شعوبٌ تبكي على رؤسائها ـ ـ وشعوبنا تبكي مِن رؤسائها !!
عندما سَمِعتُ بنبأ سقوطِ طائرةِ الرئيس البولوني ليخ كاتشينسكي في العاشرِ من نيسانِ ( أبريل ) سنةِ 2010م وذلك أثناء محاولة هبوطها في إحدى المطاراتِ بالقربِ من مدينةِ سمولينسك الروسية والتي راحَ ضحيتها أكثر من (96) شخصيةٍ بولونيةٍ ( بعض المصادر تؤكد بأنّ عدد الضحايا قد وصلَ الى 130 ضحيةٍ ) تفاعلتُ مع الخبرِ من منطلقٍ وشعورٍ إنساني طبيعي وغير مبالغ فيه تجاه فقدان هذا العدد من الضحايا ، فقد ( تعودّنا ) والأسى ينهشُ قلوبنا على سماعِ سقوطِ ضحايا بالعشراتِ في حوادثِ العنفِ والتفجيرات التي تطال يومياً الأبرياء من أبناءِ شعبنا .لكن إهتمامي بالحدثِ تغيّر بشكلٍ تصاعدي عندما جاءتني مكالمة هاتفية بعد ثلاثة أيام من الحادثِ من أحدِ الأصدقاءِ البولونيين الذين كانوا يعملون معي في أحدِ المصافي في البلدِ الذي أقيمُ فيه حالياً ، والذي بدأ مكالمته لي بالعِتابِ على عدمِ إتصالي به لمواساتهِ على هذا الحادث والذي أودى بحياةِ رئيس بلده السابق وفريق عملهِ !! .
ومِما زادني حيرة وتعجب بكاء صاحبي الشديد والمستمر وكأنّ الحدث قد حدثَ للتوِ ولأحد أقاربهِ !! ، فبدأتُ بتهدأتهِ وسؤاله عن ( الرئيس الراحل ) ، وهل كانت لديه إنجازات عظيمة تُذكر و ـ ـ و ـ ـ وكل هذا لرغبتي في تبريرِ شعورهِ المأساوي هذا ، حيثُ بدأ محدثي في سردِ مدى حزن الملايين من الشعبِ البولوني على رئيسهم ورفاقه ، وكيف إستقبلوا النبأ ، حيث ُبدأوا بتحضيراتهم خارج وداخل بولونيا لإقامةِ الصلواتِ ومجالس العزاء وغير ذلك من الأمور، وبعد إعتذاري له عن تقصيري لإعتقادي بأنّ هذا الحدث لا يهمهُ كثيراً خاصة وإنه قد ترك بولونيا قبل ثمانٍ وعشرين عاماً أنهيتُ مكالمتي معه والحيرة قد سيطرت على كياني من ردّة فعل صديقي تجاه الحدث !! وبررتُ ذلك كوني أعرفهُ جيداً وأعرف صفاته ومنها عاطفتهُ الكبيرة تجاه الأحداث والتي قد تصل الى حد المُبالغةِ فيها .
لِذا قررتُ الإتصال بصديقٍ آخرٍ بولوني كان لا يزال يعمل معي كمهندسٍ في أحدِ أقسامِ الشركةِ التي كنتُ أعمل فيها ، والذي يمتاز بهدوءهِ وبمشاعرهِ المستقرةِ ونظرته الى الأمورِ بشكلٍ موضوعي ، والذي لايزال يرتبط بوطنهِ الأم كونه لم يمضي على قدومه الى كندا إلاّ بضعة سنيين وبعقد عملٍ مع الشركةِ ، وحال سماعي لصوته عبر الهاتف تأكد لي من أنّ الحُزن قد خيّم على الشعب البولوني بأسرهِ داخل وخارج بولونيا ، فوجدتها فرصة لسؤالهِ عن هذا الحزن المبالغ فيه !! ؟ وهل كان الرئيس الراحل ذو شعبية كبيرة الى هذا الحد ؟ وما هي الأعمال التي قام بها ليحصل على حُب شعبه بهذه الطريقة ؟ حيثُ أجابني من أنّ الرئيس الراحل قد عرفه الشعب بشكلٍ مباشرٍ من خلال خدمته كعمدةٍ لمدينةِ وارشو لثلاثةِ سنواتٍ قبل تسنمه لمنصب رئيس الجمهورية في الإنتخابات التي جرت في سنة 2005م ، وقد كان يعمل من خلال حزبه وفريق عمله على تأسيسِ " الجمهورية الرابعة " في بولونيا والقائمة على أساس القوة والعدل الإجتماعي !! وإنّ أمل الشعب البولوني به كان كبيراً لقيادة التغيير !! . عندها أدركتُ بأنّ هذا الشعب لم يكن يبكي على شخصِ الرئيسِ فقط وإنما كان يبكي على الأملِ الذي ضاع !! فأعطيتهم العذر لِما شاهدته من حزن للملايين على شاشة التلفاز داخل وخارج بولونيا .
عُدّتُ بعدها بذاكرتي الى الخلفِ وبدأتُ أسترسل أحداث بلدي العراق والبلدان الشرق أوسطية الأخرى وأقف عند موت كل رئيس أو زعيم بلد من بلداننا وردة فعل الشعب تجاه الحدث ، فوجدتُ مثلاً من إنّ الشعب العراقي برمتهِ كان حزيناً لفقدان الملك غازي الأول بحادث السيارة المعروف في يوم 3/4/1939م ، حيثُ خرجت جماهير الطلبة من الكليات والمعاهد ودور المعلمين والمدارس الثانوية وبقية أبناء الشعب العراقي في مسيرات عفوية ضاربين بأكفهم صدورهم العارية مُرددين هتاف " الله وأكبر يا عرب ـ ـ ـ غازي نفكد من دارة ـ ـ ـ وإهتزت أركان السما ـ ـ ـ من دعمتا السيارة " !!! ولم تجدي محاولات الشرطة الخيّالة لِتفريقهم !! .
وفجأة إنتقل المَشهَد في مخيلتي الى ما نراهُ اليومَ في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا وبُلدان شرق أوسطية أخرى من مَشاهِدٍ محزنةٍ لِشعبٍ يتظاهر ويعطي الشهداء ويبكي ويتوسل رئيسهُ لِترك منصبه الذي قرر أن يجلس على كرسي رئاسته الى أن " يقضيا الله أمراً كان مقضيا " ومن ثُمّ يورثهُ لإبنهِ من بعده وهكذا دواليك ( أي مداولة بعد مداولة ) ، فرثيتُ لحال هؤلاء الرؤساء قبل رثائي لشعوبهم ، لِما لاحظتهُ عليهم من خسارتهم لكرامتهم وهيبتهم بعد خسارتهم لمواقعهم وشعبيتهم .
فمتى يأتي اليوم لتبكي تلك الشعوب على خسارة رؤسائها سواء تركوا مناصبهم بشكلٍ إختياري أو بحادثٍ عرضي !! .