شـَعـبٌ تــُسَـيّـرُه الذيول والصّـنـَمُ تـتـطـوّر الـدنيــــــــــا ولا يتـقـدّمُ
( إستعارة من شـعـر المرحـوم الجـواهـري )لسنا نبتـذل التواضعَ إذا قـلنا أنـنا كـلنا أخـطأنا ويعـوزنا مجـد الله ، فالكمال لله وحـده ، وتجارب حـياتـنا حـلوة لِمَن يخـتبرها ، إنها زيتٌ يمـدّ فـتيلة قـنـديل يتلألأ في الظــُـلـُمات وحُـلـْـكـتها ، نور يـُجَـنــّـبـنا التعَـثــّر بحُـجَـيرات عـلى قارعة طريقـنا وحُـفــَرها ، و لكـن الأحـلى لِمَن لم يخـتبرْها ، نعـم إنه أسـعـدُ حـين يحـمل سراجاً ناشفة فـتيلتها ، فـلا يرى طـريقه حـين يرافـقـنا خـلـْـفـنا ، فـيسـير في مقـدّمتـنا مستضيئاً بنبراسنا ، مادّاً أنفـه إلى الأمام ليلامس شعاعَ النهاية في مضمارنا ، وفي الخـتام يتطـفــّل ويُسَـجّـل فـوزاً ويرتقي مدرجاً ويستلم كأساً في مبارياتـنا ، فـيفـتح كـُوّة في جـدار صريفـته الداكـنة سـذاجة ليستأثر بشعاع رفـيع من الشمس ، ومن بساطته لا يـدري بأن نورها وافـرٌ بسخاءٍ لجـميعـنا ، والمتفـرّجـون حـشرٌ مع الناس كأنهـم في عـيـد الشعانينا . إن مواكـب حـياتـنا منوّعة ، مهـرجاناتها جـميلة ، مسيراتها صاخـبة ، أعـيادها مباركة ، مناسباتها عـديـدة ، كـلها مُشَـوّقة تـنعِـشـُـنا ، ومُحـبّبة تــُفـرحُـنا ، ومثيرة تسـعِـدنا ، و لولا تــَبايُـنها لـَما جَـذبَـتــْـنا ، ومن كـثـرتها فــَرّغـتْ حـبر أقـلامنا . ولكـنها حـينما تـُـكـَرَّر لنا ، فإنها تبعـث المللَ فـينا كالأفـلام التي تــُعْـرَض مراراً عـلينا ، شأنها شأن خـَـلـَـفِـنا لا يقـبلون إرتـداء الزيّ نفـسه ثانية في حـفـلاتـنا ، فـيقـولون : أنّ ذلك عـيبٌ عـلينا والناس يستهـزئون بنا . أفـلا نـتعـلـّم نحـن الآباء بعـضاً من أذواق أبنائـنا كي نبقى سادة لأحـفادنا ؟ ولا نكون كـبعـض الملوك الذين لا يكـتسـبون عِـبرة من أباطرتـنا . فأحـداث القـرن العـشرين باليابان تــُذكـّرنا ، حـين إنهارتْ فإستسلمتْ عام 1945 لقـوات الحـلفاء دون قـيـد أو شرط ، إحـتـفـظ شعـبُها بإمبراطوره ولم يفـرّط به رغـم هـزيمته وذلك حُـباً به وإعـتزازاً بمكانـته ، ثم تعَـلـّموا دروساً فإتجـهـوا إلى بناء يابان أخـرى ، هـذه التي نراها اليوم دولة تكـنولوجـية تعـتمـد عـلى عـقـول أبنائها وهِـمّة شغـيلتها ، فـغـزتْ العالـَم كـله بإنـتاجها وبقـيتْ موالية لإمبراطورها . أما في بلـدنا ، حَـدّثْ ولا حـرَج فـيها ، فـعـندما إنهارتْ مؤسّسة صدام العـوجـية يوم 9/4/2003 عـلى أيـدي مُحْـتـلـّيها ، تلهّـف العـراقـيّون وإستـبشروا خـيراً بالخـبر، متشَـوقـين لهـذا الحـدث الأغـر ، وتـَوّجـوا حـماسهـم لحـظات إعـدامه في 30/12/2006 فـرَحاً ، ولكـنهـم لم يتوجّـهـوا إلى بناء الدولة صرحاً فـصرحاً ، بل راحـوا يزيـدون الطين بلـّـة ، وصارتْ المشكـلة لا تلقى حـلاً . فـمخـلـّـفات نظامه البائـد سوف تبقى إلى أجـيال مِن بعـده ، نفـوساً مريضة مُرَوّضة تـدَرّبـَتْ عـلى الإنحـراف بكـل أنماطه ، فـما الذي نعـرفه عـن هـذا القائـد وما هي خـصائصه ؟ إنّ لدى كـل عـراقي ثروة من الذكـريات للكـتابة عـنه ، مَشاهـد ، قصص ، أقـوال ، أوامر ، عـنجـهـية وحـتى غـباء ، كان قـد رآها أو قـرأها أو سمعـها أو حـلم بها ليلاً ، خـوفاً من أن يتخـيّـلها نهاراً فـيـذوق ناراً . كان هـذا الرجـل معـقـد التركـيـب صعـب المراس ، مَسَحَ من قاموسه أغـلب كـلمات حـضارة العـصر الحـديث ، وكـما نقـول بالعامية ( لا يمكـن المشي أمامه ولا خـلفه ) فإنْ مـدحْـتــَه بـبلاغة تــَمَكّــُـناً ـ خـيّـبَـكَ ، وإنْ تحَـفــّـظــْتَ في إطرائه إعـتزازاً ـ شَـكّ بكَ ، وإنْ عـبّـرتَ عـن إعـجابكَ به صمتاً وَ رزانة ً ـ نـَبّـهَـكَ ، ولم يَـفــُزْ في الإقـتراب منه إلاّ أصحاب الذيول المطرّزة ذوي المفاصل الهـزّازة ، فـقـبضوا أنواع المَـكـْرمات ثمن أخـلاقـهـم المحـزّزة ، مع كـلمة ( عَـفـَـرمْ ) الصغـيرة المقـزّزة التي تكـبر في عـيون أفـراد هـذه المفـرزة . لكـن الأباةَ ، أباة في كل زمان ومكان ، كانوا معه حـكـماء كالحـيات ووديعـين كالحـمام ، فـمن أضعـف إيمانهـم ساروا في خـط ثورته بسلام ، فالوقاية خـير من العلاج عـلى مدى الأيام ، دون أن يـستـبـدلـوا خــُـلـُقـَهـم النقيّ بالخام ، ولم ينـتظروا لقـمة من بـين الأكـوام . أتـذكـّر في فـترة منـتصف السبعـينات كان لا يزال ( حـفـظه الله اليوم في مثواه ) نائباً يحـضر جـلسات مناقـشة ورقة الإنـتاج والإنـتاجـية ـ فـهـو مخـتار البلـد والسيـد المطلق ـ يستمع ويعـلق عـلى تقارير المدراء العامين ورؤساء المؤسّسات ، التي تضمّـنتْ شرحاً للمعـوقات ومعالجـتها بالإقـتراحات ، بهـدف الوصول إلى أفـضل الصيغ للحـصول عـلى أعـلى معـدلات الإنـتاج والإنـتاجـيات . وفي واحـدة من تلك الجـلسات حان وقـت مدير أحـد المصانع - دكـتوراه في الإقـتصاد - ليقـرأ تقـريره الذي أعـدّه هـو بالـذات ، فإبتـدأ بقـراءة السطر الأول مستعـرضاً عـوامل الإنـتاج في أي مشروع إقـتصادي : الأرض ، الأيـدي العاملة ، رأس المال ، العـقـل المفـكّر . وهـنا ، وبـدون سابق إنـذار أو الإسـتـئـذان الذي تـتطـلـّبه الكـياسة وأدب الحـوار ، وكأنّ الرجـل أجـرم كـواحـد مهـذار ، شعَـرَ صـدام بإنكـماش أمام عِـلمِه وأكاديمية تحـصيله ، وفـجأة قاطعه دون أن يوجّه نظره إليه كما يفـعـل الآخـرون تعالياً ، وقال : " البعـض يتكـلـّمون وكـأنـنا تلاميـذ أمامهم " ، فـتلعـثم الرجـل وأكـمل تقـريره كالنعـسان خـوفاً من بطش السجّان . وهـنا إتــّعـض الباقـون ، فـجاء دَور رئيس مؤسّسة إنـتاج السكـّر في الموصـل الذي كان السيد النائب قـد زارها قـبلاً ، وقال : "سـيدي النائب – بناءاً عـلى زيارتكـم الحـمـيـدة وتوجـيهاتكـم السـديـدة وتوصياتكـم الرشـيـدة وآرائكـم المفـيـدة ، وعـملاً بما أمرتم به من إجـراءات جـديـدة .... " وهـنا لم ينـتظر صـدام أن يكـمل الرجُـل ( سجـع وقافـية ــديـداتــــِـه ) بل أوقـفه بـطريقة خالية من الـذوق كعادته المعـهـودة ، وقال له : " إحـنا حِـﭼـينالـْـنا حْـﭼـايْـتين شْـﭼـَـلـّبَـكْ بـيها " ؟؟ فـما كان من الرجـل إلاّ أنه قـرأ تقـريره بإرتعاش ورجـع إلى مكانه بإنـدهاش . فـما الذي يريـده هـذا الرئيس النائب ؟ حـقاً إنه غـريـب الأطـوار ! وكل ذلك لم يُشبع غـرائزه التسلـّطية ، ولم يكـتفِ بحـصته الشخـصية من واردات النفـط الخـيالية ، ولا بهـدر دماء أبناء الشعـب الزكـية ، ولا بأخـذ مجـوهـرات الماجـدات الشخـصـية ، فراح يمجّـد إسمه في البنايات وينشر صوَره في الساحات ، وفي يوم بطشه بأصحابه يوصي بتـنظيم المهـرجانات ، ناسياً الثـكالى من الأمهات ، ونـدرة الحـليب للأطفال الرضـّع والرضيعات . وأصبح يتمادي في غـيّه فـيأمر بالإحـتفاء في ذكـرى دخـوله ساحة الإحـتفالات ، وهـو يمتطي جـواداً أصيلاً ، متباهـياً ومتـناسياً أجـداده راكـبي الجـمال في الأيام الغابرات .
وفي مناسبة أخـرى زار الرئيس إحـدى الوزارات ، ومعـروف أنّ عـلى جـميع منـتسبـيها أنْ يتهـيّـؤوا قـبل موعـد وصوله بساعات ، تاركـين مهامّهم والمعاملات ، كـيف لا والعـريس قادم لملاقاة المعـجَـبين والمعـجَـبات ، ولما حان الوقـت ووصل ، وقـبل أن ينطق القائـد بـ ( أحِـمْ ) ! أو حـرف به يُـدَمـدِم ، إرتفـعـتْ هـلهـلة الأصوات وهُـدرتْ الدماء الفاديات ، دلالة عـلى ضحالة وعي بعـض هـذا الشعـب الساذج في كل الأوقات ، فاقـد المبادئ وكل مشاعـر الإعـتزاز بالـذات . ولكن أحـدهم من الواقـفـين نسيَ نفـسَه ، فـلم يهـلهـلْ ولم يصفـقْ مع المصفـقـين والمصفـقات ، بل كان يركـّز بؤبؤ مُقـلته وحَـدقة عـينه عـلى القائـد الضرورة بإمعان شـديـد وإهـتمامات ، فـشاء حـظه العاثر أنْ لمَحَـتاه عَـينا الفارس الفـذ فـدعاه إليه ، ولما جاء بشجاعة البريء عـنده ، توقــّعَ منه أن يكـرمه ! فـما الذي قاله الرئيس حـفـظه الله ورعاه ؟ قال: " لماذا أراك لا تصـفـق "؟ فـحـزم الأخ أعـصابه وتـنبّه إلى زلـّـته التي لا تـُُـغـفـر له ، وإعـتصرتْ قـريحـته فـجاء ببـديهة أنقـذتْ رقـبته حـين أجاب بملء فـمه قائلاً : "سيدي ! لقـد هَـمَـمْتُ إعـجاباً بكَ ، تراءيتَ أمامي وديعاً من نبرات صوتكَ ، حـكـيماً من دُرَر أقـوالكَ ، مَلاكاً من هـيـبة قامتكَ ، فـنسيتُ نفـسي ، وَ فـعـلاً إنني مقـصّـرٌ في أداء واجـبي تجاهـكَ ، فأعـتـذرُ وأطلب غـفـرانـكَ"، ردّ عـليه سيادته وقال : "روح لـمكانك ، شوفْ شـْـما يْسَـوّون رَبْـعَـك ، تسَـوّي مثلهـم" . حـقاً قال الشاعـر: ( لا يسلم الشرف الرفـيع من الأذى حـتى يُراق عـلى جـوانبه الدم ) .
يا رئيسُـنا رحـمكَ الله : أما كـنتَ تكـتفي بكـرسـيّـك الذي إنـتشـلـْـتـَه خـلسة أمام أنظار السادة والسيدات ؟ مجّـدناكَ في يوم إنقـلابكَ عـلى رفاقـكَ وهـتفـنا من أعـماق حـناجـرنا دون أن نـتساءل أو نسأل عـنكَ ، أما يكـفـيكَ كل ذلك تــَفاخـُراً، وجـنابكَ عـبـد الله المؤمن الخاشع أمام خالق الحـياة ؟ فـلماذا كـل هـذا التكـبّر والتعالي في هـذه الأوقات ، وتبـذير الأموال بالإكـثار و تِكـرار المناسبات ، إبتـداءاً من الرقـص في عـيـد ميلادكَ عـنـد البوّابات ، وإنـتهاءاً بجـداريّات الكـيكات . فإن حـضروها مُجـبَرين حَـزّ في نفـوسهم الذل المرير ، وإنْ غابوا عـنها لن يأمنوا شرّ خـفايا التقارير ، فهـل كان ذلك شـعـوركَ بالنقـص أمام الكـفاءات ، أم هـو إنـتقاص من هـيـبة الشرفاء الموشّـحـين بوَشاح الفـخـر حاملي الرايات ، وحـياتك رهـينة بـيـد رب السماوات ؟ أما كـنـتَ تـَكـْـبر أكـثر في عـيون الناس لو أنك ترفــّـعْـتَ وأوصيتَ ضعـفاء النفـوس مُطأطـئي الرؤوس بائعـيكَ بالفـلوس ، بالكـفّ عـن التملـّـق أمام حـضرتكَ رياءاً وفي ديوانـكَ جُـلوس ؟
أنا أبـدي رأيي في زمن الفانيات ، وأنت في عالم الأزليات ، وأقـول : إرتضيتَ أن تكـونَ ماوتسي تونـﮒ الصيني وليس ديغـول الفـرنسي ، فـلو كُـنتَ رئيساً أو ملِكاً في إحـدى دول الغـربـيّات وقائـداً مؤمناً حـقاً ، برب الكائـنات المسيح المخـَـلـّص فادي البشرية التي صالـَحَـها مع الله لتـدخـل الملكـوت ، أقـول لو كـُـنتَ كـذلك ، لـَـتـذكـّرْتَ الفادي المصلوب عـلى الصليـب المشهـود ، وإكـتفــَيتَ بالإحـتفال بيوم ميلاد جـليل الأمم ويوم قـيامته الفـريـد ، شأنـك شأن كل القادة الغـربيّـين الذين ليس بـبالهـم تمجـيـد ذاتهـم في زمنـنا المعـهـود . وهاك مثال : فالملكة جـوليانا الهـولنـدية يحـتفـل شعـبها في عـيـد ميلادها ، فـكل عائلة تعـمل كـيكة في بـيتها ، وكـفى بـذلك إعـتزازاً بها ، أليس ذلك فـخـراً لهـم ولها دون أنْ يُؤلــّهـوها ؟؟ ولكـن نرجـع ونقـول : إن الخـلل الأكـبر يكـمن في شعـب الرافـدَين الذي كان سليماً معافى بالأمسِ ، فـغـدا اليومَ مُروّضاً مريضاً كأنه بلا حـِسّ ، فـكـلما طال عـمره إنحـنى ظهـره وتقـوّس ذيله نحـو أسفـله بـين رجـليه ، وإزداد إرتعاشه ، فـهل نـنـتظر تقـدّماً منه ؟ إنـنا حـين نستعـرض ذكـريات الماضي ورجاله نهـدف بالإخلاص إلى شعـبنا العـراقي والإستفادة من زلاّته وأخـطاء قادة جـهاده ، كي نـتجـنـّب المشيَ حـفاة بـين الأدغال والوقـوع في الفـخاخ المنصوبة في الحـقـول ، فالدنيا تـتطوّر وأمثالك لا يزال يتقـوقـع داخـل تمثال فـخـم ، يرتضي لنفـسه أن يُسجـد له ويُمجّـد كالصنم . يا صاحـب السيادة وأنتَ في العالم الآخـر نـذكـّركَ ونقـول : حاشانا لسنا نحـن ! ولكن الله هـو الغـفـّار في الأخـدار ، ونصلــّي " لا تــُدخِـلنا في التجـربة " وحـقـيقة الأمر إنّ الله لا ينصب فـخـّاً لـَنا ، ولا نحـن نجـرب الله رغـبة منا ، ولكـنـنا حـمقى نجـرب أنفـسَـنا ، في الوقـت الذي نطلب منه تعالى أن يُعـينـنا عـلى تجـنـّب تجـاربنا ، والضمير الحي عـلى نفـسه شاهـدٌ ، وكل تجـربة في الحـياة شـهادة ، وتكـفـينا عـزتـُـنا في اللقاءات شـهامة ، وكما يقـول البعـض : كل مَن عـليها فانٍ ، ولا يـبقى إلاّ وجـه ربّـك ذي الجـلال والإكـرام . نعـم ، ومِن جانبي لم يـبقَ عـنـدي إلاّ قـبلة مسيحـية لكـم ، وإذا كُـنـتُ غائباً عـنكم فـمن الرب سلام إليكم ، وإلى اللقاء معكم.
بقـلم : مايكـل سـيـﭙـي / عِـبرَ البحار