Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

شعب متراخٍ لا يبني وطناً ديمقراطياً

 

نعم العنوان مستفز، لكن زمن المذابح المستمرة لا يترك مجالاً للمجاملة حتى بأبسط صورها. صحيح أن الذنب في هذا التراخي ليس كله ذنب هذا الشعب لكننا نمر بمرحلة مصيرية الخطأ فيها قاتل حتى لمن لم يكن الذنب ذنبه. فأما أن يعي الشعب حقيقته وما يجري حوله سريعاً، أو أن يستمر الذبح حتى غايته التي يريدها الذباح. 

بعد تكرار المذابح واستمرارها وعجز الحكومة المغرقة في الفساد والأسرار والملفات عن مواجهتها، بدأ البعض بالتململ والصحو وصار يطالبها بـ "الحزم" في التعامل مع الإرهاب، وهو ما لمسناه من بعض المقالات حتى في المواقع المؤيدة للحكومة، وأكثر من ذلك من خلال ردود الفعل والتعليقات على تلك المقالات والأخبار. تلك خطوة إلى الأمام، لكنها لا ترتقي إلى حجم التحدي، ولا هي الحركة بالسرعة اللازمة لرد الفعل على التحديات المتسارعة. وأهم من ذلك أنها لا تكشف وعياً كافياً للناس بالنظام الديمقرايطي الذي يفترض أن بلادهم تقع ضمنه. ففي مثل هذا النظام يكون الشعب هو السلطة العليا، وليس رئيس الحكومة أو رئيس الدولة. وبالتالي فإن كان هناك من يجب أن يكون حازماً فهو صاحب السلطة الأعلى، أي الشعب، وليس من يقف تحته -  رئيس الوزراء او الحكومة فهؤلاء ليسوا سوى ممثلين لسلطة الشعب، ويبقى الشعب في موقفه المباشر المراقب والحكم والآمر الذي يجب على هؤلاء الممثلون أن يطيعوه أو يتخلوا عن تمثيله إن لم يكونوا مقتنعين بمواقفه. 

الشعب هو الزعيم، وأدواته عديدة، وابسطها وأوضحها هو صندوق الإنتخاب، ورغم ذلك فلا يبدو على ممثلي هذا الشعب ما يكشف قلقهم من استعمال هذا الزعيم حتى لتلك الأداة. 

ما لدينا هو منظومة لا يدرك حاكمها الأعلى أنه الحاكم الأعلى، وأنه يجب أن يمارس "مهام حكمه" إن أراد لبلاده أن تسير وفق ما يريد، لذلك فهو يطالب أو يطلب من، من هو تحته سد النقص والخلل في ضعفه هو وكسله عن اتخاذ موقف حازم. إنه يطلب من الحكومة الحزم الذي عجز عن الإتيان به!

يجب أن يدرك الشعب أن رئيس الحكومة مجرد شخص وضعته الإنتخابات بمحاسنها ومساوئها وضغوطها وملفاتها على رأس ممثليه الذي يفترض أن يرعون مصالحه. وهذا الشخص ليس بالضرورة بطلاً لا يهاب الموت أو منزهاً لا يقترب الفساد منه ولا قديساً لا يجوز التشكيك به أو معصوماً لا يأتيه الباطل. فإن كان له من هذه الصفات أحداها أو بعضها، فهذا خير على خير ولحسن حظ الشعب، لكن على الشعب أن لا يفترض ذلك، وأن يتعامل معه باعتباره إنسان أعتيادي يتفاعل مع كل الضغوط والمغريات كما يتفاعل أي انسان أعتيادي. 

يقولون أن السلطة "مفسدة"، فليس كل الدكتاتوريين كانوا كذلك منذ بداية توليهم السلطة، أو على الأقل لم يكونوا بقسوة ودكتاتورية ما ينتهون إليه عادة. فمع الزمن تنهار تدريجياً لدى معظم الحكام القدرة على مقاومة الضغوط والمغريات وتتجمع لديهم نقاط الضعف ولدى خصومهم "المسكات" عليهم ليبتزونهم بها، ومن النادر جداً في التاريخ أن تجد من بقي مبدئياً بعد سنوات من استلام السلطة كما كان قبلها. لذلك فعلى الشعب أن يدرك إذن أنه يخوض في مياه خطرة وعليه أن يفتح كل عيونه على هذا الذي كلفه بهذه المهمة غير المعتادة، فيحاسبه ويدعمه ويكون مستعداً دائماً لتغييره إن تطلب الأمر. إن الفرق الأساسي الوحيد بين الديمقراطية والدكتاتورية هي قدرة الشعب في الأولى أن يحاسب ويغير حكامه، ويفرض عليهم الإستماع إلى رايه في قرارتهم السياسية، من خلال الأدوات المتاحة له. ولكن ما فائدة تلك الأدوات من انتخابات وغيرها، وما الفرق في النهاية بين حاكم دكتاتور وآخر جاء بالديمقراطية، إن لم يكن للشعب إرادة بممارسة دوره في الرقابة والمحاسبة والتغيير وفرض رأيه؟

لقد أدركت الشعوب صعوبة تحمل الإنسان (الحاكم) لكل تلك الضغوط، فوضعت إجراءات إجبارية لتغييره بعد فترة من الزمن متمثلة بتحديد عدد دورات الحكم. وقد بلغ خوف الشعوب من ظاهرة إفساد السلطة على الحاكم درجة انهم منعوا تكرار انتخاب الحاكم في بعض دساتيرهم لعدد أكبر من رقم محدد، حتى لو اراد الشعب انتخابه، وحتى لو فاز بأعلى الأصوات. وحتى في بعض الدساتير التي تجاهلت تلك النقطة، فأن بعض الشعوب تعمل بها وتلزم حكامها بها أو يلزمون أنفسهم بها حتى صارت تقليداً لا يحيدون عنه. 

عندما نطالبه بالحزم، فعلينا أن نفهم أن الحاكم مثلنا، إنسان يجد أمامه مجموعة خيارات وأسباب متضاربة تبعث على التردد، ربما كان منها عدم وضوح الصورة، وقلة المعلومات وانخفاض مصداقيتها، ولكن بالتأكيد فأن أهم أسباب التردد عاطفية، تتمثل بالطمع والخوف و بعلاقاته الشخصية ومجموعة أصدقاءه ومؤيديه الذين لا يعلم ما الذي قد يحدث له إن هو أزاحهم. أي المصلحة الشخصية وما يؤمن له البقاء في السلطة، وحتى الحياة. 

حين يُطالب هذا الرجل بـ "الحزم" من قبل رئيس “متساهل” (هو الشعب) لا يعرف الحزم، وهو يعلم أن شعبه لا يجرؤ على تغييره مثلما لا يجرؤ هو على تغيير من هم دونه، فعلينا أن لا نتوقع نتائجاً. هذا التراخي الشعبي في العراق دفع بكتلة رئيس الوزراء العراقي على المغامرة بتقديم نفس الرئيس لحكومة ثالثة رغم الفشل الذريع في كل شيء تقريباً! ورغم أن مؤشرات المستقبل لا تدل إلا على المزيد من التراجع والهزائم التي تلوح علائهما تباعاً! رئيس الوزراء نفسه لا ينكر ذلك الفشل لكنه يجد من السهل أن يكرر مسرحية القاء اللوم على الآخرين وتبرئة نفسه من كل ذنب، ولعب دور الضحية المحاصرة حتى في الأمور التي استلم الأمر فيها وحصل على السلطة الكاملة فيها كالأمن، وحتى في الأمور التي لا دخل فيها لأعدائه أو للإرهاب كالفساد الذي تشارك به كتلته التي تأتمر بأمره، دون وجل أو قلق من العقاب، والإكتفاء بالهجوم على فساد وزراء الآخرين والدفاع عن كل وزير فاسد إن كان من جماعته.

قال البعض في الديمقراطيات العريقة: أن تمادي الحكومة يتناسب مع تساهل الشعب! ولدى حكومتنا شعب متراخ يمثل حلم أية حكومة فاسدة ويدفع حتى بغير الفاسدة إلى الفساد والتمادي في الفساد. شعب يقنعه أي بياع كلام بعبارتين فارغتين وينسيه أي مراوغ موضوعه الأساسي. شعب لم يفسد تراخيه الحكومة فقط، بل وكل ممثليه في البرلمان، فهو يسمح لنوابه أن يتجادلوا ويصوتوا، دون أن يتساءل أو يريد أن يعرف من صوت على ماذا! بل هاهي نائبة في البرلمان تقول وتتحمل المسؤولية عن قولها، بأن عد الأصوات يجري بطريقة مشبوهة وأنها تحفظ سراً يخص رئيس البرلمان فقط، دون أن يحرك ذلك الشعب وغضبه! 

ليس العجب في استمرار الإرهاب وانتعاش الفساد وابتلاعه لميزانية مهولة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً لهذا البلد، بل العجب كل العجب لو حدث عكس ذلك. فكيف يمكن لمثل هذا النظام الذي يقف على رأسه قائد متراخ جاهل لدوره وسلطته هو الشعب، إلا أن يكون ، عاجلاً أو آجلاً، منخوراً حتى النخاع ويسقط مثخناً بالدماء والفساد في نهاية الأمر؟ 

يشغل الشعب العراقي اليوم عن حكم بلاده ومراقبة ساسته، بالإرهاب المتعاظم والطائفية التي تربط به، صدقاً أحياناً، وكذبا ومبالغة أحياناً أخرى لتقسيمه إلى قسمين متحاربين والتخلص من "إزعاجه". لقد بين باحثون نشرنا تفاصيل مواقفهم أن الإرهاب الأمريكي - الإسرائيلي قسم نفسه إلى قسمين، قسم أسموه "القاعدة"، إشارة إلى المنظمة الإسلامية في أفغانستان، والثاني وضع نفسه في أعلى قيادات القوات الأمنية العراقية، وكانت فكرة شيطانية. 

فالرغبة التي يثيرها الخوف الطائفي، بإلقاء تهمة الإرهاب على الجانب الآخر، جعل السنة لا تهتم بضحايا القاعدة، فهم غالباً من الشيعة!  إنهم يقنعون ضميرهم بسهولة بأن تلك الحكومة من صنع الإحتلال وأن قتل منتسبيها ليس مشكلة ، وأنه يمكن النظر إلى تلك الجرائم ضمن إطار المقاومة والتحرير. 

وجعل الخوف الطائفي الحكومة والشيعة معاً لا تهتم بضحايا فرق الموت المؤسسة في أعلى المنظومة الحكومية الأمنية نفسها، والتي كانت تعبر السيطرات الحكومية بلا إعاقة، فهؤلاء الضحايا من السنة! فمن كان منهم غير إرهابي بنفسه، فهو "حاضنة الإرهاب". وإن اشتكوا فهم يشتكون كذباً لأنهم يريدون استعادة السلطة التي "أدمنوا عليها" في العقود الماضية. ولا يتردد الكثير منهم عن أن ينسب "الشر" في هؤلاء إلى جيناتهم التي تعود في أعماق التاريخ إلى صحابة "أشرار". وبالتالي فكل تخلص من أحد أصحاب تلك الجينات هو خير حتى لو لم يرتكب ذنباً (بعد!). 

من الطبيعي أنهم لا يفكرون بهذا الوضوح في تلك الحجج، بل بشكل هلامي ضبابي، يكفي لتهدئة ضمير المجموعتين عن ضحايا ومظالم المجموعة الأخرى، وهذا هو كل المطلوب. وهكذا انتعش الإرهاب على لا أخلاقية موقف الطرفين وقلة إدراكهما، وكان واضحاً لكل ذي عين أن قسمي الإرهاب اللذان يقتلان الشيعة والسنة، متعاونان ويمثلان جناحي نفس الإرهاب وأن هناك جهة واحدة تديرهما وتنسق تعاونهما، كما كشفت أحداث جسام عديدة. الطريقة التي نفت بها عملية كنيسة سيدة النجاة تكشف بما لا يقبل الشك أن منفذيها والقوات الأمنية التي هاجتمهم والقوات الأمريكية التي تابعت الموضوع وأشرفت عليه من الطائرات السمتية، هم فريق واحد، وقد كتبنا عن ذلك كثيراً. ولكن أوضح دليل على اختراق الجهات الأمريكية الإسرائيلية للأمن العراقي كان عملية أبو غريب التي يستحيل أن تتم بدون تعاون أعلى القيادات الأمنية في العراق على تنفيذها. 

لسنا هنا بصدد لوم الحكومة أو الصحافة أو الأمن، وقد فعلنا ذلك في مقالات عديدة سابقة، فالملام الأول في استمرار الإرهاب هو القائد الأعلى، هو الشعب العراقي الذي فشل حتى اليوم في وعي دوره وفي القيام بمهمته كقائد أعلى للمسيرة الديمقراطية كما يفترض. فشل في فرض ممثليه وأتاح للأمريكان أن يزيحوهم ويضعوا من يقبلون به حين قبل بإزاحة الجعفري بقرار أمريكي واضح قامت كونداليزا رايس بتنفيذه بالتعاون مع عملائهم من عصابة حكام كردستان وآخرين، وترك الخيار أما للمالكي الذي يعرفون كما يبدو قدرتهم على الضغط عليه من خلال حبه الذي لا يقاوم للسلطة، أو، وهو الأفضل، عادل عبد المهدي الذي عبر في مناسبات سابقة أنه لن يقول لهم "أف"، لا هو ولا مجلسه الأعلى المغرق في الفساد والثراء! 

فشل الشعب العراقي ليس فقط في إسقاط كتلة الحكومة واستبدالها بكلتة سياسية أخرى حين فشلت في الحكم بما يرضيه، وإنما أيضاً فشل حتى في الخيار الأبسط والأفضل، وهو دفعها إلى تبديل رئيسها بنفسها، بآخر من نفس كتلتها، وهو ما تفعله الكتل السياسية عادة حتى في الأزمات البسيطة التي تشعر أنها قد تهدد عدد مقاعدها! لكن كتلة رئيس الحكومة العراقية قبلت أن ترهن مصيرها السياسي، ليس فقط للإنتخابات القادمة فقط، بل ربما إلى الأبد، بشخص واحد لتبدو أمام ناخبيها وأمام الآخرين عاجزة عن تغييره، مثلما فشلت في أن تعترض على تركيز المزيد والمزيد من السلطة في يده، رغم أن بلدها كان قد خرج لتوه من تجربة مريعة مع الدكتاتورية يفترض بها أن تجعل كل عراقي شديد الحذر من أية علامة من علاماتها أو أية خطوة مهما كانت بسيطة باتجاهها، وأن يخافها كما يخاف الملسوع من "جرة الحبل". إن المراقب الخارجي يشعر بلا شك أن تلك الكتلة ربما تكون قد فقدت إرادتها أمام الرئيس وسلطاته المتعددة وملفاته السرية التي يعرف الجميع تعامله معها حتى بخلاف القانون! 

كذلك سقط الشعب، أو نسبة كبيرة منه، في كل الخدع السياسية المعروفة حتى الواضحة المكشوفة منها، مثل قانون البنى التحتية الذي هو عبارة عن ورقة فارغة من أية مادة، تماماً كفراغ العلب التي تسمى "أجهزة" كشف المتفجرات من أية دوائر إلكترونية. وقبل هذا الشعب في كردستان بعقود لصوصية في النفط بين حكومته المحلية والشركات الأجنبية، لمجرد أن حكومته أثارت حماسه للعقود الموقعة بتوقيع كردي! وقبل الشعب في بقية العراق بعقود خارجية مشبوهة بين رئيس الحكومة والأردن، حتى أؤلئك الذين أساء لهم الأردن طائفياً وأهانهم على الحدود واستمر بإهانة رئيس حكومتهم حتى وهو يوقع التنازلات والهدايا لهم. وقبل الشعب بالإمتناع عن التعاون مع الجهات الصديقة أو المستقلة القادرة على أن تكون صديقة مهمة وفي غاية الضرورة له، مثل حكومة أحمدي نجاد، إلا بالحد الأدنى الذي سمح به الأمريكان، وأضاع ما قد تكون فرصة ذهبية لإخراج العراق من كارثته. ومن ناحية أخرى قبل بالإتجاه الحكومي المشبوه إلى صداقات وعلاقات قوية مع جهات عميلة لإسرائيل بشكل خاص، فكانت أقوى العلاقات العراقية تتجه إليها بدون منازع، مثل حكومة الأردن في الجانب العربي وحكومة جيكيا في الجانب الأوروبي، وكلاهما الأقرب إلى إسرائيل في مناطقهما. 

ولم يعترض الشعب على دفاع الحكومة عن متهمين عليهم عشرات الأدلة التي تدينهم بالفساد مثل وزير الشباب الحالي، وقبل الغموض المريب في قضية وزير التجارة الذي كان لصاً محترفاً "حي على الصلاة"، وفي نفس الوقت قبل بدون اعتراض إزاحة الحكومة لمسؤولين لأسباب غير مفهومة إطلاقاً مثل إزاحة الناطق باسم الحكومة السابق، ولم يعلم الشعب إن كانت تلك الإزاحة عن فساد تمت التغطية عليه أم صراع ملفات بينه وبين رئيس الحكومة، ومثل ذلك حدث لرئيس البنك المركزي العراقي الذي أثيرت حوله ضجة كبيرة لم تسفر عن نتيجة، تماماً كما كان الأمر مع ملف الأسلحة الروسية التي مازال الناس لا يعلمون إن كان وراءها فساد أم ضغط امريكي لمنع العراق من التعامل مع غيرها. ولا كذلك اعترض الشعب على إزاحة من لم يدان بشيء كما حدث في وزارة الكهرباء ثم وزير الإتصالات، ولم تكلف الحكومة نفسها عناء توضيح الجرائم التي قاما بها، وعلى الأغلب أنهما أزيحا لأمانتهما ورفضهما الإنصياع للفساد، وهو وما يهدد بأن يحدث قريباً في النفط ولجنة الطاقة الوزارية، لأن مازال فيها من تمنعه كرامته من بيع شعبه ومصالحه تحت ضغط ذيول إسرائيل، لكن إلى متى سيصمد هؤلاء، وهم لا يتلقون الدعم الحازم من الشعب الذي يدافعون عن مصالحه، كما يتلقى ذيول إسرائيل دعمها الحازم لتحطيمهم؟

وهكذا، وبعد سنوات من تركه تحت سيف الإرهاب، أذعن الشعب العراقي، وتخلى عن دوره. وعندما تتخلى القمة عن دورها، فأن كل ما دون تلك القمة سيترك للرياح تتلاعب به وسيعتمد مصيره على الحظ. وفي حالة العراق بالذات، لا توجد فرصة للحظ، فهناك مصالح قوية جداً في تخريب هذا البلد بعضها إقتصادي والآخر سياسي. فأما الإقتصادي فتعرف الشركات انه كلما كان البلد تحت حكم الفاسدين والشعب مستسلماً كلما كانت مصالحها أكثر أمناً، ولنا في كردستان مثالاً حسناً. فحيث فشلت الشركات في فرض عقود مشاركة الإنتاج على الحكومة المركزية بفضل مجموعة من خبرائه ومثقفيه الذين نجحوا في أن يوصلوا الفكرة إلى الشعب وإلى مسؤولين يشعرون بالمسؤولية والضمير، ليرفضوا تلك العقود، فإنها نجحت في كردستان، حيث تسيطر فكرة القومية بشكل مرضي على كل شيء، وفرضوا عليها بتعاون العصابة التي تسيطر على الحكم فيها، عقوداً تقدم لهم أرباحاً مضاعفة أربعة أو خمسة مرات عن تلك المعتادة في العالم. 

أما من الناحية السياسية فأن الأجندة الأمريكية لأي بلد عربي لا يمكن أن تحيد عن الأجندة الإسرائيلية، والتي لا يمكن أن تسمح لأي بلد عربي أن ينتعش ولشعب عربي أن يسيطر على مقدرات بلده، ولنا في تجربة مصر التي أذعنت لسيطرة "صداقة" أميركا وإسرائيل عقوداً، دليل ناصع على ذلك. فكل شعب عربي مدرك بأن إسرائيل هي العدو الأكبر لمستقبله ومصيره، وأن خطرها لا يقتصر على فلسطين. وإسرائيل تدرك ذلك أيضاً وتعرف عدوها، فلا يمكن ان تسمح لعدوها أن يسيطر على مقدرات اي بلد، حتى لو كان بلده. وبالتالي فأن أميركا التابعة للأجندة الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالبلدان العربية، لن تسمح لأي شعب أن يسيطر حقاً على مقدرات بلده، مهما حاولت إثارة الغبار والضوضاء حول الديمقراطية. إنها تريد حكماً له شكل الديمقراطية الإنتخابي، على أن يكون فاسداً مخرباً، وتابعاً لأجندتها. إن تجارب أميركا الطويلة المرة مع بلدان العالم الثالث برهنت لها أن هذا الجمع ممكن وأنه الأفضل لها، والعراق حتى اليوم مثال ممتاز على إمكانية هذا الجمع. 

لقد فشل الشعب العراقي في مهمته الصعبة، في إدارة البلاد التي يحكمها. ليس فقط في ردع الإحتلال وأجندته، لكنه فشل أيضاً بشكل مخيف في أن يخيف ساسته الفاسدين من غضبه ، بل حتى في أن يحد من جشعهم بأي درجة كانت. كانت الدكتاتوريات تعتمد على إخفاء الحقائق عن الشعب قدر الإمكان، لكن في الديمقراطية وحرية النشر، الشعب يعلم الحقائق لكنها لا تؤثر فيه ولا تؤثر في اتجاه أصواته، وكأنه زومبي يتنفس وينبض قلبه دون وعي أو أرادة! اللصوص يتصرفون وكأنهم ضامنين لبقائهم وعارفين لرد شعبهم. يحكمون ويسرقون ويعطون المقاولات بأضعاف أضعاف أسعارها، وبدون إنجاز أية مشاريع تذكر، ثم يقدمون له ورقة لبنية تحتية له تدفع بالآجل!! أبناؤهم بلا مدارس وبيوتهم من الطين والتنك وحاكمهم لا يتردد في التبرع بأموالهم لمن ليس له طفل بلا مدرسة ولا بيت من الطين. يعيش ثلثهم تحت خط الفقر، وبرلمانهم الذي انتخبوه ليرعى مصالحهم يبني لنفسه بناية جديدة ليس هناك أية حاجة لها، بمليار دولار!! ولكي يرضي هؤلاء الوحوش الجيران المتنفذين، فإنهم يطلقون سراح إرهابييهم الذين امسكوا ودماء شعبهم على أيديهم، ولا يخشون رد هذا الشعب الجريح أو غضبه! وهذا ليس سوى القليل من الكثير...

ليست مهمة الشعب العراقي في تأمين الحياة الكريمة والمستقبل لأبناءه، مهمة سهلة بالتأكيد. والخطوة الأولى لكي يأمل العراق بالخروج من بين فكي هذا التمساح هي أن يدرك شعبه ويتجرأ على مواجهة الحقائق الكبيرة الصعبة والمؤامرات التي تحيط به. أن يدرك دوره ومكانه وواجبه في بلاده، ويتوقف عن مطالبة سياسييه أو التوسل بهم لإنقاذه، وأن يريهم حزمه في الحصول على حكومة تمثل أجندته ويهمها رضاه وليس رضا السفارة وأتباع اجندة الأمريكان الإسرائيلية كما هو الحال مع حكومته وساسته الحاليين بشكل عام. 

ومن الجهة الأخرى على مكونات الشعب أن تدرك أن الخطر لا يأتي من المكونات الأخرى أبداً، وما يحدث من تشويش وإرهاب إنما هو نتيجة لفتنة زرعها الإحتلال خلال سنوات وجوده، وهيأت لها الدكتاتورية في عقودها السابقة من أمتهان للإنسان وقبوله بدونيته. ليس الخطر الحقيقي من الطائفة الأخرى، رغم كل المؤشرات التي تثير المخاوف، بل من الأمريكان بأجندتهم الحالية وامتداداتهم الحالية. فلو أتيح للطائفتين أن يتعايشا في جو طبيعي، لاكتشفا أنهما كانا مخدوعين بشكل مذهل، وأن الإعلام قد قام بتعويج الحقائق بعلمية مدروسة ليشوهها فترى كل طائفة مفترسها كصديق، وترى الضحية الأخرى عدواً خطراً.

الأمور تتحرك بسرعة كبيرة، ولا أدري إن كان الشعب العراقي سوف يكون بالسرعة اللازمة للإدراك والحركة اللازمة. لكن من المؤكد أن الأوطان لا تبنى بسهولة، ولا يجب أن يتم التخلي عنها بسهولة. فمن أراد وطناً، عليه أن يمتلك بنفسه الحزم اللازم لترميمه وللدفاع عنه، لا أن يترجى الآخرين بإبداء ذلك الحزم، حتى لو كانوا ممثليه المنتخبين. أما من فضل التراخي واللهو بما يختار من قصص ونظريات بما يزيح عن كاهله المسؤولية من جهة، ويرضي غروره من الجهة الأخرى، فله ما يريد بكل نتائجه.

كيف تمكن الشعب الفنزويلي من تحقيق ما فشلت شعوب كثيرة فيه: أن يختار حاكمه بنفسه ويحاسبه ويحافظ عليه، رغم أن الوحش الأعظم يرقد عند بابه؟ بالإصرار والإرادة والتظاهرات والوعي والإستعداد للتضحية من أجل الكرامة وحق حكم نفسه بنفسه، وحين تطلب الأمر، بالتدخل بالقوة لإنقاذ من اختاره لنفسه حاكماً، من براثن ذلك الوحش وضباعه المحليين. هل للشعب العراقي إرادة الشعب الفنزويلي ليكون حاكم بلاده بنفسه؟ إنه لم يفعل ذلك مع الجعفري، وتساهل مع المحتل الأمريكي وأذعن لفرض إعادة الإنتخابات، وهو يتساهل اليوم مع المالكي الذي تعلم كيف يروض شعبه، وراح يتمادى كل اسبوع بتسجيل هزيمة جديدة للشعب لحساب الوحش وضباعه. 

الديمقراطية ليست منحة مجانية مطوبة للشعب. إنها ليست سوى نظام حكم مثل غيره من الأنظمة، لها حاكم هو الشعب، مثلما الدكتاتورية نظام حكم يحكمه الدكتاتور. وما لم تكن للحاكم إرادة ليحكم، فسوف يزول ليحل غيره محله. وما لم تكن للشعب إرادة للحكم وحرص عليه، تنافس في قوتها إرادة الدكتاتور للحكم وحرصه عليه، أو إرادة الإحتلال للسيطرة على البلاد وحكمها من خلال عملائه، فلن يحكم الشعب طويلاً حتى إن تم تسليمه مقاليد السلطة باليد، وعليه أن لا يأمل باستقلال لوطنه ولا بكرامة له، ولا لأولاده بمستقبل. إن الشعب المتراخي المتنازل عن حقوقه ودوره القيادي، والقليل الغيرة والإصرار على حقه في الفهم والقرار والحكم ، لن يحصل على وطن ديمقراطي لنفسه وأجياله التالية، وقدره أن تتقاذفه الدكتاتوريات وعملاء الإحتلال، حتى تجف أرضه من ثرواتها ويفنى كما فني غيره.

 

Opinions