Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

شكرا لحفاري القبور

لا احد يرغب في التكلم عن الموت ولكن العادات المتبعة من قبل مجتمعي المصغر في هذه المناسبة الحزينة دفعتني إلى الكتابة عنها وتوثيقها لكي يطلع الآخرون عليها لأنها تستحق أن تصبح مثلا أعلى يقتدى به في المجتمع ككل فلا زالت مراسيم الجنازة والدفن بين أبناء قريتي القاطنين في المدينة بعيدة عن أجواء الأخيرة وملتزمة ولحد بعيد بروح القرية ومحتفظة بقوة العلاقات الاجتماعية الفطرية والعفوية التي لا تخضع لقانون المجاملة ولا تسير بوقود المادة ولكن كل شيء يأتي طوعيا وكأنك تعيش في مجتمع اشتراكي مثالي طوال فترة العزاء والذي شدني إلى الكتابة عن هذا الموضوع هو ذاكرتي المليئة بشواهد عن أبي الذي كان دائما مستعدا لحفر القبور لأي مفجوع بحالة وفاة حتى لو أتاه المستنجد وهو في أقصى درجات التعب لم يرفض يوما تلك الدعوات التي أجدها صعبة فانا أيضا أستطيع أن أحفر خندقا كبيرا ولكن أن يكون ذلك الخندق قبرا .. أعذرني هذا مستحيل.. فأنا أعترف سأفشل أمام التزام أبي بهذا العمل الذي يعتبره عملا إنسانيا كبيرا وعلى حد علمي لم يتقاضى أجرا أو هدية يوما ما عن ذلك العمل باعتباره واجب مقدس على أي إنسان ويشاركه في ذلك خيرة من رجال القرية أمثال.. العم خيو أبو غزوان وارسو أبو عصام والعم أيلول والعم بيتو شاهين وميخائيل أبو جوزيف ولازار خننيا وغيرهم الكثيرين من الرجال الذين يستحقون من أبناء قريتهم شكرا متواصلا وعرفانا بجميلهم الحاضر دائما وبشكل مجاني للجميع من أهل تلكيف وليس فقط للأقرباء وكذلك الكثيرات من النسوة الحاضرات دائما لغسل الموتى والقيام بالخدمة وفي مقدمتهم العمة أيلشوة أم أوشانا أدام الله في صحتها . ربما ستستغرب عزيزي القاري من هذا الموضوع والطريقة التي أتعرض فيها للشخوص ولكن لو علمت ما يقدمه هؤلاء لكل من يفقد عزيزا من عائلته ستزول كل أسباب اندهاشك وربما ستعتبرنا محضوضين بسبب وجود مثل أولئك الخيرون ومثل هذه العادات التي ترفع من كرامة الميت وتحسن توديعه من هذه الحياة لا بل يحسدنا عليها الكثير من الغرباء وأهل تلكيف الآخرون ويشيدون بها فنحن فعلا مميزين بتلك المراسيم ويحق للمميزين التفاخر أحيانا حتى لو كان الموضوع المطروح هو الموت بالرغم من أن هذه المناسبة تأخذ نصيبا كبيرا من البهرجة والمظاهر الفارغة لدى الكثيرين ينبغي تجاوزها ويحضرها البعض كمنتقد لأصحاب العزاء أو مجرد متفرج علما بأن مثل ذلك الوقت يمثل أحوج أوقات الإنسان إلى المساعدة والحنان وبدل البساطة المطلوبة في هذه المناسبة تجد الكثير منا يبالغ فيها ويعطيها أكثر من حقها الطبيعي وبعض الموسرين يبالغ في جعل القبور تحفة معمارية محاطة بسياج حديدي يأخذ في ذلك مساحة ربما تكون أكبر بكثير من تلك التي يستحقها أي واحد منا بعد الموت وكاختيار شخصي أميل دائما إلى الحرق لكي لا أكلف الأرض مترا واحدا أو اثنان أزاحم فيه الكثير من الأعشاب البرية والزهور الموسمية والنمل والكثير من الكائنات الحية الأخرى التي لا نعير لها أهمية وكان الأرض خلقت لنا فقط . ولكي نعطي للموضوع حقه الطبيعي سأعود معك عزيزي القارئ إلى حيث أنا موجود حيث لا يترك صاحب العزاء لوحده لمدة طويلة قد تفوق الشهر وتكثف زيارات الجميع له لكي لا يبقى وحيدا ويتذكر الألم هنا حيث أصف لك الموت يجب أن يحضر الجميع ويساهم الصغير والكبير بشيء ما مهما كان متواضعا أو كبيرا المهم أن تقدم شيئا لأن عربون المحبة يقدمه أبناء قريتي غالبا في مناسبات الموت فلن تمر ساعة على الحدث الجلل حتى ترى التقديمات متوالية فلن يتحمل أهل العزاء غير الحزن والألم وكل شيء أخر سيتكفل به الأقربون وحتى البعيدون على أن تتبرع في نهاية يوم الحداد الأخير بمبلغ من المال حسب القدرة ولكن ستلام لو تغيبت عن الحضور ولو لدقائق والنعش مهما كان البيت بعيدا عن المقبرة لن تحمله ألا أكتاف الشباب فبالرغم من توفر السيارات لازال الموت يمشي في شوارع مدينتي الصغيرة على شكل مسيرات جنائزية راجلة تسبقها جوقة من رجال الدين والشمامسة ولا يمكن أن يقتصر هذا الأجراء على احدهم ويحرم منه الأخر فالجميع متساوين في حق الاهتمام بهم بعد الموت . وكما نوهنا من البداية فحفاري القبور جاهزون دائما ومستعدين لما يعتبرونه أجرا عظيما يستحقونه عن ذلك العمل المجاني والذي يحملهم في نظر أبناء بلدتهم إلى أعلى مراتب الاحترام لا بل يخلدهم كفاعلي خير قلما نجد أمثالهم في المجتمعات الأخرى علما بان هذا النوع من الاهتمام يكون الأعلى والأفضل في نوعيته عن تلك التي يستحصل أجرا لقاء القيام بها وفي الختام لا يسعني سوى تخليد أمثال هؤلاء الأبطال ببعض الكلمات وتوجيه الشكر الدائم لهم عن كل ضربة معول أو سحبة مجرفة أو عن كل قطرة عرق تتصبب منهم أثناء ذلك العمل الإنساني الجليل لأن جهودهم فعلا تستحق الثناء والشكر وأسمائهم تنقش فوق أحجار النعوش لأنهم أناس لا يعرفون التعب ولا يملون من تقديم المزيد خاصة عندما تصنف تقديماتهم تحت خانة فعل الخير .
عصام سليمان – تلكيف .
Esa_j9@yahoo.com Opinions