شعب تقرر وضع بقاياه في المتاحف وسط صمت رهيب
عندما يستذكر المسيحيون خطوات المسيح الاليمة الى الجلجثة , تدور في أذهانهم تلك النبوءة التي سبقت تلك الالام بفترة طويلة والتي أشارت الى ( انه سيكون في المعصرة لوحده ) حيث تلاميذه ومحبيه تناثروا وتشتتوا , كل في زاوية يحمي فيها نفسه , بل من جاهر منهم , وهو صخرته , فأنكره ثلاثا في لحظة ضعف لم يرحمه التاريخ فيها فسجلها لتبقى مثلا يُضرب للاجيال. بقيت ( نبوءة المعصرة ) حصة خالصة للمسيحيين الشرقيين على مدى الازمان والدهور وخاصة في تلك المراحل العصيبة حيث يشتد الظلام ويحشِد كل قواه لدحر النور.ان المرء ليستغرب حقا هذا الصمت الرهيب الذي تبديه الاوساط الحكومية والتشريعية و المراجع الدينية ومؤسسات المجتمع المدني في العراق اظافة الى المؤسسات الدينية الكبيرة في الوطن العربي والاطراف الحكومية العربية والدولية ازاء حملات الاضطهاد والتهجير والاكراه على التخلي عن الهوية الدينية والقومية التي تمارس بحق شريحة من ابناء شعبنا الكلداني السرياني الاشوري ( او كما يسميٍها البعض بالمسيح ) في مناطق واحياء في بغداد ومدن اخرى. ان البعض الذي رأى في محاظرة قداسة البابا وفي الرسوم الكارتونية وفي ازمة الحجاب في اوربا , نقول ان البعض الذي وجد في كل ماسبق ضربة غير مبررة لحوار الحضارات والاديان , عليه ان يعرف انه بصمته ولامبالاته تجاه محنة المسيحيين في العراق انما يشيِِع الى مثواه الاخير نموذجا واقعيا وملموسا يمتد عمره لالاف السنين لحوار الحضارات والاديان في الشرق يفخر به اهله ويصح ان يكون أية للاخرين. ان صرخات ونداءات البطاركة ورؤساء الكنائس لم تكن لتحدث , لو لم يطفح الكيل و يبلغ السيل الزبى , لانه معروف عن قادتنا الدينين انهم يرتبطون بسفر ايوب بعلاقة خاصة . وقد اعتقد الكثيرون ان تلك الصرخات والنداءات ستكون كافية لتوقظ الاوساط الحكومية والمنظمات الدولية للتصدي لواجباتها في حماية الانسان وحقوقه وتنبه المرجعيات والهيئات الدينية لتقوم بدورها الارشادي وتفتي بما أمر الخالق جلَ جلاله , وهكذا كان امل المسيحيون المسالمون ومبعث تقديرهم اعلانا يصدر من سماحة السيد السستاني او تصريحا للشيخ حارث الضاري او للازهر يتناول ما يتعرضون اليه من اعتداء وتهجير ونهب لممتلكاتهم وإجبارهم على دفع الجزية.
لقد قامت الدنيا ولم تقعد عندما استهدف احد التفجيرات مقهى تابعا لمجلس النواب العراقي فتوالت ردود الافعال بسرعة البرق من البيت الابيض ونيويورك , حيث الامم المتحدة, ومختلف العواصم العربية والاوربية تستنكر وتندد بالعمل كما شكلت الحكومة العراقية لجنة خاصة لتقصي الحقائق وتحديد الجناة والمقصرين , اما مجلس النواب فقد دُعي للانعقاد في يوم عطلة ليستنكر بتحدي استهدافه. لايوجد من يعترض على وقوف كل هؤلاء بوجه الارهاب كما ان من حق المجلس ان يُظهر اعلى درجات الشجب والتنديد لاستهداف اعضائه , علما بان هؤلاء يعرفون يقينا ان حياتهم في العراق في خطر دائم طالما ان الشرطي والموظف البسيط يُعتبر هدفا لعمليات الارهاب وانهم اي اعضاء البرلمان يتمتعون بامتيازات خاصة لقاء عملهم الخطر هذا , لكن المؤسف حقا ان لايتصرف جميع هؤلاء في اعارة اهتمام بسيط لحالات انتهاك صارخة لابسط قواعد لائحة حقوق الانسان. ام ان البعض ينتظر ان تُنجز الاطراف المتطرفة الهدف المنشود ونرى في المستقبل القريب ان ماتبقى من المسيحيين في مدن البصرة وبغداد والموصل قد تم الاحتفاظ بهم في متاحف المدن المذكورة فتشهد للتاريخ قصة شعب هو الاصل في بلاد مابين النهرين عاش وفيا لهذه الارض متأخيا مع سكانها وتعرض على مدى الايام الى سياسة تهميش وموجات اضطهاد تظهراخرحلقاتها في القرن الواحد والعشرين بعد اختراع الحاسوب والانترنيت!
في المدينة التي اعيش فيها في السويد , اجتمع مجلس المدينة قبل ايام , حيث ان هذا المجلس يضم ممثلين عن الاحزاب السويدية التي فازت في الانتخابات الاخيرة وقد استطاع احد التنظيمات المعروفة بميولها العنصرية من الحصول على موطئ قدم فيه. لقد طرح ممثل هذا التنظيم المسمى ( السويدي الديموقراطي ) في الاجتماع مشروعا يدعو الى عدم السماح باستقبال مهاجرين جدد في المدينة , وهكذا كان ذلك احدى الفرص النادرة التي يلتقي فيها اطراف الحكومة ممثلة باحزاب اليمين مع اطراف المعارضة ممثلة باحزاب اليسار والبيئة لتسجل جميعا موقفها الرافض للمشروع ولتقر بجميع اصواتها الخطة الموضوعة لاستقبال المدينة لحصتها المقررة من المهاجرين. انها ( الديموقراطية المسؤولة ) في ابهى معانيها حيث تشتبك وتتقاطع الحكومة مع المعارضة في كمِ من الملفات والقضايا لكن ذلك لايقف عائقا امام تاكيد مشترك لمواقف مبدئية واخلاقية وانسانية.
ان الادارة الامريكية تلهث وراء اجندتها وكانت شماعة حقوق الانسان دائما بالنسبة لها بوصلة تتجه نحو اقطاب تلك الاجندة ولذلك فقد قررت كما يبدو إذا لزم الامر واقتضت الاحكام ان تعطي هذه الشريحة اوكما يروق للبعض ان يسميٍها ( بطابورها الخامس ) , واقصد شعبنا الكلداني السرياني الاشوري , في قائمة الخسائر حيث تشعر هذه الادارة بالحرج الشديد في تبرير دفاعها عن هذا الشعب في الوقت الذي تجابه فيه التنظيمات والمشاعر الاسلامية المعادية لها ! , اما الحكومة العراقية ومؤسساتها والاطراف السياسية المشاركة في العملية السياسية فانها جميعا مُجبرة على السكوت على الانتهاكات التي تُرتكب بحق هذا الشعب لانها تعتقد ان عدم سكوتها سيظيف لها شبهة جديدة لدى معارضيها ومقاوميها فيشيعوا ان هؤلاء جميعا لايكتفون بالتعاون مع الامريكان بل ويحمون ( طابوره الخامس ) والمشركين في الداخل , ناهيكم عن ان بعضا من الاطراف السياسية وبسبب خلفيته الفكرية يجد صعوبة بالغة في هذه الفوضى من الاقتتال على الكعكة ان يتذكر ان هنالك مكونات اخرى يتكون منها الشعب العراقي ولذلك يُشعرنا بعضهم ( بالفضل الكبير) وهو يشير احيانا اشارات عابرة وباسلوب يفتقر الى الجدية الى تلك المكونات ! اما القوى العلمانية العراقية فقد أثر بعضها السكوت خوفا من إتهامه انه بتصريحاته واحتجاجاته على ما يحدث للمسيحيين انما يفعل ذلك ( وفاء لجلسة خمر) جمعته باحدهم فتُرفع عنه الحصانة البرلمانية ويتهم بالفساد ويرمى خارج المنطقة الخضراء!. هذا لايعني اننا يجب ان لا نسجل بتقدير كبير تلك الاصوات الدينية والعلمانية الشجاعة التي لم تستطع كبح مشاعرها وأبت إلا ان تكون وفية لمبادئها فزيًنت و تزين كتاباتها وتصريحاتها المواقع الالكترونية ووسائل الاعلام الاخرى في كلمة حق بشأن مايحدث لشعبنا في العراق.
ربما يقول قائل ويتساءل عن الحاجة الى السطور والحديث عن معاناة قومية او مذهب او جماعة دينية في العراق في الوقت الذي يدفع يوميا كل ابناء البلد بكل طوائفه ومذاهبه واديانه وقومياته دما جديدا وقودا لماكنة العنف والموت ؟ وتعليقا على هذا نقول ان سقوط مسلم ومسيحي ويزيدي او عربي وكردي وتركماني وكلدواشوري سرياني , ان سقوط كل هؤلاء او بعضهم في حوادث عنف او مفخخات هو قدر احمق مؤلم لكن امتزاج دمائهم يشير الى التضحيات التي تقدم يوميا وفي كل مكان على مذبح الوطن , ولهذا تأتي يوميا اخبار السيارات المفخخة لتعلمنا بعدد الضحايا فيشعر الجميع بالحزن والاسى عليهم كونهم عراقيون اولا واخيرا وقد لا يخطر في بال احد التدقيق في خلفياتهم الدينية او القومية, اما استهداف جماعة معينة بقصد الاضطهاد بسبب الدين فتلك مسالة اخرى يجب ان يتصدى لها كل انسان صادق يؤمن ان ( لا إكراه في الدين ) ووكل متحضر متنور يفهم ان احترام المعتقدات قانون فعًال على الذات والاخرين. ان الذي يفهم الدين ( اي دين ) بقيمه السمحاء عليه ان يُظهر استهجانه واستنكاره لكل اشكال الاضطهاد الديني ايا كانت صوره , سواء كانت تنصيرا باساليب غير مشروعة لمعتقلي غواتناموا او أسلمة تحت التهديد بالتهجير في احياء بغداد.
ايها المسيحيون الشرقيون. ياايها الذين يُطلق عليهم بالطابور الخامس زورا وبهتانا وهم لم يبخلوا على الوطن ابدا بعرق ودم فكانوا أوفياء له كما يعترف بذلك ( وطنيوه ) في قرارة انفسهم , ليس لكم غير وحدتكم . انه حكم القضاء ان يبقى المسيحيون الشرقيون لمئات السنين يؤدون واجبات المواطنة على اكمل وجه ويتمتعون بفتات حقوق الغريب ويكونون في المعصرة لوحدهم كلما دار الزمان دورته عليهم وصعدوا من جديد خشبة الصليب.
wadeebatti@hotmail.com