صدام والفخ الأمريكي الحلقة / كتاب في حلقات/ الحلقة 16 / 17
أولاً: تصفية أسلحة الدمار الشامل العراقيةوضعت حرب الخليج الثانية أوزارها باستسلام كامل لنظام صدام لكل الشروط التي فرضها الرئيس الأمريكي جورج بوش، وتحققت أهداف الولايات المتحدة في تحرير الكويت، وعودة أسرة الصباح إلى الحكم من جديد، وتدمير البنية التحتية لكل مقومات الاقتصاد العراقي، وتهديم بنيته الاجتماعية.والتفت الولايات المتحدة إلى الهدف الأهم للإستراتيجية الأمريكية، والمتمثل بنزع ليس فقط أسلحة الدمار الشامل العراقية، بل امتدت إلى أسلحة الجيش التقليدية كذلك، وتم فرض نوع صارم من الأشراف على مصانع الأسلحة، وأسلحة الجيش بحجة منع النظام العراقي من تهديد منطقة الخليج مرة أخرى.فقد أصدر مجلس الأمن في الثالث من نيسان 1991 القرار رقم 687 ، والذي طلب من النظام العراقي التزام النظام العراقي دون قيد أو شرط ببروتوكول جنيف لحظر الاستعمال الحربي للغازات السامة والخانقة وما شابهها، ووسائل الحرب البكتريولوجية، وأن يصدّق على قرار حظر واستحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية والصاروخية، وتدمير تلك الأسلحة.
كما طلب القرار أن يقبل العراق، دون أي شرط، القيام تحت إشراف دولي بالسماح لمفتشين تابعين للأمم المتحدة بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل، ووسائل أنتاجها وتدميرها، والتي تتضمن ما يلي:
1ـ جميع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وجميع محزونات العوامل الكيماوية، وما يتصل بها من منظومات فرعية ومكونات، وجميع مرافق البحث والتطوير والدعم والتصنيع.
2ـ جميع القذائف الصاروخية التي يزيد مداها عن 150 كم، والقطع الرئيسية المتصلة بها، ومرافق إصلاحها وإنتاجها.
كما طلب القرار في بنده التاسع من العراق أن يقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة في غضون 15 يوماً من تاريخ القرار بيانا بمواقع وكميات وأنواع جميع المواد المحددة، ويوافق على إجراء تفتيش عاجل في المواقع، وتدمير جميع هذه الأسلحة ووسائل إنتاجها تحت الرقابة الدولية، وأن يتحمل العراق كافة تكاليف تدميرها، ومصاريف فرق التفتيش، وأن يتعهد العراق بعدم إنتاج مثل هذه الأسلحة، وتخزينها مستقبلاً. (1)
وتنفيذاً للقرار المذكور قدم النظام العراقي معلومات عن خمسة مواقع كانت قد دُمرت إثناء الحرب، وكانت مخصصة لإنتاج غازات [لخردل] و[النارين] و[التابون]، وأربعة مصانع لإنتاج المواد الوسطية، ومصنع لملئ قذائف المدفعية والصواريخ بالعتاد الكيماوي، والغازات السامة، مع محزونات من غاز السارين قدرت بحوالي250 طناً، وغاز التابون بمقدار 500 طن، وغاز الخردل بمقدار 280 طنا.(2)
كما قدم النظام العراقي معلوماته عن الصواريخ والقنابل الموجودة بحوزته والتي شملت ما يلي:
1 ـ 6620 رأس صواريخ حربية عيار 122ملليمتر معبأ بغاز السارين.
2 ـ 2500صاروخ من طراز [صقر] معبأة بغاز السارين.
3 ـ قنابل طائرات من طراز[د ب 2] معبأة بغاز السارين.
4 ـ 201 صاروخ من نوع الحسين والوليد وسكود.
5ـ 336 قنبلة طائرات معبأة بالغاز المزدوج مخزونة في قاعدة الوليد.
6ـ 140 قنبلة طائرات عيار 250 معبأة بغاز الخردل.
7ت 105 قنابل مدفعية عيار 155مللمترمعبأة بغاز الخردل. (3)
لم تقتنع الولايات المتحدة بما قدمه النظام العراقي من معلومات، وأسرعت إلى تقديم تحذير شديد للنظام العراقي، طالبة منه تقديم كامل المعلومات التي بحوزته عن تلك الأسلحة، وهددت بالقيام بقصف العراق مرة أخرى، إذا لم تتمكن بعثات التفتيش التي سترسلها من الوصول إلى أي مكان تريد تفتيشه بحثاً عن الأسلحة.
وفي حقيقة الحال فإن الترسانة التي كان يمتلكها نظام صدام من الأسلحة الخطيرة ذات الدمار الشامل كانت أكثر بكثير مما تصوره العالم، وحاول النظام إخفاء ما بحوزته بكل الوسائل والسبل.
بدأت فرق التفتيش الدولية تتوافد على العراق، فقد وصلت في 14 أيار 1991 أول بعثة تضم 60 خبيراً، وقد خولها مجلس الأمن بتدمير الأسلحة العراقية خلال 45 يوماً.
لكن البعثة المذكورة قدمت تقريرها الذي أشار إلى أن البحث عن الأسلحة العراقية يتطلب سنتين من البحث على أقل تقدير.(4) . و في 22 حزيران من نفس العام وصلت البعثة الثانية، وكانت تضم 16 خبيراً، ولحق بها فريق ثالث في 3 تموز1991، وانضم إلى الفريق السابق.
وقامت فرق التفتيش بتدمير الأسلحة والمصانع الحربية التالية:
1ـ 137 صاروخاً بعيد المدى.
2 ـ 19 قاذفة صواريخ متحركة.
3 ـ 60 قاذفة صواريخ ثابتة.
4 ـ 150 ماكنة صناعية.
5 ـ تدمير 15 مبنى ومنشأة تابعة لسلاح الصواريخ.
6 ـ 30 رأس صاروخ حربي لحمل الأسلحة الكيماوية .
7 ـ 3000 قنبلة كيماوية جوية.
8 ـ 3600 صاروخ كيماوي مضاد.
9 ـ 1000 عتاد مدفعية كيماوية .
10 ـ 500 ماكنة لصنع الأسلحة الكيماوية.
أما في المجال النووي فقد تم تدمير ما يلي:
1 ـ تدمير 450 ماكنة صناعية ذات استخدام مزدوج.
2 ـ 4000 طن منتجات صناعية.
3 ـ 1500 طن من الحديد المارتيزي.
4 ـ تدمير ما مساحته 50000 متر مربع من المباني.
5 ـ نقل 208 كاسيت من الوقود النووي المخصب إلى روسيا.
6 ـ تدمير جميع مواقع ومنشآت السلاح البيولوجي.
لقد حاول النظام العراقي بكل جهده إخفاء كل ما أمكن من أسراره النووية، وكان في ذهن بعثة التفتيش البحث عن كمية من اليورانيوم المخصب قدرت ما بين 20 إلى 30 كيلو غرام، كان العراق قد استطاع إنقاذها عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف المفاعل النووي العراقي عام 1981 أبان الحرب العراقية الإيرانية.(4)
واستطاعت الولايات المتحدة الحصول على معلومات خطيرة عن البرنامج النووي العراقي من أحد المهندسين العراقيين العاملين في هذا المجال، والذي لجأ إلى الولايات المتحدة، حيث أبلغ المسؤولين الأمريكيين بوجود وثائق هامة قد خبأها النظام العراقي في وزارة العمل.
سارعت الولايات المتحدة إلى إرسال بعثة جديدة إلى العراق رأسها الأمريكي [دافيد كاي]، وأحيطت البعثة علماُ بالمعلومات التي قدمها المهندس العراقي.
وصلت البعثة إلى بغداد، وانتقلت بصورة مباشرة إلى بناية وزارة العمل طالبة تفتيشها، حيث تم لها ذلك رغم اعتراض النظام العراقي، وقد تم العثور على أضابير تحتوي على معلومات واسعة حول البرامج النووي
العراقي، وأسماء العاملين فيه.
حاولت السلطات العراقية منع فرقة التفتيش من إخراج تلك الأضابير، لكن البعثة أصرت على أخذها، واضطر النظام العراقي للرضوخ في نهاية الأمر، وتمكنت بعثة التفتيش من أخذها.
واستمرت فرق التفتيش تتابع وصولها إلى العراق منذُ 14 أيار 1991، وهي مخولة بالتفتيش في أي مكان تريده، وفي جميع أنحاء العراق، وفي كل زيارة كانت فرق التفتيش تكتشف أموراً جديدة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، وخاصة الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، والصواريخ.
ثانيا:هروب حسين كامل ولقائه رئيس المفتشين إيكيوس:
استطاعت الولايات المتحدة عن طريق عميل سري كبير الوصول إلى حسين كامل، ودعوته للخروج عن النظام ليكون رجل أمريكا الذي سيتولى السلطة في العراق إذا ما تعاون في كشف برنامج أسلحة الدمار الشامل النووية والبيولوجية والكيماوية.
وكان مشعان الجبوري، الذي عمل في المخابرات العراقية، قد ادعى في تصريح له نشرته صحيفة الشرق الأوسط بأنه كان قد حمل رسالة من حسين كامل في غاية الخطورة إلى القيادة الأمريكية حول برنامج أسلحة الدمار الشامل، والتي أشار فيها حسين كامل إلى أن نظام صدام لا مصداقية له، ولا يحترم وعوده، وأنه يخفي منذ أربع سنوات امتلاكه لبرنامج إنتاج أسلحة بيولوجيه، وأن حجم إنتاجها قادر على القضاء على الملايين من البشر.(5)
لكن الرواية التي نقلها كل من العالمين النوويين[جعفر ضياء جعفر] و[نعمان النعيمي] القريبين جداً من حسين كامل هي الأقرب للحقيقة، فقد ذكر العالمان المذكوران في بحثهما المنشور في [موقع الحياة] والمكون من 7 حلقات تحت عنوان [الاعتراف الأخير] تفاصيل دقيقة عن هروب حسين كامل، والمعلومات التي نقلها إلى رئيس لجنة التفتيش [إيكيوس]، والتي تم نقلها مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أشارالبحث إلى أن حسين كامل كان قد أصيب في شباط (فبراير) 1994 بأعراض مرضية، حيث كانت تنتابه فجأة نوبة من فقدان الوعي لبضع دقائق يستفيق بعدها ناسياً كلياً ما حصل أثناء الحالة، وقد تولى فحص حالته الطبيب العراقي المتخصص بأمراض الجملة العصبية الدكتورسعد هاشم الوتري، وتقرر نقله إلى عمّان برفقة الدكتور الوتري، وتم استقدام طبيبً جرّاح فرنسي مشهور خصيصاً له، وقد أجرى له الطبيب الفرنسي المذكور عملية جراحية في مستشفى مدينة الحسين الطبية العسكرية، وأزال ورم في دماغه، وجرى فُحِص الورم فتبين أنه حميد غير سرطاني.
وعند عودة حسين كامل إلى بغداد وجد أن قصي بن صدام قد نُصِّبَ مشرفاً على الحرس الجمهوري الخاص، وكذلك على قوات الحرس الجمهوري، وأخذ يشعر بأن سطوته أخذت تتقلص يوماً بعد يوم، ولم يبقَ له من إمبراطوريته الواسعة سوى وزارة الصناعة والمعادن، وهيئة التصنيع العسكري. وفي شهر حزيران (يونيو) من عام 1995 غادر حسين كامل على رأس وفد من هيئة التصنيع العسكري لزيارة بيلاروسيا عن طريق عمّان فموسكو.
وفي اليوم التالي لمغادرته دعا صدام حسين قيادات فروع حزب البعث لمؤتمر قطري يتولى انتخاب قيادة قطرية جديدة للحزب، وفاتت على حسين كامل فرصة الصعود إلى عضوية القيادة القطرية ذات السلطة الواسعة إذ لا يُجيز النظام الداخلي للحزب ترشيح أي شخص للقيادة إن لم يكن حاضراً في جلسات المؤتمر القطري.
ويضيف الدكتور جعفر قائلا: شخصياً لم أكن على علم عما إذا كان إجراء صدام هذا متعمداً لإبعاد حسين كامل عن قيادة الحزب أم لشأن آخر، ولا مطلعاً على ما خفي من دسائسه الداخلية، غير أنني كنت أدرك أن صدام لم يكن ليرضي بوجود عضوٍ جريء ليعتلي أي منصب قيادي في الحزب أو الدولة، وكان يحيط نفسه بتابعين ضعاف النفوس لا يقوى أحدهم أن يقول لصدام كلمة واحدة قد تغيضه.
ويضيف البحث أن لقاءً انفراديا قد جرى في عمّان بين الملك حسين بن طلال ملك الأردن وحسين كامل استغرق ساعتين كاملتين، وأغلب ظني أن هذا اللقاء كان تمهيداً لهربه من العراق، وربما يكون قد حصل على الضوء الأخضر من ملك الأردن.(6)
ويرى العالمان جعفر والتميمي بأن عدي، الابن الأكبر لصدام، بدأ ومنذ مطلع عام 1995 ينظر بعين الحسد إلى حسين كامل، حيث رآه منافساً قوياً على موقع الابن المدلل لصدام، وعلى حسابه بالذات، ولا بدّ أن يكون قد اقتنع بأن وجود حسين كامل خطر على مقامه، وعلى مستقبله السياسي، فبدأ ينبش في أفعال وتصرفات زوج أخته للسنين الماضية.
لم يكن خافياً على أحد أن حسين كان يستغل الإمكانات المادية والبشرية لهيئة التصنيع العسكري لبناء قصوره الخاصة، وتنظيم مزارعه العديدة والصرف على حفلاته الخاصة، وعلى مجونه، فبدأ عبد حميد محمود (المعروف بعبد حمود) منذ بداية 1995 يتحرى عن مخالفات حسين كامل، وتصرفه السابق غير القانوني بالمال العام، وربما فعل عبد حمود ذلك بتحريض من عدي، ولكن لا بدّ أن يكون قد استحصل موافقة رئيسه صدام على إجراءاته تلك، إذ كيف يجرؤ على طرح أسئلة على حسين كامل من دون إسناد قوي من صدام؟ (7)
وعلى إثر تزايد الضغوط عليه لا بدّ أن يكون قد أطلق العنان لتصوراته بإمكانية قيادة المعارضة في الخارج مع الحصول على دعم أميركي لعلّه يستطيع يوماً أن يطيح برأس عمه صدام، ويعتلي سدة الحكم في العراق، ولاسيما وأنه كان قد اطلع على عدد من التقارير الصحافية التي تشير إلى أن الإدارة الأمير كية تبحث عن جنرال تكريتي يستطيع قيادة المعارضة والإطاحة بصدام، وتراءى له بأنه ذلك الجنرال الموعود، ناسياً أو متناسياً أنه كان شرطياً قبل أن يعينه صدام ضمن طاقم حراسته، وأن رتبة فريق أول التي يحملها على كتفيه لا تساوي أكثر من ثمن معدنها أو قطعة من القماش، وأنه ربما لا يفهم من الشؤون العسكرية غير تسلسل الرتب.
وفي ضحى يوم الاثنين 7/8/1995 غادر حسين كامل بغداد في طريقه إلى عمّان في موكب ضمّ زوجته [رغد بنت صدام] وأولاده، وضمّ أخاه [صدام كامل] ومعه زوجته [رنا بنت صدام] وعدداً من أركان حاشيته، ونقل معه جميع موجودات هيئة التصنيع العسكري من العملة الصعبة ومقدارها 9.5 مليون دولار أميركي نقدا، ولم يكن باستطاعة أحد تفتيش حمولاته من الخزائن عند حدود البلدين، كما أنه غادر بطريقة رسمية بحجة اصطحاب عائلته في فسحة صيفية في بلاد الجيك.
ظهر حسين كامل تحت أضواء الإعلام يدلي بتصريحات ضد نظام صدام حسين، وهو الذي كان يمثل الشخص الثاني في النظام بعد صدام، ولاسيما وأنه أبن عمه، وقد زوجه ابنته، كما وزج أخيه صدام كامل أبنته الثانية، وقد بدأ يطلق العنان لتصريحاته متهماً صدام بالدكتاتورية والتسلط والغباء السياسيي، وبدأت جموع رجال المخابرات العربية والأجنبية تنهال عليه في مقر إقامته الفخم في عمّان لاستطلاع ما يحمل من أنباء ومعلومات وهو يتباهى أمام الأضواء المسلطة عليه، وبالاهتمام الذي أولاه له رجال الإعلام والسياسة والمخابرات في عمّان، وخشيَ صدام أن يطلق صهره العنان لتصريحاته فيكشف ما كان قد أخفاه من معلومات تتصل ببرامج أسلحة الدمار الشامل التي لم تبقَ سوى بعض المعلومات التي جرى إخفائها، حيث أن جميع الأسلحة سبق وأن دُمرت خلال صيف 1991، ويخلق للعراق أزمة جديدة مع مجلس الأمن، ولاسيما وأن الأمور كانت قد أوشكت على الانتهاء فأصدر أمره بدعوة الرئيس التنفيذي للجنة الأونسكوم، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى العراق للتباحث مع الجانب العراقي، وأصدر أمره إلينا جميعاً بإبلاغ المفتشين عن كل ما كان حسين كامل قد أمرنا بإخفائه، وعدم البوح به، وظن بذلك أنه قد سحب البساط من تحت أقدام حسين كامل. (8)
بعد أسبوعين من هروب حسين كامل التقى صدام مع كبار العلماء المسؤولين في هيئة التصنيع العسكري، لكي يتحدث إليهم عن هروبه وتصرفاته حيث قال مخاطباً إياهم:{ لقد جمعتكم لأعتذر إليكم مرتين، مرة كوني قد عينتُ حسين كامل مشرفاً عليكم، ومرة ثانية كونه صهري ومحسوباً على عائلتي، ثم أضاف قائلا: إن ذلك الشخص كان مغروراً أو مصاباً بداء العظمة، وأن العملية التي أجريت لانتزاع ورم من دماغه قد أثرت سلباً على تصرفاته، واستشهد بما أخبره به وزير الصحة الدكتور [أوميد مدحت مبارك] حول تلك العملية وتبعاتها، وأضاف صدام قائلا بأن السلطة سوف لن تحاسب أي منا على أي عمل سبق أن نفذه بأمر من حسين كامل، إلاّ إذا كان ذلك العمل قد سبب ضرراً بليغاً للمصلحة الوطنية، أو عرّض أمن البلد إلى الخطر، ثم طلب أن يستمروا بأعمالهم بحسب سياقاتها إذ لا وجود لتغيير في البرامج أو في أساليب تنفيذها}. (9)
وفي 17/8/1995 وصل إلى بغداد كل من[رولف إيكيوس] المدير التنفيذي للجنة الأونسكوم، و[هانز بليكس] المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبقيا في بغداد مدة ثلاثة أيام حيث تم إبلاغهما بتفاصيل البرنامج المعجّل الذي كان حسين كامل قد أمر بتنفيذه في 17 آب من عام 1990، وقدم الجانب العراقي إليهما مجموعة ضخمة من الوثائق والتقارير التي كان حسين كامل قد أخفاها في موقع حساس، ثم نقلت بعد هروبه على عجل من ذلك الموقع إلى [مزرعة بيت حيدر]، ومن ثم سلمت إلى مفتشي الأمم المتحدة، فعُرفتْ منذ ذلك باسم [مجموعة وثائق قاعة الدجاج في مزرعة حيدر].
عاد رولف إيكيوس إلى عمان في 22 آب 1995، وتم عقد لقاء مع حسين كامل وبرفقته مجموعة من الخبراء العاملين ضمن مفتشي الأونسكوم، كما حضر اللقاء ممثلاً عن الديوان الملكي الأردني تولّى مهمة الترجمة، وقد سأل إيكيوس حسين كامل عن سبب امتناع الجانب النووي العراقي من التصريح بأن برنامج الطارد للتخصيب كان يجرى ضمن موقع الراشدية وليس ضمن موقع التويثة، وقد أجابه حسين كامل بأنهم فعلوا ذلك لتحويل أنظار المفتشين عن ذلك الموقع.
ثم سأله عن ما إذا كان العراق ما يزال يمتلك من الأنشطة النووية، وقد نفى حسين كامل وجود أي نشاط، لكن الوثائق والخرائط لا تزال موجودة ضمن مجموعة من المايكرو فلم. وعندما سأله إيكيوس عما إذا كان نشاط التسلح النووي الذي سبق إجراؤه في موقع الأثير لا يزال قائماً؟ أجاب نعم، ولكن قبل حرب الخليج. وعند سؤاله عما إذا كان الهدف من القنبلة النووية العراقية الأولى هو تجربتها فقط أم استخدامها في الحرب أجاب أن العلماء كانوا في مراحل البحث والتطوير، ولم يكونوا قد وصلوا إلى مرحلة تصنيع القنبلة وبالتالي كانوا بعيدين جداً عن تجربتها.(10)
وبعد أن أكملتْ الجهات المخابراتية الأجنبية مهمتها، وحصلت من حسين كامل على جميع ما بجعبته من معلومات، ألقته الولايات المتحدة في قارعة الطريق، وسقط كما تسقط أوراق الأشجار في فصل الخريف، وتلاشت أحلامه في تزعم حركة العارضة العراقية التي قادتها الولايات المتحدة لتتولى السلطة بعد إسقاط نظام صدام حسين بزعامته، وقرر العودة إلى العراق، وبدأ يوسط المقربين من صدام حيث حصل على وعد بالعفو من صدام شخصياً.
وفي شباط من عام 1996عاد حسين كامل وأخوه صدام كامل وعائلتاهما إلى العراق فاستقبلهما عدي عند الحدود، وأخذ أختيه وأولادهما معه إلى بغداد، وترك حسين وأخاه يعودان إلى بغداد بمفرديهما، وفي اليوم التالي لوصول رغد ورنا إلى بغداد بصحبة عدي صدرت وثيقتا طلاقيهما من زوجيهما.
وانتقل حسين كامل وأخيه إلى ببيت أختهما الكائن في منطقة السيدية، حيث كان كافة أفراد العائلة قد تجمعوا هناك، وفي اليوم التالي أحاطت مجموعة مسلحة بقيادة علي حسن المجيد وعدي صدام بالمنزل، وحصلت مواجهة مسلحة بين المهاجمين وأفراد العائلة الذين قُتِلوا جميعاً، كما قُتل بعض المهاجمين، وجرى قطع رأس حسين كامل من قبل عمه علي حسن المجيد، حيث قدمه إلى صدام كدليل على ما أسماه غسل عار العائلة كما قال لسيده وإبن عمه صدام.
وفي نهاية عام 1998 وصل إلى العراق فريقي تفتيش من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى العراق، وكان الفريق رقم 28 برئاسة [كاري ديلون] الذي وصل في 9 أيلول 1995، واستمر في عمله حتى 20 منه، والفريق 29رقم برئاسة [بول ستوكس] الذي وصل في 17 تشرين الأول 1995، واستمر في عمله حتى 24 منه.
وقد قدم الفريقين تقريرهما لمجلس الأمن أشارا فيه إلى أن الجانب الفني العراقي كان متعاوناً إلى أبعد الحدود، حيث قاموا بإعلام المفتشين عن الكثير من الأمورالسرية التي كانوا في الأمس القريب يتخوفون من مجرد الاستماع إلى أية استفسارات عنها، حيث كانوا في السابق يحاولون التهرب من الإجابة على أسئلة المفتشين بشتى الوسائل على الرغم من ضعف حجتهم، وكان من بين ما صرحوا به للفريقين البرنامج النووي الوطني المعجّل للفترة من 17 آب 1990- 17 كانون الثاني 1991.
وختمت الوكالة تقريرها بالقول إن تجربة العراق قد ولدت القناعة بأن أية دولة لا تلتزم ببنود معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يمكنها تطوير امكاناتها لإنتاج أسلحة نووية ضمن وقت قصير نسبياً، وذلك من خلال تصرفها بالمواد النووية الخاضعة للرقابة.
وفي الختام يعترف العالمان جعفر ضياء جعفر وعلي التميمي بأن ما كتبه المفتشون من رأي حول سلوك الجانب العراقي قبل هروب حسين كامل وما تبِعه هو عين الصواب، ويؤيد ما ذكراه وما يذكرانه الآن، وأن حسين كامل كان سيفاً مسلطاَ على رقابهم، وكان يأمرهم بإخفاء المعلومات، ويجبرهم على إتباع مسلك الخديعة والامتناع عن التعاون مع المفتشين الدوليين، وكانوا يدركون أن البرنامج النووي الوطني قد انتهى وأصبح تماماً في خبر كان، ولا داع لإخفاء التفاصيل منذ البداية كي نُجنب أنفسنا عناء الكذب والتمويه، ونُجنِّب الشعب العراقي ما ترتب على كاهله من مآسي لا حدود لها بسبب إطالة أمد الحصار. . حاول النظام العراقي في النهاية إقناع المفتشين أن عملية نزع أسلحته قد اكتملت، ولم يعد يمتلك أية أسلحة للدمار الشامل، وليس لديه أية نوايا لإعادة
أنشطته السابقة في مجال أسلحة الدمار الشامل.
ولكن الأمور سارت على عكس ما كان نظام صدام يتمنى، فقد تدهورت العلاقة العراقية الأميركية عام 1998 بعد أن صدر تقرير عن اللجنة السياسية المشكلة في الولايات المتحدة في 3 حزيران من عام 1997 من شخصيات سبق أن عمِلت ضمن إدارة جورج بوش الأب لصياغة سياسة خارجية أمريكية للقرن الأمريكي الجديد، وقد توصلت هذه المجموعة إلى قناعات سطرتها ضمن مذكرة بعثت بها إلى الرئيس [بيل كلنتون] في 26 كانون الثاني 1998 تحثه فيها على إزاحة صدام حسين معتبرة هذا الهدف بمثابة حجر الزاوية للسياسة الخارجية الأميركية.
وجاء في توصية اللجنة بأن الولايات المتحدة الأميركية تمتلك السلطة ضمن قرارات مجلس الأمن بشأن العراق لاتخاذ إجراءات حاسمة، بما فيها عمليات عسكرية لحماية مصالحنا الحيوية في منطقة الخليج، وطالبت هذه المجموعة زيادة التخصيصات المالية للدفاع، وألحت على استخدام القوة الأميركية الهائلة للتدخل في الأحداث أينما تجد ذلك ضرورياً.
ورغم كل تلك الظروف الصعبة للغاية التي كان يمر بها العراق وشعبه استمر صدام حسين في نزاعه مع الولايات المتحدة، ومراوغة لجان التفتيش، وقررفي5 آب 1998 وقف تعاونه مع اللجنة الخاصة المسؤولة عن تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، مما أعطى المبرر للولايات المتحدة وبريطانيا لشن حملة قصف جوي أُطلق عليها اسم [عملية ثعلب الصحراء] بعد إجلاء موظفي الأمم المتحدة، واستهدفت تدمير برامج الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية العراقية، وتعدتها إلى قصف معظم المرافق الاقتصادية المنهكة أصلا.
ففي 13 كانون الثاني 1998 أبلغ [ريتشارد بتلر] مجلس الأمن أن العراق قد أعلن عن عدم تعاونه مع فريق التفتيش لكون غالبية المفتشين من مواطني الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وأضاف بتلر أن نائب رئيس الوزراء العراقي لم يسمح لمفتشي الأونسكوم دخول أي من المواقع الرئاسية الثمانية في العراق.
وفي ضوء ذلك بعث الأمين العام للأمم المتحدة فريقاً فنياً إلى العراق لإجراء مسح لمساحات وحدود المواقع الرئاسية المذكورة، ولاحقاً لهذه المهمة تولى الأمين العام زيارة بغداد للفترة 22-23 شباط من العام ذاته، وتوصل أثناءها إلى الإعلان عن التوصل إلى مذكرة للتفاهم مع الحكومة العراقية بشأن تفتيش المواقع الرئاسية في العراق، ووفق بنود هذه المذكرة ستسمح السلطات العراقية لمفتشي الأونسكوم والوكالة الدولية من الدخول الفوري وغير المشروط لتفتيش هذه المواقع بموجب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بأسلحة الدمار الشامل العراقية، وفي المقابل تتعهد جميع دول الأمم المتحدة باحترام سيادة العراق واحترام وحدته الوطنية، كما تلتزم لجنة الأونسكوم باحترام مشاعر العراقيين في الأمن والسيادة والكرامة. ونصّت مذكرة التفاهم على ضرورة الاتفاق على أساليب إجراء التفتيش في المواقع الرئاسية حالياً ومستقبلاً. وفي 3 آب من عام 1998 اجتمع بتلر مع طارق عزيز في بغداد حيث طلب طارق منه أن يبلغ مجلس الأمن بأن العراق قد نفذ جميع التزاماته تجاه القرار 687 لسنة 1991، وبذلك يتوجب على المجلس تنفيذ التزاماته تجاه العراق بموجب هذا القرار، غير أن بتلر رفض إبلاغ المجلس بذلك.
على أثر قرار النظام العراقي إيقاف تعاونه مع الأونسكوم أصدر مجلس الأمن القرار 1194 في 9 أيلول 1998، والذي طالب فيه العراق بإلغاء قراره المتخذ في 5 آب، ودعا قرار مجلس الأمن الجديد إلى عودة التعاون الكامل بين العراق ولجنة الأونسكوم والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي 14 تشرين الثاني تم إبلاغ حكومة العراق أن مجلس الأمن سيجري مطلع عام 1999 استعراضاً شاملاً لجميع أنشطة نزع الأسلحة الجارية منذ 1991 بمشاركة فاعلة من الجانب العراقي، وعليه قررت الحكومة العراقية في 17 تشرين الثاني السماح للجنة الأونسكوم والوكالة الدولية إعادة نشاطها في العراق.
وفي 15 كانون الأول أحال الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن تقريري الأونسكوم والوكالة الدولية عن نشاطهما في العراق منذ استعادة عملهما في 17 تشرين الثاني، وذكر الأمين العام في رسالته إلى المجلس أن تقرير الوكالة أُحيل إليه من المدير العام للوكالة الدكتور محمد البرادعي في 14 كانون الأول، بينما تقرير الأونسكوم أُحيل إليه في 15 كانون الأول من المدير التنفيذي للجنة الأونسكوم ريتشارد بتلر، وقد علّق الأمين العام على التقريرين قائلا :{إن التقريرين احتويا معلومات متناقضة، فبينما تقول الوكالة الدولية إنها حصلت على قدر مقبول من تعاون الجانب العراقي، يشير تقرير الأونسكوم إلى عدم حصوله على تعاون كامل منه}.
وبسبب هذه الحالة السلبية للتقرير عرض الأمين العام على مجلس الأمن خيارين:
الخيار الأول: يعترف يبيّن بأن ما تم انجازه منذ17 تشرين الثاني لا يوفر أرضية جيدة لإجراء الاستعراض الشامل مطلع العام 1998.
الخيار الثاني: يبيّن أن العراق لم يظهر قدراً كافياً من التعاون لحد الآن ولكن يجب إعطاؤه المزيد من الوقت لإظهار نياته الحسنة بالتعاون الشامل.
لكن المعلومات التي تسربت عن إن [ بتلر] كان قد أبلغ سلطات الولايات المتحدة بمضمون توضيحي في يوم الجمعة 11 كانون الأول من عام 1998، أي قبل إرسال تقريره إلى الأمين العام بأربعة أيام، وأنه استقبل مكالمة هاتفية صبيحة 16/12/1998 من [بيتر بيرلي] سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة يطلب منه التعجيل بسحب مفتشيه من العراق، ولم يظهر بتلر أي قدر من الاستغراب من طلب السفير الأميركي، ونفذ التعليمات الصادرة إليه بكل إخلاص وتفانٍ في خدمة ولي أمره.
ومهما تباينت الرؤى عن تفسير سلوك بتلر فإنه قد بات واضحاً أن تصرفه ذلك أعطى الضوء الأخضر لعمليات ثعلب الصحراء التي تسببت في زوال لجنة الأونسكوم ذاتها، وانتهت بإقالة بتلر من منصبه كرئيس تنفيذي لها.