شيء عن حقيقة الأنفال الصدّامية في كُردستان العراق!
بناء على دعوة وجهت لي من لجنة الوفاء لمبدعي الثقافة العراقي من الأحياء والأموات واحتفاءً بذكرى وفاة الكاتب والصحفي الأستاذ ناجي صبري عقراوي شاركت في ايام ثقافية ثلاثة أقيمت في مدينة أربيل بين 28/10-30/10/2009 وبالتعاون والتنسيق مع وزارة الثقافة في حكومة إقليم كُردستان العراق. وفي هذه الندوة تسنى لي تقديم المداخلة التالية حول واحدة من أبشع العمليات الإجرامية التي ارتكبتها الدكتاتوريات الغاشمة في بلدان العالم في النصف الثاني من القرن العشرين ضد الشعب الكُردي والتي أصبحت تعرف بـ"مجازر عمليات الأنفال وكيماوي حلبچة"[1], والتي تعتبر جزءاً وتدخل ضمن مفهوم "عمليات الإبادة الجماعية وضد الإنسانية". وإلى السيدات والسادة الكرام اقدم نص هذه المداخلة:المضمون الفاشي لمجازر الأنفال وحلبچة في كُردستان العراق
المدخل
أين تكمن أهمية البحث في هذا الموضوع ؟
حين اخترت الكتابة في هذا الموضوع في ضوء الدعوة التي وجهت لي للمشاركة في مهرجان الذكرى السنوية لوفاة الكاتب والصحفي الكردي ناجي صبري عقراوي, هذا الكاتب والمثقف الذي عالج المشكلات الكردية والعراقية باللغة العربية, انتصبت أمامي الملاحظات التالية:
1. إن المهرجان يُعقد بحدود الشهر الذي توقفت فيه عمليات مجازر الأنفال ضد شعب كردستان في تشرين الأول/أكتوبر 1988, وبالتالي فهو يبحث في ذكرى حدث مهم ونهاية لكارثة إنسانية كبرى.
2. وأن أصدقاء الكُرد من العرب وكذلك قوى الشعب الكردي الديمقراطية لم تستطع حتى الآن ورغم مرور 21 عاماً على تلك الأحداث المأساوية أن تقنع نسبة عالية جداً من بنات وأبناء الشعوب العربية بدموية تلك الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الكردي الذي لم يكن يطالب بأكثر من حقوقه القومية المشروعة وجوبه بتلك العمليات الجهنمية. وبالتالي لا يزال هناك الكثير من العرب ومن المثقفين العرب الذين لم يصدقوا وقوع تلك الجرائم في كُردستان العراق.
3. وأن الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان لم تستطيعا حتى الآن إعادة بناء مدينة حلبچة والمشاركة في تعويض عائلات ضحايا الأنفال أو توفي السكن اللائق والعمل المناسب والمعالجات الطبية والنفسية الضرورية.
4. وأن فكر الكراهية والحقد ما زالا يفعلان فعلهما في الساحة السياسية العراقية وفي المجتمع العراقي, سواء أكان فكراً شوفينياً أو عنصرياً أو مناهضاً لأتباع ديانات أخرى أو مذاهب أخرى, وأن ثقافة العنف والقسوة والتمييز لا تزال هي التي تلعب دورها في العلاقة بين المكونات رغم تراجع العنف والإرهاب الدموي نسبياً.
5. ولأن الحكومة الاتحادية في بغداد لم تع حتى الآن أهمية وضرورة الاعتذار لما مارسته الدكتاتورية في كردستان باسم القومية العربية وباسم الحكومة العراقية بحق الشعب الكردي.
6. ولأن الراحل كان قد كتب الكثير من المقالات التي تدين جرائم عمليات الأنفال والتي تفضح الفكر والذهنية والممارسة التي كانت تكمن وراء ذلك ومن أجل منع وقوعها ثانية في العراق أو في أي بلد أو منطقة في العالم.
*********
تمر علينا في هذه الأيام الذكرى الحادية والعشرون لنهاية مجازر الأنفال التي مارسها النظام الفاشي في العراق والتي بدأت في شهر شباط/فبراير من العام 1988. وقد كتب عنها الأخ الراحل الأستاذ ناجي صبري عقراوي الكثير وسعى لإنصاف ضحايا الأنفال. وتأكيداً لما ناضل من أجله بهدف تشديد فضح الخلفية الفكرية والسياسية لتلك العمليات وإعادة بناء ما خرب من كردستان, وخاصة بالنسبة إلى تلك المناطق التي شملتها الضربات العسكرية لقوات الحكومة الفاشية, وخاصة حلبچة, أقدم هذه المساهمة في الحديث عن الطبيعة الفاشية لحملات مجاز الأنفال وحلبچة من قبل النظام البعثي.
لقد شهد العالم خلال سنوات القرن العشرين الكثير من المجازر البشرية التي راح ضحيتها عشرات بل مئات ألوف وملايين الناس الأبرياء لأسباب ترتبط بالطبيعة العنصرية للنظم والقوى السياسية التي مارست تلك العمليات والتي استهدفت إبادة مجموعة قومية أو أثنية أو دينية أو مذهبية أو فلسفية أو فكرية وسياسية والتي اعُتبرت كلها مجازر جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية . وكانت مجازر الأنفال وقصف حلبچة بالكيماوي واحدة من أبشع المجازر تلك التي تعرض لها شعب كُردستان في العام 1988 والتي كانت القمة المرعبة في ما مارسته كل الحكومات العراقية السابقة.
وكمواطن عراقي من أبناء القومية العربية اشعر بالألم والخجل لما ارتكبه الفاشيون العرب في كردستان العراق من جرائم يندى لها جبين البشرية وتطالبنا تلك الضحايا البشرية جميعاً بالنضال من أجل منع وصول مثل هذه القوى المجرمة إلى الحكم ثانية في العراق أياً كان الرداء الفكري والسياسي والديني والمذهبي الذي يمكن أن تتلفع به أو تدعيه.
وأتمنى أن يساهم كل مواطن عربي في العراق وفي أي مكان آخر بحمية عالية في تعرية الخلفية الفكرية والأهداف الحقيقية وراء ما حصل في كردستان وأن يمارس الشجب والإدانة ضده بكل وعي ومسؤولية إزاء التآخي بين مختلف الشعوب في البلد الواحد وفي أرجاء المعمورة. إن الوعي القومي حين يشذ عن الطريق ويتشوه, حينها يمكن أن يمارس كل الجرائم المريعة باسم القومية والدفاع عنها والحفاظ على نقاوتها, وهي الشوفينية والعنصرية المقيتة بعينها وليس غير ذلك.
لم تكن هذه المجازر التي تواصلت طوال تسعة شهور نتيجة رد فعل أو موقف سياسي إزاء الحركة الكردية التحررية المسلحة في كردستان العراق, بل كانت تعبر عن أيديولوجية فاشية وذهنية عنصرية مناهضة للقوميات الأخرى تلبست قوى البعث الحاكم وكانت ترفض الأخر وتسعى إلى تصفية حركة شعب يطالب بالحرية والديمقراطية وممارسة حقوقه كاملة غير منقوصة بما فيها حقه في تقرير مصيره بنفسه ودون وصاية من أحد.
إن عمليات مجازر الأنفال والضربات الكيماوية في حلبچة كانت قمة الأفعال العسكرية والعدوانية التي جابهت بها الحكومات المركزية في العراق الشعب الكردي الذي كان طالب قبل تأسيس الدولة العراقية بحقوقه المشروعة واستمر في المطالبة عليها طيلة العقود المنصرمة إلى أن حقق جزءاً أساسياً منها في العام 1991/1992 والتي تستوجب التكريس دستورياً وعبر قوانين واضحة وتمارس فعلياً.
لقد رفض المحتل البريطاني تحقيق حلم الأمة الكردية بالوحدة وواصل وعمق ووسع من حالة التقسيم التي منيت بها أرض كردستان منذ معارك جالديران في العام 1534 ووزعت إلى أربع دول بعد أن كانت حينذاك تحت احتلال الدولتين العثمانية والفارسية.
ثم رفضت الحكومات العراقية المتعاقبة, بعد أن ألحقت ولاية الموصل بالعراق في العام 1926, الاستجابة لمطالب الشعب الكردي وتنفيذ ما اتفق عليه في قرار عصبة الأمم والرسائل المتبادلة بين رئاسة العصبة والملك فيصل الأول والحكومة العراقية. واتخذت سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة تهميش الشعب الكردي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً, إضافة إلى محاولات أولية في تغيير البنية السكانية لبعض مناطق كُردستان العراق دون أن يتبين منها أنها تريد ذلك والتي بدأت في منطقة الحويجة.
وحين كانت الأصوات الكردية ترتفع مطالبة بحقوقها المشروعة, كانت الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي تواجه ذلك بالادعاء بوجود تمرد كردي لتتوجه بإنزال ضربات عسكرية ضد مواقع مناضلي الشعب الكُردي, ولم تتورع عن إعدام من كان مشاركاً في هذا النضال من العسكريين الكُرد, كما حصل في الموقف من الضباط الأحرار الكُرد الأربعة في حركات عام 1946.
ورغم النضال الذي خاضه الشعب الكردي والدعم الذي حصل عليه من المناضلين العراقيين العرب والأحزاب الديمقراطية لم يتحقق للشعب الكردي حتى سقوط الملكية أي مطلب من مطالبه العادلة وبقى التهميش متواصلاً ولم يحصل حتى على جزء ضئيل من موارد نفطه المالية لتصرف على عمليات التنمية والإعمار والتشغيل في كردستان العراق. وإذ شارك بعض الكُرد في مجلس النواب أو الحكومات المركزية العراقية المتعاقبة, فلم تكن تلك المشاركة حقيقية أو مدافعة عن مصالح وإرادة الشعب الكردي بل كانت تجري تحت مظلة الحكم الملكي ولصالحه وضد الشعب الكردي وحقوقه. كما أن البعض من ابرز هؤلاء قد شارك في اضطهاد كل الشعب العراقي بمن فيهم الشعب الكردي. ونورد هنا نماذج قليلة على سبيل المثال لا الحصر: بكر صدقي العسكري سعيد قزاز وعمر علي.
لم يكن الحكم الملكي عنصرياً أو فاشياً, بل كان رجعياً ومناهضاً للديمقراطية رغم وجود دستور ديمقراطي وكان قومياً عربياً شوفينياً, رغم الأصول الكردية أو التركمانية للبعض منهم. ووجد هؤلاء التأييد من القوى القومية العربية الشوفينية في الموقف من المسألة الكردية ومن حقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة.
وبعد ثورة تموز 1958 بدأ الحكم الجديد بمحاولة جادة لإنصاف الشعب الكردي والاعتراف له بحقوقه المشروعة على أرض العراق وعلى المشاركة في الوطن والحقوق والواجبات. إلا أن هذه البداية من رئيس الحكومة وقائد الثورة عبد الكريم قاسم قد تعثرت بفعل عوامل كثيرة بما فيها الفردية والحكم غير الديمقراطي وغياب المؤسسات الدستورية من جهة, والعجالة في تحقيق المطالب من جهة أخرى, ودور القوى القومية العربية الشوفينية الداخلية والدول العربية والدولية من جهة ثالثة, كما بدأ النزاع العسكري المسلح بين قوات الحكومة وقوات البيشمرگة الكُرد, وبهذا بدأ استكمال تراجع الثورة لا عن حقوق الشعب الكردي فحسب, بل وعن مجمل مسيرتها الديمقراطية وانتكست بثورة الردة الفاشية في شباط/فبراير 1963.
ومارست الحكومات القومية المتعاقبة سياسات مناهضة للكُرد ومتميزة بالشوفينية والذهنية العنصرية والاستبداد وممارسة القسوة في معالجة المشكلات الداخلية. ولم تبذل أية جهود حقيقية لمعالجة المسألة الكردية, بل استمر التهميش بكل أشكاله واستمر استخدام القوة والسلاح لفرض إرادة الحكم المركزي وذهنيته الشوفينية على الشعب الكردي. وإذ حاول الدكتور عبد الرحمن البزاز, وهو القومي القانوني المنفتح, أن يعالج المشكلة بصيغة ما, وجد المقاومة من القوى العسكرية في حكومة عبد الرحمن عارف مما قاد إلى تنحيته وإلى بدء نزاع عسكري جديد ومتواصل.
وحين جاء حزب البعث مجدداً إلى الحكم واصل القتال ولم يكن في نيته تحقيق أي هدف من أهداف الشعب الكردي, وحين أجبر عليه في 11 آذار 1970, كان في خلفية تفكيره وأهدافه القضاء التام على الحركة الكردية وعلى مطالب الشعب الكردي. كان يتبجح في الظاهر القبول بـ "الحكم الذاتي لبعض محافظات الشمال" وليس الاعتراف بإقليم كردستان العراق أولاً, ومن ثم الإصرار على تصفية الحركة في أقرب فرصة تتاح له, وحين توفرت له وجه ضربته القاسية والتي تجلت في مضامين اتفاقية الجزائر المذلة والمعادية لمصالح الشعب الكردي وعموم الشعب العراقي في آن واحد.
إن سياسات الحكم المركزي في العراق قد تفاقمت تدريجاً لتتحول إلى نهج شوفيني عنصري فاشي الفكر والممارسة. وتبلور ذلك قبل وخلال فترة الحرب العراقية الإيرانية وتصاعد تدريجاً حتى نهاتها حيث توجه النظام البعثي بعدوانية لا مثيل لها والتي تجلت في تنفيذ عمليات مجازر الأنفال وضربات حلبچة في كردستان العراق
وإذ كانت كردستان مسرحاً لعمليات عسكرية مستمرة طيلة فترة الحرب العراقية الإيرانية, فأن النظام لم يبخل بالإرهاب والقمع والقتل والتهجير للكرد الفيلية, وهم جزء أصيل ومتميز من الشعب الكردي, ومن عموم الشعب العراقي, وكذلك شمول ذلك لعرب الجنوب والوسط بذريعة التبعية الإيرانية وتصفية الجبهة الداخلية من الجيوب العميلة !!
أشير هنا ومن جديد أؤكد بأن عمليات مجازر الأنفال جاءت وفق ذهنية استبدادية عسكرية وأيديولوجية عنصرية وأساليب فاشية في القهر والتصفية وفي عمليات التعريب والتهجير القسريين والتغيير الديموغرافي لمناطق من كردستان.
العوامل التي تجعل من عمليات الأنفال ذات طبيعة عنصرية في الفكر وفاشية في الأساليب
- الأيديولوجية القومية اليمينية المتطرفة التي يستند إليها حزب البعث العفلقي منذ تأسيسه حتى اليوم.
_ رفض القوميات الأخرى واعتبار القومية العربية هي الأفضل والأرقى وهي خير أمة في العالم ورفض احترام أو حقوق القوميات الأخرى واعتبارها الأدنى مستوى.
- معاداة القوميات الأخرى الموجودة في الدول العربية والسعي لصهرها في القومية العربية أو التخلص منها بأي سبيل كان.
- فرض الاستبداد والعنف في الممارسة السياسية وفي الموقف من القوى الأخرى والتربية بذهنية عسكرية والاستعداد لسحق من يقف في طريق القوى العربية الشوفينية.
- فرض الفكر الواحد والنهج الواحد والسياسية الواحدة للحزب القومي, سواء أكان بعثياً أم قومياً يمينياً شوفينياً على شاكلة القوى الموجودة في الدول العربية.
- رفض الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية.
- رفض الحياة الدستورية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة.
- اعتبار كل الدول العربية جزءاً من الوطن العربي واعتبار الشعوب الأخرى خاضعة له وينبغي أن تسير تحت رايتها شاءت ذلك أم أبت, ورفض جميع الحقوق القومية للقوميات الأخرى.
- العمل من أجل التوسع نحو الأراضي التي كانت يوماً ما في الدول الإسلامية والأراضي التي فتحت بالقوة واعتبارها جزءاً من الأراضي العربية التي يفترض لها أن تعود للدولة الأم. وهي لا تتورع عن خوض الحروب الخارجية من أجل تحقيق ذلك.
- ممارسة قاعدة الغاية تبرر الواسطة التي مارسها المستعمرون والفاتحون في كل الأوقات للهيمنة على دول وشعوب أخرى وإخضاعها لهم.
- وتمارس الفاشية في الحكم أساليب القهر اليومي والسجون والتعذيب النفسي والجسدي بكل أشكاله القديمة والحديثة والقتل والمقابر الجماعية لكل من تعتقد بكونه ضدها ومن تعتبره ضمن من تطلق عليهم تسمية الشعوبيين. وهي بالتالي تمارس نشر الكراهية والحقد بين الشعوب.
التصميم المسبق والتهيئة الفعلية لممارسة عمليات الأنفال[2]
منذ أن وقع البعث بيان 11 آذار 1970 كانت في خلفية تفكيره تأمين السبل للتخلص من الحركة الكردية المسلحة وتصفية الحركة الديمقراطية الكردية وفرض الهيمنة الكاملة على كردستان. وتوفرت فرصة أولية لتحقيق ذلك حين اتفق مع شاه إيران في عقد اتفاقية الجزائر وكانت الضربة قاسية وشديدة. ولكن الشعب الكردي وقواه السياسية نهضت مجدداً وواصلت حمل السلاح. في هذه الفترة عمد النظام إلى مجموعة من الإجراءات حتى قبل بدء الحر مع إيران, وأهمها:
** تطوير القوات المسلحة العراقية وزيادة عددها وعدتها.
** تأمين ترسانة كبيرة جداً من السلاح الدفاعي والهجومي استيراداً وإنتاجاً, إضافة إلى السعي لإنتاج أسلحة الإبادة الجماعية, وخاصة بعد عملية التأميم وبدء تدفق الموارد المالية الكبيرة,
** نشر الفكر المناهض للكرد والكاره لهم باعتبارهم قوى انفصالية شعوبية وجيب عميل يحاول منع الوحدة العربية وتطور الحكم في العراق.
** بناء الثكنات العسكرية الكثيرة في مناطق جبال كردستان وممارسة إقامة المجمعات السكنية القسرية, إضافة إلى تهجير الكٍرد الفيلية وتهجير واسع النطاق للكُرد من كركوك إلى وسط وجنوب العراق أو إلى مناطق كردية أخرى.
** تصفية أي وجود علني للقوى السياسية الأخرى في البلاد وإنهاء آخر تحالف داخلي له مع الحزب الشيوعي بضرب قيادات وقواعد وتنظيمات الحزب الشيوعي على نطاق القطر كله, مما صفا له الجو لتنفيذ سياساته العدوانية ضد الشعب الكردي.
** كما عمل على تعبئة الرأي العام العربي ضد الكُرد بأساليب دعايته الجيماگوگية والمستمدة من الترسانة الفكرية السياسية للنازيين في ألمانيا ومن قول غوبلز "أفتروا ثم أفتروا ثم أفتروا, لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس".
** شن حرب فعلية ضد الشعب الكُردي في الوقت الذي كان خوض الحرب العدوانية والتوسعية ضد إيران.
** تدمير الكثير من القرى والأرياف والغابات والمزروعات في كردستان العراق لضمان كشف المنطقة أمام ضربات القوات الجوية العراقية, إضافة إلى تدمير البنية التحتية والاقتصاد الزراعي وقدرة الفلاح العراق على ممارسة الزراعة والمشاركة في الإنتاج, وتحميل المجتمع والإقليم والدولة خسائر مالية فادحة, إضافة إلى خراب البيئة وتلويثها على أوسع نطاق.
** تعزيز الوجود العسكري العراقي في كردستان العراق والتهيئة لتوجيه ضربات قاسية لقوات الپيشمرگة المسلحة ومناطق وجودهم فيها.
** تعزيز القيادة الحزبية والعسكرية للقوات الحكومية والجحوش وقوات الأمن. وقد تم تكليف المجرم علي حسن المجيد بمهمة قيادة العمليات العسكرية في كردستان العراق.
** ومع بدء عمليات الأنفال دعا الدكتاتور صدام حسين في آذار من العام 1988إلى التفاوض مع القوى المسلحة والأحزاب المناهضة له بهدف التغطية على عملياته العدوانية الإجرامية ضد الشعب الكردي والتي رفضت من قبل كل القوى السياسية الوطنية العربية والكردية الديمقراطية.
إن كل هذه الإجراءات كانت تؤكد وتدلل على النية الكاملة والتصميم والتخطيط والتنظيم لتنفيذ العملية في الوقت المناسب الذي تم اختياره وتحديده قبل نهاية الحرب العراقية الإيرانية بفترة وجيزة من جانب الدكتاتور المقبور صدام حسين.
ثالثاً : ثالثاً : التنفيذ الإجرامي لحملات ومذابح الأنفال
استخدم النظام العراقي في حملاته العسكرية الجديدة في العام 1988 كل تلك الأساليب والأدوات التي أشرنا إليها سابقاً, إضافة إلى ما يلي, سواء بالتتابع أم كلها دفعة واحدة وفي ظروف متباينة ومواقع مختلفة:,
1. استخدام الأسلحة الكيماوية: وهذا ما تحدث عنه قائد الحملات العدوانية بنفسه علي حسن المجيد بعد أن كان قد قطع شوطاً بعيداً في حملات الإبادة الجماعية. ورغم إنكاره في المحكمة استخدام السلاح الكيماوي, إلا أنه أبدى الاستعداد الكامل لتكرار ذلك إذا ما طلب منه ذلك في ظروف مماثلة.
عمد النظام إلى تدمير كامل لأكثر من 4200 قرية كردية بعدد متباين من النفوس في كل منها, وتدمير المزروعات والحيوانات فيها. ومن أجل إنجاز الحملة العسكرية على شعب كردستان استخدمت قوات النظام القصف الجوي قاذفة بالأسلحة المحرمة دولياً ومنها الناپالم والأسلحة الانشطارية, كما استخدم المدافع الثقيلة لهذا الغرض. ولم تقصف هذه القرى بعد تخليتها من السكان باستمرار, بل خرب الكثير منها على رؤوس ساكنيها في غالب الأحيان.
قام النظام بعمليات تمشيط واسعة لأغلب القرى والأرياف الكردية تم خلالها حجز سكانها وتجميعهم في مراكز معينة, ثم نقلهم بشاحنات إلى مناطق مجهولة بهدف تصفيتهم جسدياً.
تؤكد المعلومات المتوفرة أن النظام كان قد شكل بعض الفرق الخاصة التي أخذت على عاتقها تصفية هذه المجاميع الكبيرة من السكان من خلال قتل عشرات الآلاف منهم ودفنهم جماعياً أو دفنهم وهم أحياء في حفر واسعة والدوس على قبورهم الجماعية وتسوية الأرض بالجرافات التابعة للقوات المسلحة. ولم ينج من هذه المجازر في الغالب الأعم لا الأطفال ولا النساء ولا المرضى والعجزة ولا الشباب والشابات. وكان الفاعلون, وهم أدوات بيد الجلاد, ذات نزعات سادية بيد الجلاد, يسلبون ضحاياهم كل ما هو ثمين.
5. توجد حالات أخرى قام الجلادون بفرز الرجال والشباب عن النساء والأطفال, ثم وضعوا مجموعة الرجال في شاحنات عسكرية نقلوهم تدريجاً حيث الموت المحقق, في حين أخذوا النساء والأطفال إلى أماكن مختلفة. فمنهم من أرسل إلى نقرة السلمان ومنهم من أرسل إلى تكريت وبعضهم أرسل إلى السليمانية حيث تركوا في عربت. وكانت المعسكرات الكثيرة والكبيرة عاجزة عن استيعاب كل هؤلاء الذي طالتهم عمليات الأنفال[3].
6. نفذ النظام عمليات إعدام أخرى في المدن والقرى التي أشرنا إليها سابقاً بسبب ولوج مناطق محظورة أمنياً أو بسبب اتهام الناس بالتعاون مع قوى الپیشمرگة أو الشك بإخلاصهم. ولم يكن الموت نصيب هؤلاء وحدهم, بل نصيب أقرباء هؤلاء الضحايا من الدرجة الأولى, إضافة إلى تهديم بيوتهم ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
7. تشير الكثير من الدلائل إلى أن المجموعات الخاصة التابعة لقوى الأمن العراقية هي التي كانت تقوم بعمليات اغتصاب النساء والشباب في أقبية الأمن أو في المواقع التي يتجهون إليها.
8. وخلال الفترة الواقعة بين بدء العمليات العسكرية ضد إيران في عام 1980, عمد النظام في كردستان إلى استخدام كل السبل المتوفرة للقضاء على مقاومة الشعب الكردي. وكان من تلك السبل الخسيسة والغادرة إعطاء مكافأة مالية كبيرة لكل من يقوم بقتل واحد أو أكثر من الپیشمرگة/الأنصار ويأتي برأسه وسلاحه. وشكل النظام فرقاً لهذا الغرض كما عمد إلى تنشيط المجرمين للقيام بهذه العمليات لقاء بعض المال.
9. وعمد النظام إلى تدمير فعلي للبنية التحتية والاقتصاد الفلاحي في الريف الكردستاني ساعياً إلى اغتصاب الحياة فيها من السكان ومنعهم من العودة إليها بتاتاً[4]. أقدمت قوى النظام وبتوجيه من صدام حسين مباشرة على تدمير 1757 مدرسة 2457 مسجداً و271 مستوصفاً في القرى التي قامت بتدميرها[5].
وعلينا أن نتذكر باستمرار بأن حملات الأنفال المرعبة كانت قمة العدوان الفاشي والانحطاط الأخلاقي والإنساني للجلادين لما ارتكبوه من جرائم بشعة إزاء الناس من نساء ورجال وأطفال كردستان العراق. إنها عار في جبين النظام وقادته وجناته. ولكن ما هي حصيلة عمليات الأنفال المرعبة؟
رابعاًً : ماذا يمكن فعله لضحايا الأنفال في كردستان العراق؟
إن الدراسة الجادة والمعمقة والمسؤولة لسياسات الحكومات العراقية المتعاقبة على امتداد الفترة منذ العهد الملكي حتى سقوط النظام البعثي (1921-2003) إزاء إقليم كردستان وشعب كردستان تشير بما لا يقبل الشك لا إلى التهميش فحسب, بل وإلى القهر والاستعداء والعداء. كما أن عمليات الأنفال تؤكد هذه الحقيقة بأجلى معانيها. ومن هنا يفترض فينا أن نستخلص الدروس المناسبة لهذه التجربة الطويلة أولاً, وان نعمل من أجل تصحيح تلك العلاقة ثانياً, وأن نفكر في كيفية إنصاف ضحايا الأنفال وعائلاتهم ثالثاً. وهذا يتطلب منا:
1. يفترض العمل من أجل بناء القاعدة المادية لقيام مجتمع مدني ديمقراطي علماني وتربية فكرية وتنوير اجتماعية ضد الشوفينية والعنصرية ومعاداة الأديان الأخرى وضد الطائفية السياسية والتمييز الديني والطائفي, ومن أجل تكريس روح المواطنة المتساوية, وضد الاستبداد والعنف والقسوة والالتزام بحل المشكلات بالطرق السلمية وبآليات ديمقراطية.
2. يفترض نشوء علاقة دستورية واضحة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية في مجال الصلاحيات والحقوق والواجبات وان توضع تلك النصوص الدستورية في قوانين ملزمة لتلك العلاقة ومحكمة دستورية تفض النزاعات حين تحصل بين الحكومتين. والمضمون الأساسي لهذه العلاقة هي المصالح المشتركة بين الشعبين والحكومتين وبقية القوميات الموجودة في العراق.
3. وفي مجال ضحايا الأنفال يفترض فينا جميعاً العمل من أجل ما يلي:
1. الاتفاق على تأسيس مركز علمي موحد في كردستان العراق لجمع وتصنيف وترتيب وحفظ الوثائق الخاصة بما ارتكب بحق الشعب الكردي من جرائم خلال العهود المنصرمة, ولكن بشكل خاص خلال الفترة التي أعقبت مجيء البعث إلى الحكم في العراق.
2. تشكيل لجنة دولية لإعادة إعمار المناطق التي دمرت من قبل القوات العسكرية العراقية وخاصة تلك التي ضربت بالكيماوي, من خلال دعوة معماريين دوليين لإعادة بناء حلبچة الجديدة لتبقى القديمة تشير إلى الجرائم المرتكبة. ويمكن أن تقام عملية جمع تبرعات دولية لصالح بناء المدينة الجديدة مما يشير إلى التضامن الدولي مع هذه المدينة المغدورة.
3. تقديم طلب رسمي باسم اللجنة الدولية الدائمة والمسئولين في كردستان العراق إلى الأمم المتحدة من أجل اعتماد تنظيم ندوة دولية خلال العقد الجاري تبحث في أسباب وعواقب مجازر عمليات الأنفال التي مارسها النظام العراقي, باعتبارها أعمالاً عنصرية استهدفت التطهير والإبادة الجماعية للشعب الكردي في كردستان العراق, واستخلاص الدروس والسياسات والإجراءات الممكن اتخاذها لمعاقبة النظام ومن أجل منع تكررها في كردستان العراق أو في أي مكان من العالم, وهي بمثابة تحذير لكل الحكومات والقوى والسياسات العنصرية في المنطقة, وخاصة في تلك الدول التي تعيش فيها بقية أجزاء الأمة الكردية.
4. مواصلة محاكمة كافة المسؤولين الأساسيين عن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية في كردستان العراق.
5. فتح صفحة خاصة على الإنترنيت باسم حملة الأنفال الدولية وإصدار نشرة خاصة بها بلغات مختلفة.
6. قيام اللجنة الدولية بتنظيم ندوات أو مؤتمرات سنوية تعقد في كردستان العراق من أجل مواصلة فضح هذه السياسات والكشف عن السبل والأساليب والأدوات التي أستخدمها النظام في قتل هذا العدد الهائل من السكان الأكراد في كردستان العراق وعن بقية جرائم النظام بحق الشعب الكردي وبنات وأبناء القوميات الأخرى.
7. تأمين إقامة معارض فنية تشكيلية حول الواقع العراقي ومجازر الأنفال, ومنها حول جريمة حلبچة, ونضال الشعب الكردي وإصدار البوم خاص بتلك اللوحات ونشرها على نطاق واسع, على أن يدعى لها أوسع عدد ممكن من الفنانين العراقيين من مختلف القوميات, إذ في ذلك إدانة فعلية للعنصريين من العرب بسبب المجازر التي ارتكبوها بحق الشعب في كردستان, وفي مقدمتهم قادة الحكم القائم في العراق وعلى رأسهم صدام حسين وعلي حسن المجيد.
8. إيلاء اهتمام كبير بالناس المتبقين والفالتين من عمليات الأنفال لضمان استكتابهم أو إجراء المقابلات معهم للحصول على أوسع وأدق التفاصيل عن هذه العمليات العنصرية وتسجيلها صورة وصوتاً ونشرها بشكل منظم ومبرمج.
9. كما يفترض إيلاء اهتمام خاص من جانب الأحزاب الوطنية الحاكمة في كردستان العراق, وفي العراق بالناس الذين نجوا من المذابح, ورعاية أطفال وعائلات شهداء مذابح الأنفال.
10. بناء متحف في كردستان لضحايا الشعب الكردي وخاصة ضحايا مجازر الأنفال ليكون موقعاً ومعلماً يزوره الناس ليتعرفوا على طبيعة الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في كردستان العراق من جانب النظام والذهنية التي حكمت ذلك, كما يمكن أن يتحول إلى مزار لكافة سائحي كردستان أيضاً.
11. إقامة نصب تذكارية مركزية ونصب أخرى لضحايا الأنفال تقام في مواقع مناسبة من كردستان وبغداد.
12. عناية الحكم الفيدرالي وكذلك الحكم الاتحادي في بغداد بدعم الكتب التي تبحث في المجازر والمحن التي تعرض لها الشعب الكردي وبقية القوميات في كردستان العراق من أجل فهم العوامل الكامنة وراء ما حدث واستيعاب دروسها ومنع حصولها مستقبلاً.
13. إدخال حملات عمليات الأنفال مادة خاصة ضمن حقوق الإنسان في المناهج التعليمية والتدريسية لتعميق الوعي بمناهضة التجاوز على حقوق الإنسان بكل أشكاله.
14. الطلب من حكومة بغداد المركزية بتعويض ضحايا الأنفال وفق تقديرات علمية صحيحة. وهناك دراسة بهذا الصدد وضعها فريق عمل مستقل لصالح وزارة المؤنفلين في إقليم كردستان يفترض أخذها بنظر الاعتبار في هذا الصدد.
28/10/2009 كاظم حبيب
--------------------------------------------------------------------------------
[1] حلبچة هي تصغير لكلمة حلب باللغة التركية.
[2] الأنفال جمع النافلة, ولها معان عدة, ومنها الغنيمة, ومنها ما تفعله مما لا يفرض ولم يجب عليك فعله, وهي العطية أيضاً, أو ما طلب من الإنسان زيادة على الواجبات والفرائض, ومنها يأتي معنى صلى النوافل. وترد الأنفال في القرآن, وهي السورة الثامنة, مدينية, وتأتي بمعنى الغنيمة. وجاءت في أعقاب معركة بدر, حيث تساءل من لم يقاتل وبقي في المدينة عن حصته من الغنائم التي وزعت على المقاتلين في معركة بدر, فجاء في الآية الأولى من سورة الأنفال في القرآن ما يلي: يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله ورسوله فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. راجع: الجزء التاسع. سورة الأنفال. دار الجيل. بيروت. ص 177. وهو استخدام مشوه من جانب صدام حسين لهذه الكلمة. وفي الممارسة العملية وافق على توزيع الغنائم المنهوبة والمسلوبة من عوائل الشعب الكردي وضحاياه على من ينتزعها منهم, في ما عدا الأسلحة الثقيلة والساندة والمتوسطة, كما جاء في رسالة علي حسين المجيد المؤرخة في شهر حيران من عام 1987 التي وردت سابقاً والمستندة إلى قرارات صدام حسين ومجلس قيادة الثورة.
[3] بابان, طه. عالم الكُرد المرعب. الكتاب الأول (تحقيق وتأليف). مصدر سابق. ص 357-377.
[4] قادر, جبار د. الأنفال: تجسيد لسيادة الفكر الشمولي والعنف والقسوة. مجلة كركوك. العدد 11/2002. السليمانية. ص 222.
[5] طالباني, نوري د. منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي. مصدر سابق. ص 103.