Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

صفحات مطوية من تاريخ إمارة سوران الكردية (1832 – 1836)!

 

من القضايا المهمة والشائكة التي طافت على السطح بعد سقوط نظام صدام في شهر نيسان 2003، هي مسألة (إعادة كتابة تاريخ العراق)، وخصوصاً الحديث والمعاصر منه. علماً أن الرؤيا الى هذا التاريخ تتناقض بشكل شاسع من فئة الى أخرى، كل بحسب الزاوية التي يقف فيها ويحدق منها! ولا تخلو هذه المسألة من العقبات والمنغصات الكثيرة، حتى انها تزيد من وتيرة العنف او تنقصه، حينما يتعلق الأمر بتاريخ الاثنيات العراقية او ماضي شخصياتها ورجالاتها. فعلى سبيل المثال، يعتبر صدام حسين عند البعض شخصية بارزة لها وزنها وثقلها في الاوساط العروبية. فهو "حامي بوابة الوطن الشرقية" وهو من أصدر قرار تعميم شركة النفط العراقية، ويكاد يكون صدام الوحيد من القادة العرب من تجرأ على ضرب اسرائبل بالصواريخ في عقر دارها ابان حرب الخليج الأولى... بينما هو في نظر البعض الاخر، طاغية، قام بقتل خمسة الاف كردي في حلبجة، واباد الاف العراقيين الشيعة، وشرد مئات الالاف من مختلف الشرائح العراقية في شتى اصقاع العالم... وتتشابه شخصية صدام وتفاصيلها بشكل كبير مع شخصية أحد الزعماء الاكراد وهو محمد باشا من مدينة رواندوز العراقية. ويمكن القول، - كما سنرى - ان صدام حسين قد ورث واحتضن بكل جدارة أساليب العنف والفتك والجريمة وحتى التطهير العرقي الذي تركه محمد الرواندوزي لقادة المستقبل. ويعد صدام حسين نتيجة وخلاصة طبيعية لبعض الشخصيات العراقية التي سبقته بالتفنن بشتى صنوف العنف والغطرسة والفتك باقرب المقربين!

 

والقصد من هذه المقارنة الموجزة ما بين هاتين الشخصيتين (الرواندوزي وصدام حسين)، هو التوقف عند شخصية محمد الرواندوزي، وتقديمها للقراء – ليس بهدف جرح مشاعر الاكراد، مثلما القيام بفضح جرائم صدام لا يهدف ولا يعني بالضرورة جرح مشاعر العرب والعراقيين – لكي يتم نبذ العنف بكل اشكاله بغض النظر عن الجهة التي تصدره. وتبقى الكتابة حول شخصية محمد الرواندوزي وغيره اكثر من ضرورية، عندما نعلم ثمة من يكتب اليوم عشرات المقالات في الصحف والنشرات الكردية وغيرها وتبث البرامج التلفزيونية حول هذا "الرجل" لا لكونه مجرما وطاغية بل يقدم ويفرض على العراقيين "كرمز وبطل" ويتم تصنيفه ضمن رجالات الامة الكردية،. فمن هو محمد الرواندوزي، وما هو تاريخ (إمارة سوران) التي حكمها بقبطة من حديد أعوام (1813 – 1836)، أسئلة نجيب عليها خدمة للحق والحقيقة.

 

على تخوم الجهة الشمالية الشرقية للعراق، قامت إمارة كردية، عرفت بإسم (إمارة سوران)، وكانت مدينة رواندوز عاصمتها. وهذه المنطقة تعد الحدود الفاصلة ما بين كردستان التاريخية (بلاد فارس) وبلاد ما بين النهرين، وعند هذا الشريط الحدودي تتشابك المناطق العراقية مع الكردية، ومن هذه البوابة بالذات نزح الاكراد على مر القرون باتجاه الشمال والغرب1. ويعتقد بوجود إمارة سوران منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي. ولئن كانت المعلومات عن هذه الإمارة شحيحة جداً، لكن يكاد يتفق المؤرخون على أن عصرها الذهبي قد ارتبط باسم (محمد الرواندوزي) المشهور بـ (مير كور) أي الأمير الاعور. وبعد أن منحه الاتراك لقب "باشا" لقاء خدماته لهم قبل تمرده عليهم بات يعرف بـ (محمد باشا). ولد2  في رواندوز عام 1783، وتولى شؤون الامارة سنة 1813 وهو في عز الشباب. ويخبرنا الباحث القدير هرمز ابونا في كتابه (الاشوريون بعد سقوط نينوى – المجلد الخامس، ص308 – 309) معلومات قيمة ومرعبة عن شخصية محمد باشا حيث يقول: (هيمن على الحياة العامة في بلاد آشور "اي شمال العراق" لمدة تزيد على العشرة سنوات. كتب عنه المبشر لوري توماس المعاصر: عرف عنه تعصبه الديني، واعتاد قلع عيون معارضيه، وإن أياديه ملطخة بدماء المسيحيين... أما عن صعوده قمة السلطة والسيطرة، فقد كان دمويا مرعباً. فمنذ استلامه الحكم، قتل أقرب المقربين اليه، جهز حملة على أثنين من أعمامه فقتلهما. جهز حملات الابادة ضد معارضيه من جيرانه الاكراد. ومن بين من فتك بهم، زعيم قبيلة الخوشناو المجاورة لرواندوز).

 

تميز محمد الراوندوزي عن أقرانه من أمراء سوران بأنه كان يطمح ويعمل على توسيع حدود إمارته التقليدية صوب منطقة الجزيرة، أي حيث مناطق السريان (الكلدوآشوريون) واليزيد والعشائر العربية والتركمانية. ويبدو ان طموحاته كانت تميل الى تأسيس دولة كردية في منطقة رواندوز تضم الاقاليم المجاورة. لهذا بدأ بتحصين مدينته وبنى فيها القلاع الحربية ونظم جيشه الذي بلغ حسب مختلف المصادر اكثر من (30) الفا، كما أنه صك النقود باسمه، وأتصل سرا بخصوم العثمانيين. وضمن هذا السياق يقول الكاتب الكردي علاء سجادي3: (وكون جيشاً منظماً بلغ تعداد أفراده من المشاة والفرسان قرابة (50) الفا، بدأ – والرغبة تحدوه بتوسيع إمارته وبناء حكومة قوية – بشن هجوم على مناطق الموصل وبهدينان، وبعد معركة قصيرة استطاع إخضاع ولايات أكري4، وأميدي، وماردين، وجزيرة (ابن عمر). وأوصل حدود إمارته حتى الحدود السورية، ومن جانب اخر ارتبطت إمارته بحدود مشتركة مع ايران، بينما ضيق الخناق على بغداد من الوسط).

 

تمرده على العثمانيين!

 

أعلن محمد الرواندوزي سنة 1826 تمرده على الباب العالي في اوضاع، اقل ما يقال عنها، أنها كانت جدا ملائمة له، اثر تسرب الوهن والضعف الى جسد الامبراطورية العثمانية التي كانت علاقاتها المتوترة مع جيرانها (الروس واليونان والمصريين) تنذر بحروب قادمة لا محالة، مما أجبر العثمانيون على التمهل بشن حرب تأديبية ضد امير سوران بهدف اعادته الى حظيرة الباب العالي. وبالفعل دخل العثمانيون في حرب ضد الروس المسيحيين (1828 – 1829)، وبعدها أنشغلوا بالتصدي للقوات المصرية المهاجمة بقيادة والي مصر محمد باشا (1832 م). ففي الوقت الذي يخبرنا فيه المؤرخون ومنهم المستشرق الروسي باسيلي نيكيتين5  بأنه لم يشارك محمد الرواندوزي في الحرب مع العثمانيين ضد الروس، بينما نراه يقدم كل الدعم والمساندة للمصريين.

 

وما يهمنا ذكره هنا، أن محمد باشا الرواندوزي نجح بالفعل باستغلال واستثمار عمليات الدعاية والتحريض التي شنها العثمانيون لتعبئة الجماهير المسلمة مقابل الروس المسيحيين. وفي خضم هذا الهيجان وانتشار شعارات الجهاد والحرب المقدسة في كل مكان من حدود الامبراطورية العثمانية ضد "الكفرة" استطاع محمد باشا الذكي توجيه مناصريه ومشاعر الجماهير البسيطة من معاداة الروس باتجاه معاداة السريان المسيحيين وكذلك ضد اليزيديين اللذين ألصق بهم تهمة عبادة الشيطان لتبرير عمليات القتل والتطهير العرقي التي سوف يشنها ضدهم لاحقاً. وهكذا أصبح محمد الرواندوزي زعيماً يحسب حسابه، وطار سيطه في مختلف الأصقاع بعد أن تجرأ على الوقوف بوجه السلطان العثماني. وسارت الأحداث باتجاه الرواندوزي وتحولت إمارته الى مركز استقطاب لاكراد فارس6 كمحطة أولى ومؤقتة على طريق بسط سيطرتهم في عمق مناطق العراقيين من السريان واليزيد والعرب وحتى التركمان. وباشر أمير سوران مذابحه وحملاته التكريدية سنة (1831 – 1832)، في وقت كان يستحيل على العثمانيين ان يتدخلوا (بسبب انشغالهم بالحروب) لوقف اعمال الرواندوزي الدموية والمرعبة، فكانت بلدة القوش العريقة في شمال العراق بالقرب من مدينة الموصل اولى ضحاياه، وأخضع منطقة حدياب وأربيل ذات الكثافة التركمانية والسريانية (الكلدوآشورية). وبقي أمامه القضاء على القوة اليزيدية في أطراف الموصل وخصوصاً في جبل سنجار معقلهم التاريخي.

 

مذابح اليزيد

 

كان من المتوقع والطبيعي عندما أعلن محمد باشا استقلال إمارته عام 1826، ومن ثم توسيع رقعتها باتجاه المناطق غير الكردية، أن يصطدم ويجابه اليزيديين المتحصنين في جبل سنجار وحلفائهم العرب والسريان (الكلدوآشوريين)، وكذلك مواجهة القبائل السريانية القوية في جبال هكاري وطورعبدين، تلك القبائل التي عجزت الدولة العثمانية على إخضاعها حتى وهي في أوج سطوتها وجبروتها. وبدأ بالفعل محمد الرواندوزي أعوام 1831 - 1836 حملات القتل والفتك بالسكان المحليين واحرق قراهم والحق الدمار والخراب بمنطقة الشيخان وسهل نينوى. ويذكر لايارد7 أنه قتل من اليزيديين ما يناهز ثلاثة ارباع سكان الجبل. وبهدف التخلص من أمير اليزيدية ذو النفوذ الواسع (علي بك)، لجأ الروندوزي الى أسلوب الخيانة والمواربة. وأي يكن من أمر، فإن الامير اليزيدي علي بك وقع في شرك محمد باشا عندما أقتنع أخيراً في تلبية الدعوة التي تلقاها من غريمه (محمد باشا) لزيارة عاصمته رواندوز للتشاور. وبعد فشل المفاوضات بينهما، وفي طريق عودته فتك رجال محمد باشا بالامير اليزيدي.

 

مذابح السريان (الكلدوآشوريون)

 

بدأ محمد الرواندوزي (مير كور) حملته الدموية ضد السريان (الكلدان) في مناطق القوش وتللسقف وتلكيف والقرى المجاورة للموصل بتاريخ 15 آذار 1832، والحق الاذى والوجع والقتل برهبان دير مار هرمزد القريب من القوش. وعاد مير كور مرة اخرى لارتكاب اعمال القتل والنهب عام 1833، فاستولى هذه المرة على قصبات عقرا والعمادية، ولضمان ديمومة حكمه عين اخاه رسول حاكما عليها8.  بينما نرى أن باشا الموصل قد أرتعد من دموية الرواندوزي وتحصن داخل المدينة ولم يتدخل او يعمل على انقاذ ارواح المسييحيين او اليزيد!! ويذكر الكاتب نبيل دمان وهو من أبناء القوش في كتابه: (الرئاسة في بلدة القوش، ص 19): "بلغ عدد القتلى من الرجال فقط 370 رجلا عدا الأطفال والفتيات، وقتل سبعة كهنة من القوش، وثلاثة راهبات، ورئيس الدير،). ويدون العراقي (روفائيل بابو) في كتابه "تاريخ نصارى العراق – طبعة بغداد 1948، ص 135": (وفي مطاوي ست سنوات او اكثر (1826- 1832 م) كان محمد باشا امير رواندوز المعروف بمير كور يعيث فساداً في الأقطار الشمالية العراقية وقد قتل عددا عديدا من المسيحيين. ثم اقبل الى القوش وحاصرها واباد من سكانها خلقاً كثيراً).

 

وتشير أغلبية الدلائل والوثائق على أن محمد الرواندوزي قد تحول فعلاً الى كائن متوحش هائج يبحث دائماً عن طريدة لسفك دمها، فبعد كل حملات القتل الفظيعة والوحشية التي أوقعها بالسريان واليزيديين في شمال العراق الحالي، وجه أتباعه صوب السريان في اعالي الجزيرة الخاضعة اليوم لتركيا، فعزم محمد الرواندوزي هذه المرة على تخريب قرى طورعبدين السريانية وكسر شوكة بلدة ازخ (بازبدا) الصامدة، وفي هذه الفترات العصيبة قتل الاكراد مطران ازخ مار عبد النور9.  لقد تكبد السريان الابرياء خسائر بالارواح والممتلكات لا تعد ولا تحصى، ونجح بالفعل زعيم رواندوز ان يترك أبشع الصور الفظيعة والمؤلمة في الذاكرة الشعبية السريانية حيث كتب الشعراء عن هذه الاحداث الكثير من القصائد الشعرية والاغاني الحزينة، ليعبروا فيها عن مدى الحزن الكائن في نفوسهم المتعبة من الجراح والاهات. فمثلا هناك قصيدة رائعة للاسقف كوركيس الازخي10  يصف فيها قساوة حملة محمد الرواندوزي على قرى ازخ واسفس عام 1834، وكيف سبى نسائها11، ويخبرنا مؤلفو كتاب (أزخ أحداث ورجال) نقلاً عن كبار السن12، عن احد أبطال بلدة أزخ (ابراهيم عمنو) عندما خطف رجال مير كور اختيه، وكيف قام بالتنكر والتسلل الى رواندوز وانقاذهما من السبي. حكاية حقيقية ومؤلمة تعبر عن معاناة المرأة السريانية.

 

القضاء على امارة سوران

 

تفاقم وضع السريان المزري في زمن امارة سوران، عبر انتشار القهر والمذابح في كل مكان، كما حصل لهم ابان الغزو المغولي والتتري للمنطقة؟. والمذابح التي ارتكبها الرواندوزي واعماله الوحشية قلصت وضيقت بالفعل مساحة العيش المشترك ما بين مختلف الشرائح، بعد ان عزم مير كور على محو كل من يختلف معه بالدين او اللغة. وحيال تأزم الوضع الذي فرضه الرواندوزي في اعالي ما بين النهرين وعلو شأنه عند الاكراد بعد أن بسط نفوذه على مناطق شاسعة من شمال العراق الحالي –عدا السليمانية ومدينة الموصل - ووقوفه الى جانب أعداء الباب العالي أثناء حملة والي مصر على السلطنة العثمانية، وكذلك تعاونه مع الايرانيين، ازاء كل هذه المستجدات اضافة الى الضغوط التي تعرض لها السلطان العثماني محمود الثاني (1808 – 1839)، من قبل البعثات الدبلوماسية الاوروبية المتواجدة في المنطقة لدفع هذا الاخير على ضرورة إيقاف حملات التطهير العرقي التي يتعرض لها المسيحيون، فلم يبقى للعثمانيون من خيار إلا إرسال حملة عسكرية سنة 1836 بقيادة رشيد باشا القادم من القسطنطينية13  لوضع حد لتمرد اكراد سوران والقضاء على مير محمد وظلمه. وبعد أن ضيق العثمانيون الخناق حول رقبة رواندوز ورقبة أميرها، اقتنع اخيرا محمد الرواندوزي بعدم جدوى مقاومة الاتراك، فسلم ن Opinions