سيناريو المالكي للفوز بولاية ثالثة
من يعتقد ان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ، يفتقر الى الدهاء فهو واهم ، وأذا كان الرجل يفتـقرالى صفات الزعيم الكاريزمي من جاذبية ، و حضور طاغ ، و سحر شخصي وتأثير ايجابي على الآخرين ، فأنه يتمتع من دون شك بدهاء في مجال حبك خيوط الدسلئس وشق الصفوف وخلط الأوراق وألهاء الناس بالأزمات المفتعلة المتتالية .
واذا كان العراقيون مختلفين في كل شيء ، الا أنهم مجمعون اليوم على فشل حكومة المالكي الفاسدة ، التي بددت عائدات النفط الهائلة طوال ثمان سنوات عجاف ، من دون تحقيق أي انجاز يذكر ، بل على النقيض من ذلك ،نجد أن الأوضاع العامة في العراق في الوقت الراهن ، أسوأ بكثير مما كان عليه في عام 2006 حين تولى المالكي الحكم لأول مرة . ولعل أبلغ دليل على هذا الفشل تكبد حزب المالكي هزيمة نكراء في أنتخابات المجالس المحلية الأخيرة التي جرت في العام 2013 ، حيث فقد هيمنته على العديد من الحكومات المحلية في وسط وجنوب البلاد . وشهد بذلك شاهد من أهلها ، فقد بعث أنصار حزب الدعوة الأسلامية في خارج البلاد ، عقب تلك الأنتخابات برسالة الي زعيم الحزب يعبرون فيها عن خيبة أملهم لعدم حصول الحزب سوى على ( 13) مقعدا ، حيث جاء ترتيبه في ذيل قائمة ( التحالف الوطني ) .
ولما كان المالكي لا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة ولا يفكر بالتخلي عنها ، مهما كانت الظروف ، ويتبع سياسة تصفية من يعارض سياساته الهوجاء ، التي قادت البلاد الى حافة الهاوية . وبما أن الأغلبية الساحقة من العراقيين ، بشتى أنتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية لم تعد تصدق وعوده ، بعد ان سقطت ديماغوجيته المكشوفة تحت أقدام المتظاهرين والمتظاهرات في يوم 25 شباط 2011، لهذا كله ، لم يتبق أمام المالكي سوى اللجؤ الى تدبير مكائد وفق سيناريوهات معقدة ، متعددة الصفحات ، تؤمن له الفوز بولاية ثالثة ، ولو أدي ذلك الى أزهاق أرواح آلاف الناس الأبرياء من رجال ونساء وأطفال . وآخر هذه السيناريوهات ، ( سيناريو الأنبار ) ، الذي حيكت خيوطها بمهارة ومكر ودهاء .
لتوضيح ابعاد هذا السيناريو لا بد ان نرجع قليلا الى الوراء وتحديدا الى اليوم الذي اتفق فيه المالكي مع شيوخ ووجهاء الأنبارعلى فض الأعتصام في مدينة الرمادي ، حيث لم يكن أمامه من سبيل آخر ولم يكن بوسعه مهاجمة ساحة الأعتصام بقوة السلاح أمام أنظار العالم
في مساء ذلك اليوم تم تنفيذ هذا الأتفاق بكل بهدؤ ، وقد تفاخر به المالكي نفسه حين صرح أن فض الأعتصام تم من دون أراقة نقطة دم واحدة .
وكان من الممكن ان تعود الأمور الى طبيعتها في مدينتي الفلوجة والرمادي ويعم الأمن والأستقرار فيهما لو التزم المالكي بتنفيذ الفقرات الأخرى من الأتفاق المذكور وأهمها تلبية المطالب الدستورية للمعتصمين ,وليس دفنها في أضابير اللجان ، كما فعل طوال عام كامل. ولكن الرجل تنصل من الأتفاق كعادته ، لأن السيناريو المعد للأنبار لم يكن يهدف الى توفيرالأمن والأستقرار ، بل الى شق صفوف زعماء العشائر وتأجيج الخلافات بينهم وتصفية قادة الأحتجاجات ، لضمان حرمان أهل المحافظة من أيصال ممثليهم الحقيقيين الى البرلمان .
و لهذا السبب تحديدا ، شرع بعد فض الأعتصام وعلى الفور ، بتطبيق الصفحة الثانية من السيناريو المعد مسبقاً . ففي ساعة متأخرة من تلك الليلة هاجمت قوة من ( سوات ) بكل ما تيسر لها من اسلحة خفيفة ومتوسطة منزل النائب أحمد العلواني وقتلت شقيقه وعدداً من أفراد حمايته ، ونحن لا نناقش هنا مبررات هذا الهجوم وكون العلواني نائبا يتمتع بالحصانة البرلمانية ولامدى صحة التهم الموجهة اليه ، فهذا شأن القضاء – ان كان في العراق قضاء مستقل - ولكننا نتحدث عن التوقيت الدقيق لهذا الهجوم ، الذي أدي الى غضب العشائر العارم والهاب مشاعر السخط لدى عموم سكان المحافظة وتردي الوضع الأمني وهذا ما كان يريده المالكي تحديدا ، لأن من ينشد الأمن لا يلجأ الى صب الزيت في النار ، واختلط الحابل بالنابل . وتنصل ( مختار العصر والظهر ) من تنفيذ بقية بنود الأتفاق ..
وبدأت الصفحة الثالثة من السيناريو ، حين أنسحب الجيش من مدن الأنبار ، وعلى نحو فسح المجال لتسلل عناصر تنظيم ( داعش ) اليها . وتشير الأدلة الدامغة التي قدمها وفد المعارضة السورية في مؤتمر ( جنيف – 2 ) الى العلاقات الوثيقة بين هذا التنظيم و مخابرات النظام الأسدي من جهة وبأيران من جهة ثانية ، وكلاهما من حلفاء المالكي ، كما هو معلوم .
أما الصفحة الرابعة وهي أخطرها ، فأنه يهدف الى أفراغ مدينتي الرمادي والفلوجة من السكان عن طريق القصف العشوائي للأحياء السكنية فيهما وأجبار آلاف العوائل على النزوح الى مناطق أكثر أمناً . وما يصاحب ذلك من مآسي أنسانية وتداعيات سياسية .
ولا ندري مدي دقة المعلومات عن سيطرة ( داعش ) على مدينة الفلوجة وجزء من مدينة الرمادي . فقد كان الجيش يحارب ( داعش ) في ( وادي حوران ) أي على بعد مئات الكيلومترات من مدينتي الرمادي والفلوجة، وسيناريو المالكي ، هو الذي أتاح لعناصر ( داعش ) الدخول الى المدينتين ، وأدى الى شق صفوف زعماء عشائرالأنبار ، الذين حاربوا القاعدة في الماضي صفاً واحداً وطهروا المحافظة الشاسعة من الأرهاب . أما اليوم فالوضع مختلف :الأجواء مشحونة ومتوترة والنفوس ثائرة وهائجة وهذا – ويا للمفارقة – ما يريده تنظيم ( داعش ) أيضاً ، لأن هذا التنظيم لم يكن بوسعه دخول المدن في أجواء التعاون الوثيق بين الحكومة وزعماء العشائر .
هذا السيناريو يحقق هدف المالكي الأهم والأكبروهو الفوز بولاية ثالثة عن طريق بتأجيل الأنتخابات البرلمانية في المناطق الساخنة أي محافظات ( الأنبار ، نينوى ، وربما صلاح الدين وديالى أيضا ) بذريعة أختلال الوضع الأمني فيها . وهي أهم المناطق المؤهلة لأيصال عدد كبير من النواب المعارضين للمالكي الى الدورة البرلمانية القادمة . أو أجراء الأنتخابات في أجواء لا تسمح بالمشاركة الكثيفة فيها أو اجبار سكان بعض تلك المحافظات – الأنبار ونينوى - على مقاطعة الأنتخابات ، وهذه الأحتمالات هي في صالح المالكي بكل تأكيد ، ويتيح له اجتناب ما حدث في الأنتخابات التشريعية السابقة في عام 2010 ،عندما أصيب بصدمة كبيرة بعد فوز القائمة العراقية ب( 91 ) مقعدا وتفوقها على قائمة التحالف الوطني .ولم يكن بوسع المالكي البقاء في الحكم لولاية ثانية لولا التأييد الأيراني – الأميركي ، الذي أرغم الأطراف المتصارعة على القبول الضمني ، بقرار غريب وعجيب من ( القضاء العراقي ) - الخاضع لهيمنة المالكي والذي يفسر بنود الدستور حسب أهواء الحاكم ومصلحته - يقول القرار ان الائتلاف الفائز في الأنتخابات هو الائتلاف الذي الذي يتشكل بعد الأنتخابات لا قبلها وهو أمر لا سابقة له ، ليس في العراق فقط ، بل في العالم بأسره . و قد تنفس العراقيون الصعداء بتوقيع ( أتفاقية أربيل ) بعد ثمانية أشهر من أزمة خانقة محفوفة بالمخاطر ولكن ( مختار العصر) تنصل منها كعادته بعد تكليفه بتشكيل الحكومة ونيل ثقة مجلس النواب .
وعودة الى صلب موضوعنا نقول : أن صفحات هذا السيناريو لم تنته بعد ، وستكشف الأيام القادمة ما تبقى منها ، وهي كلها تهدف الى تحقيق هدف المالكي الرئيسي وهو سحق القوى المعارضة لنهجه الدكتاتوري وتصفيتها الواحدة بعد الأخرى واعادة المساسل الكارثي لدكتاتورية صدام ، على نحو آخر لا يختلف من حيث الجوهر عنها وأن اصطبغ هذه المرة بصبغة أخرى حسب مقتضى الحال .
جــودت هوشـيار
jawhoshyar@yahoo.com