
أن داعش ليست ظاهرة غريبة علينا وأن اختلفت وجوه منفذيها ومرتكبي جرائمها, فهي منتج وخلط أكثر قسوة بمظاهره العيانية لتلك النظم الدكتاتورية العفنة التي أسست لأخلاق داعش وهي أدوات أحيائها اليوم بلباس متأسلم. أن نشأة داعش تكمن في توقف الزمن لأكثر من نصف قرن في العالم العربي تحول فيه الاستقلال واختزل إلى دول عربية بوليسية لا قيمة لمعنى الاستقلال الحقيقي فيها, فقد اندمجت وتوحدت بل انصهرت الدولة في النظام وانحصر النظام جملة وتفصيلا في ترسانة الحزب الواحد وقائده أو زعيمه وفشل مشروع الدولة الوطنية الذي قدمت من اجله الحركة الوطنية قوافل من الشهداء, من مواطنين ومناضلين وقيادات وطنية وميدانية !!!!.
لقد اختزلت الدولة ومفهومها وجعلت منها أداة طيعة بيد الحزب الحاكم, بل جعلت من الدولة أداة تابعة للحزب وفي خدمته حصرا ولضرورات بقائه, وأصبحت الدولة لاحقة لا سابقة على نظام الحكم, الذي ينبغي أن يكون الحزب محكوما بالقواعد الأساسية للدولة, بل سيطر الحزب على الدولة وعلى أجهزتها العسكرية والأمنية وعلى مؤسسات المجتمع المدني, وقد أضفت على ذلك شرعية " دستورية " من خلال التكريس القانوني لقيادة الحزب التاريخية وبدون انقطاع, وإيجاد هيكلية موالية للحزب في كل السلطات, التشريعية منها والقضائية والتنفيذية, بل وحتى سلطة دينية شمولية ومرجعية لها رموزها ومنظريها, ودمج كل هذه السلطات فكرا وممارسة في فكر وممارسات الحزب القائد, مما سبب في نشوء أوضاع شاذة ومرضية استمرت لعقود, أدخلت الوطن والمواطن في غيبوبة انعدام الفهم الصحيح للوطن والمواطنة ولمفهوم الحرية والعدالة الاجتماعية, وتشويه معنى الدولة التي يفترض أن تكون في خدمة الشعب أولا وأخيرا, فلا مجال لآليات الفصل مابين " القوة والسلطة والحاكم" ولا مجال لآليات صنع القرار السياسي المستقل من خلال الإرادة الحرة الديمقراطية !!!!.
ولا نستغرب والحالة هذه أن تستدرج أجهزة الجيش والدفاع والأمن إلى حماية الحزب الحاكم وحاشيته, بعد أن تحول الحزب إلى المالك الوحيد لهذه الأجهزة وتأتمر بإمرته, فتتحول هذه الأجهزة بفعل الدور الذي تؤديه إلى أجهزة قمعية للمواطن وليست في الدفاع عن أمنه وسلامته من الأخطار الخارجية والداخلية الحقيقية, طبعا إلى جانب إمكانيات الحزب وأجهزته في إقحام المجتمع بالمشكلات والصراعات القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية وزجها في آتون الصراع المميت في اللحظة المناسبة ولأغراض بقاء الحزب ونظامه في الحكم بأي ثمن, بل إن بعض من هذه الأحزاب ذهب بعيدا وأنهى الدولة ومؤسساتها لأنها تشكل ضغط وعائقا وعبئا عليه حتى وان كانت تحت إمرته, كما في نموذج نظام معمر ألقذافي التعسفي, الذي حول الدولة إلى ركام وحول المجتمع إلى شتات قبلي أصم لا تعرف فيه إلى أين المسير !!!!
أما داعش بنسختها العراقية فهي تمثل خلاصة مركزة سلوكية للفساد والظلم الذي نشأ في العراق تاريخيا, وما هي إلا إحدى الدورات العنيفة لإعادة إنتاج الظلم والفساد بواجهات دينية وعبر تحالفات بعثية لغرض الاستفادة من الأخير في قدراته اللا أخلاقية واللوجستية, وقدراته الوسخة في خلط الدين بالسياسة في لحظات التدمير والعنف الشامل الذي يطال كل شيء دون استثناء !!!.
وقد نشأت على خلفية الظلم والفساد في العراق في عقوده الأخيرة, وعلى أرضية قسوة خارقة واستثنائية حيث قائد الضرورة كان على هبة الاستعداد لذبح مئات الألوف من عامة الناس ومن كوادر البلد العلمية والمهنية والسياسية ومن خيرة مفكريه وأدبائه وكتابه وشعرائه, وحتى من أنصاره ومؤازريه,وحرب ضروس استمرت ثماني سنوات لم تلبث أن انتهت بأعجوبة ساهم العناد الإيراني باستمرارها وإراقة الدماء عند كلا الطرفين,حتى لحقت بها حرب احتلال الكويت,ثم تلتها حرب تحرير الكويت ضد العراق وكان في ذلك اشد دمارا للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للدولة العراقية,وقد ساد مناخ من الإعتام واليأس والقنوط والإحباط ارتبط بفقدان الأهل والإخوة والأقارب في الحروب وتصدع العائلة والمدينة والقرية والحي والحارة والجار بتأثير شدة الفقر والحاجة حيث بلغت الرواتب في أفضل الحالات من 5 الى6 دولارات في بلد نفطي كالعراق,إضافة إلى التصدعات القيمية والأخلاقية العامة كمحصلة لهذا كله,وقد قادت هذه الظروف إلى شيوع الجريمة العادية والسرقة ولكنها كانت في معظمها تحت قبضة النظام السابق حيث كان على استعداد لتشجيعها أو القبض على منفذيها بنفس الوقت للتخفيف من أزمته الداخلية,وكذلك تاركا لأجهزته المخابراتية والأمنية حرية ارتكاب الجرائم النوعية ضد مناوئيه !!!!.
ثم أتت فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 حيث شيوع وانتشار التنظيمات السياسية الطائفية التي نمت نموا مذهلا وسريعا وبتشجيع من دول الجوار العربي وغير العربي مستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود في ظل النظام السابق جراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي سببها له,وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون فهم قوانينه وأسبابه,والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران " دون اتهام محدد لأحد بالإرهاب " ولكن الجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على ارض العراق المظلوم ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان واشتراطاتها السياسية,بما فيه حتى شروط تشكيل حكومته القادمة ,أنها كارثة حقيقية ضد استقلال البلد وسيادته,وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل,بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده,وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر باليابس !!!!.
هذه داعش اليوم في العراق أتت استجابة مرضية واضطراب سيكوباتي لكل ما حصل من تاريخ قريب,فهي تقطع الرؤوس وتسبي الأعراض وتبيع نسائنا في أسواق النخاسة وتهزم الجيش العراقي بأعداده وعدته من عربه وأكراده وبيشمركته, وكأنها تلقن الدروس تلو الدروس للجميع, فهل من منادي للوحدة الوطنية, وهل من ضمير حي يستيقظ لنجدة نسائنا وأطفالنا, وهل هناك ما تبقى من كبرياء لشرفاء قادتنا, أم أن داعش بديل الأمر الواقع !!!!!
.