شارع المتنبي ونعيم الشطري وجهان لكتاب واحد هو الإنسان ...
مع بداية ربيع هذا العام (2009) زرنا زوجتي وأنا لأول مرة شارع المتنبي بعد إعادة بنائه. كنت مهموماً بما حصل لهذا الشارع حيث دمر وقتل الكثير من الناس الطيبين بمن فيهم عائلة الشابندر. كانت زوجتي تعرف ما حصل لهذا الشارع وسكانه الأوفياء للكتاب والثقافة. وكان الخوف يسيطر عليها قبل دخولنا الشارع خشية أن تتكرر المأساة. فهذا الشارع شهد واحدة من أعتى العمليات الإرهابية وأكثرها بشاعة ة وإحراماً وأعمقها حقداً وكراهية للإنسان والكتاب والثقافة والعراق. حين اقتربنا من وسط الشارع تقريباً, ونحن في طريقنا إلى حضور ندوة المعماري المبدع رفعت الجادرجي في ديوان المدى الثقافي في شارع المتنبي, حيث كان الشارع مزدحماً بقراء وباعة الكتب حتى ارتفع صوت متين ومتماسك, صوت رجل قارب الستين من عمره وهو يقرأ أبياتاً من قصيدة الجواهري الكبير.سلام على جاعلين الحتوف جسراً إلى الموكب العابر
سـلام على مثقل بالحـديد ويشـمخ كالقائد الظافـر
لا يمكن أن أخطئ التقدير, فهو صوت ذلك الإنسان الذي عشق الكتاب والشارع وأصبح جزءاً منه, رغم أن الشارع لم يجلب له العيش الرغيد ولا المال الكافي, بل جلب له الطمأنينة والصداقة مع الكتاب وحب الناس ومزيداً من حب الثقافة والمثقفين, إنه نموذج للإنسان الحر والأبي وصاحب فكرة مزاد الكتب في هذا الشارع المقدام, إنه نعيم الشطري, الذي تعتز به الشطرة والعراق كله.
جلب الصوت انتباه زوجتي أم سامر وراحت تمعن النظر بالرجل الذي يقرأ الشعر بصوت قوي ولكنه منفعل ومتفاعل مع مضمون البيتين. فنست خوفها, وهي ترى الزحام وهذا الإنسان بجسمه الممتلئ وروحه الوثابة التي هي روح الشباب وحيوية العاشق للإنسان والكتاب, فراحت تسألني عن القارئ وما عمله.
أعرف الشطري منذ السبعينات وسمعت عنه ولم نلتق. ثم التقنيا ونشأ ود أصيل بيني وبينه أحببته كثيراً وودت لو تحظى مكتبته بعناية خاصة. فكتبه مكدسة فوق بعضها يصعب استخراج كتاب منها, ولكنه العليم بموقع الكتب القادر على استخراج أي كتاب بلمح البصر.
بعد ثلاثة شهور من زيارتي الأولى له, زرت شارع المتنبي ونعيم الشطري للمرة الثانية حين وصلت بغداد للمشاركة في مؤتمر ومهرجان حركة الأنصار الشيوعيين ببغداد. زرت الشارع هذه المرة لألتقي بنعيم الشطري ومازن لطيف ومحمد وبقية الصحب الكرام.
كان يقف كالطود الشامخ يقرأ الشعب رغم المعاناة من قلة بيع الكتب ورغم العيش المرهق في تلك الغرفة الصغيرة المنزوية خلف شارع المتنبي.
ولد الطفل نعيم لأبوين شطريين كادحين, فسمي النعيم ليكون نعمة لعائلته , ونعم التسمية. ولد الطفل حسن الوجه وبهي الطلعة وعربي الملامح. نما وترعرع في مدينة الشطرة, وحين اصبح شاباً يافعاً بدا مربوع القامة أقرب إلى القصر منه إلى الطول, ولد بمدينة الشطرة الفقيرة والكادحة والتابعة لولاية الناصرية المشهورة بظلم الإقطاعيين وإمارة آل السعدون الذي منح رئيسهم لقب باشا في العهد العثماني, وسميت المدينة باسمه, ناصر باشا السعدون. التحق بصفوف الحركة الوطنية العراقية, تلك المدينة التي نمت وتطورت فيها الحركة الوطنية وجماعة ابو التمن ومن ثم صدر منها أول بيان شخصي للشيوعي يوسف سلمان يوسف.
سجن بسبب ممارسته السياسة التقدمية دفاعاً عن الحرية والديمقراطية وكرهاً لمشوهي الدستور العراقي وخاطفي الديمقراطية من حياة الناس. كان الرجل عاشقاً منذ الصغر, عاشقاً للأدب, وخاصة الشعر, والكتاب والقراءة الشغوفة.
فتح مكتبة ليتمتع بقراءة وبيع الكتب للناس وليشجع على امتلاك كل إنسان لخير صديق وخير جليس بعد ثورة تموز في العام 1958. لم يتمتع بهذه الهواية أيضاً بسبب المضايقات, فغادر الشطرة قاصداً بغداد العاصمة بعد انقلاب شباط من العام 1963. وحط الرحال في شارع المتنبي الذي سلب لبه وسيطر على عواطفه, وجعله أسير قراءة وبيع الكتب, وما أحلى مثل الأسر بين الكتب بالنسبة للشطري نعيم, رغم شظف العيش وصعوبة بيع الكتب حتى بات في فترات يصدح شجياً ومتحسراً على أيام أفضل حين كان الكتاب يلتهم في أعقاب ثورة تموز بالبيت التالي:
كل من يكلك زين كلّه أنتَ كذاب الشطري صار أسبوع ما بايع كتاب
ها هو الشطري يقترب من نصف قرن يعيش ويأكل وينام بين الكتب في غرفة يسميها حقيرة خلف شارع المتنبي في منطقة جديد حسن باشا! فمن يعيش من كده يعيش فقيراً, ومن يعيش بغير جهد وبالسحت الحرام يصبح متخماً ويعيش في القصور ويمتلك قناة تلفزيونية لم يكن قبلها يملك شروى نقير!
حين حضر مسرحية يدور مضمونها حول كارثة شارع المتنبي في إطار مهرجان حركة الأنصار الشيوعيين في مطعم فندق السدير, أنطلق من بين الحاضرين صوته الشجي ينشد ويشنف أسماعنا بأبيات شعر حزينة, فتهدج صوته وبكى وأبكانا معه. وزاد من فعل الحزن روعة التمثيل وجودة الإخراج.
كم أنت طيب أيها الرجل الحكيم, كم أنت شهم أيها الإنسان الذي لا يبيع إلا الثقافة الحية, لا يتعامل إلا بالكتب النظيفة مضموناً, كم تستحق أن تعيش في بيت نظيف وواسع وفيه مكتبة واسعة لتقضي حياتك التي أتمنى لها أن تكون طويلة, في قراءة الكتب وكتابة مذكراتك التي سوف تكون قيمة ومهمة بعد أن تكون قد اقتربت من السبعين وعشت الكثير والكثير جداً من أحداث وكوارث ومآسي العراق الحزين حتى الآن, رغم سقوط النظام فقوى الإرهاب لا تريد أن يهدأ العراق أو يعيش بسلام, فهل سنسمح لها بممارسة هذه الحرفة والهواية النذلة؟ كلا وألف كلا....
لا تجد الرجل يجلس وحده أمام مكتبته الصغيرة والمليئة بالكتب, بل يجلس معه أو تقف بجواره مجموعة من أصدقاء الشطري, ومنهم الصديق صاحب اللحية الرشيقة والرجل الطيب سعد حرزة عويز والصديق العزيز مازن لطيف .
كم هو منسي هذا الرجل من حكام العراق في كل العهود, لأنه يتعامل مع الكتاب الجيد, وكم هو مذكور ومطلوب ومحبوب من فقراء وكادحي ومثقفي العراق. كم أتمنى أن ينتبه له الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ليقدم اسمه مع مكن يستحق التقاعد والمكافأة والعيش بسلام.
يشكل الشطري وشارع المتنبي وحدة واحدة, كلاهما يحمل هموم العراق وكوارثه وآماله وطموحاته, فإذ تحققت لشارع المتنبي حين أعيد بناؤه, فمتى يتحقق للشطري إعادة بناء حياته المعذبة, رغم حلاوة العيش بين الكتب وقراء الكتب, فله الحق على الدولة أن يكون له بيتاً ومكتبة وراحة بال وراتب تقاعدي بعد مضي أكثر من نصف قرن في التعامل مع الكتب والكتاب والقراء.
تحية وألف تحية للشطري الجميل والحكيم والشهم وبائع الكتب الطيب في آن.
25/8/2009 كاظم حبيب