Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

صورة عراق ما بعد حزيران 2009

عدنان الصالحي/
لم يمض على تغيير النظام السياسي في العراق ربيع 2003 على يد القوات الأمريكية فترة طويلة حتى كانت مسألة ما سيلي انسحاب تلك القوات من البلاد وأثارها تشغل افكار الكثير من السياسين والمتابعين للوضع العراقي كما شغلت تفكير الإنسان العراقي البسيط.

وبعد الست سنوات على دخولها البلاد جاءت اتفاقية تنظيم الانسحاب بولادة سياسية عسيرة لكنها أقرت في نهاية المطاف، وقبيل تنفيذ الاتفاقية الإستراتيجية التي حدد نهاية حزيران 2009 موعدا لتنفيذها.

وعلى هذا المنوال يطرح العديد من المحللين والمتتبعين للوضع العراقي عدة سيناريوهات للحالة العراقية لما بعد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، حيث تختلف هذه الآراء والتكهنات في طرق ونتائج تعاملها مع الملفين السياسي والأمني، ففي الوقت الذي يرى البعض بان تصاعد مؤشر العنف نتيجة الأحداث الأخيرة، يشير الى نية العناصر المسلحة والإرهابية الى إحراج الحكومة العراقية وإيقاف كلامها عن التحسن الأمني، يرى آخرون بان القدرات الحقيقية لتلك الخلايا باتت غير مهمة ولا تمثل خطرا حقيقيا على الوضع في البلاد وان سفينة الديمقراطية العراقية باتت تبحر بعيدا عن تأثيرات مثل تلك الأعمال رغم إنها قد تواجه بعض المشاكل الأخرى.

وفي الجانب السياسي فالأغلب يكاد يجمع بان العراقيين وبعد مرحلة الست سنوات التي تلت الاحتلال قد تجاوزوا الكثير من مشاكلهم ولم يبق إلا القسم القليل في دواليب المفاوضات نسبة لما تم الاتفاق عليه، وهم اكتووا جميعا بأخطاء الماضي وليسوا على استعداد لإعادته، وان كل ما يجري الآن من تشنجات سياسية قد تدخل ضمن مفهوم الديمقراطية (الناشئة) والتي تتطلب فترة من الزمن كي تصل مرحلة البلوغ الكامل.

وبين تفاؤل المتفائلين وخوف المتشائمين يبقى (حساب البيدر يختلف عن حساب الحقل)، الأمر الذي سيكون مشهد يترقبه الأغلب بفارغ الصبر حيث تصوراتهم المختلفة تترجم بـ:

أولا : المشهد العراقي

1- كتل سياسية( متحمسة) لرحيل القوات الأمريكية: وهي ترى بان اغلب المشاكل السياسية التي يعيشها العراق ناتجة من تواجد القوات الأمريكية وتدخلها الواضح في الكثير مرافق الدولة عموما وعدم إطلاقها ليد الحكومة في الكثير من الملفات ولاسيما الجانب الأمني الذي ما برحت تلك الكتل باتهام القوات الأمريكية في زعزعته بصورة مباشرة او غير مباشرة لإيجاد مبررات البقاء، وتتهم هذه الكتل القوات الأمريكية بدعم بعض الأحزاب السياسية على حساب أخرى ومساعدتها في الحصول على مواقع متقدمة في الدولة دون استحقاق دستوري وحماية بعض المطلوبين قضائيا.

2- كتل سياسية (حذرة) من رحيل تلك القوات: فهي ترى بان الحكومة العراقية وقواتها الأمنية لا تزال بحاجة لتواجد قوات ساندة، وان القضية محددة بين مكوث زمني للقوات الأمريكية خاضع للقانون العراقي ولطلب الحكومة العراقية وبين انسحاب مرتبط بالوضع الأمني وتداعياته وتشكك هذه الكتل ببعض ممن اشتركوا بالعملية السياسية على إنهم ينتظرون فرصة لإثارة المشاكل ومحاولة إيجاد أرضية أمنية رخوة للحصول على مكاسب اكبر من استحقاقهم الدستوري والانتخابي، و تجد تلك الكتل بان الوقت مازال مبكرا على رحيل تلك القوات فالعديد من المشاكل لم تنته بعد، إضافة إلى ملفات اخرى عالقة قد تسبب توترا سياسيا يؤدي الى تصعيد الحالة الأمنية.

3- كتل سياسية (ضبابية الموقف) حول رحيل القوات الأمريكية: لعل هذه الكتل تمثل طيفا معتدا به في الساحة العراقية، وهي لا تخفي قلقها من تفرد بعض الجهات في سدة الحكم وتجاهلها للآخرين من صناعة القرار حال فراغ الساحة من القوات الأجنبية، وتحاول إرسال أرائها الى الأمريكان عبر طرق مختلفة.

4- فيما تبقى بعض الكتل التي ترحب سلوكيا ببقاء القوات مدة أطول الا إنها لا تستطيع البوح بذلك الترحيب كونها ستشكل حالة من الخرق السيادي للبلاد ولمفهوم الوطنية الذي يحاول كلا (التجلبب) به، وهي ترى في موقفها الاستحيائي عدة أسباب تدفعها في ذلك منها الحالة المتشنجة لأغلب الأحزاب العراقية والتخوف من ميلان كفة القوى الأمنية والتنفيذية لجهات منافسة في العمل السياسي، ولذلك فان للقوات الأمريكية دور في خلق توازن نوعي سياسي بين الجميع على الطاولة العراقية (حسب وجهة نظر تلك الكتل).

5- الحكومة العراقية: وهي التي يقع على عاتقها الجل الأكبر من المسؤولية حيث مازالت تظهر هدوءاً معتدا به للحظة الصفر التي ستتحمل عندها المسؤولية كاملة، وقد أعطت التعهدات على قدرتها بسد الشاغر الأمني الذي سيخلفه رحيل القوات خارج المدن خلال مناقشة الاتفاقية الأمنية في البرلمان العراقي، ورغم إن القوات العراقية لا تزال تعاني من اختراقات واضحة من قبل بعض العناصر المسلحة والتشنجات التي تحصل بين الفينة والأخرى مع الصحوات او القوات الكردية، إلا إن الحكومة العراقية تبدو عازمة على اقتحام الموعد النهائي بلا تردد وهو ما يشكل اختبارا سيكون النجاح فيه بمردودات ايجابية كثيرة ان عكس ذلك قد يهدد الحكومة بنتائج خطيرة غير متوقعة.

6- المواطن العراقي: وبين اختلاف الآراء او اتفاقها وحجم وزخم التوقعات التي تطرح يبقى المواطن العراقي يترقب المستقبل في حال الانسحاب الأمريكي خارج المدن لما للحالة من جوانب عديدة مرتبطة بالملفين الأمني والسياسي، الهاجس الأهم الذي يثير مخاوف العراقيين استمرار الخلاف السياسي او تفاقمه او احتمالية تشظي الأجهزة الأمنية تبعا لمرجعياتها الحزبية التي تدخلت في تشكيلها، هذا الخوف ممتزج بالأمل للخلاص من سيطرة قوات أجنبية على بلاده وبين رؤية عراق بدون عنف يومي او اقتتال اهلي.

ثانيا: الجانب الأمريكي:

من جانبهم فالأمريكان لا يرغبون بخروج (المنهزم) من المعركة على اقل تقدير إضافة الى إنهم لن يتركوا الساحة العراقية بسرعة البرق، حتى يتبين لهم الخيط الأسود من الأبيض في تشكيل الترتيبات المستقبلية لشكل الحكومة على اقل تقدير وما سيليها حيث ستكون ترتيبة التحالفات البرلمانية المقبلة محط أنظارهم بشكل غير خاف على الكثيرين، وتأكدهم من إن الأحزاب العراقية لن تشكل عقبة مستقبلية حقيقية لهم ناتجة من التفرد بالسلطة او تغيير نمط الحكم الحالي، وعدم سيطرة المتشددين من الأحزاب المناهضة للوجود الأمريكي او التي تعيش حالة قطيعة معهم على مقاليد الحكم، و ضمان عدم تأثير التدخلات الإقليمية على سير العملية السياسية في البلاد او انحيازها الى جهة خارجية.

أما في الجانب الأمني فان العسكر الأمريكان بدوا مؤخرا بالحديث عن الـ (الحد الأدنى من العنف غير القابل للاختزال) والذي يراه القادة بأنه يضمحل تدريجيا ليختفي من الساحة تماما بعد انخفاض مستوى الشد السياسي وإيجاد تفاهمات حول الكثير من القضايا المفصلية، الى ذلك فهم لا يخفون توقعاتهم من أيام صعبة قد تواجه العراقيين بداية الانسحاب لكنهم يحاولون إعطاء صورة جيدة عن قدرات الأجهزة الأمنية العراقية, وكونها غير محتاجة إلا الى الدعم الفني و اللوجستي.

نموذج الانسحاب السوفيتي السريع من أفغانستان عام 1989م لن يكون غائبا عن الأمريكان ولعل الفراغ الأمني سيشكل بيئة خصبة لحالة فوضى مماثلة لأفغانستان، وقد تنتج عن ذلك طالبان عراقية تشكل لهم واقعا مريرا هم في غنى عنه، لذلك فإنهم سيعملون على ان يكون انسحابهم بشكل الجرعات الهادئة التي لا تثير علامات ميدانية بارزة، حيث سيكونوا ضيوف (شبه يومي) على المناطق التي سيتركونها لفترة قد تتجاوز العام.

ثالثا: دول الجوار

الدول المجاورة للعراق بات وضعها السياسي متأثر بوضع العراق بشكل شبه مباشر وهي لا تخفي في كثير من الأحيان تدخلاتها المتكررة في مسائل عدة، واذا كان وجود الأمريكان في الساحة العراقية في الفترة السابقة شكل نوع من الاطمئنان النسبي والزمني لبعض الدول من عدم ترك العراقيين يرسمون سياستهم مع تلك الدول بمفردهم او بوجود الوسيط الأمريكي الذي حاول مرارا تقريب وجهات النظر او منع الاحتكاك السلبي، فان عنصر الاطمئنان هذا سوف ينسحب تدريجيا عن الساحة العراقية او سيقل تأثيره مستقبلا وهو ما يثير مخاوف البعض من تلك الدول، كون الكثير منها لم تنجح لحد الآن في مد جسور الثقة مع الحكومة العراقية او إيجاد تفاهمات مستقبلية مبنية على اطر المصالح المشتركة، الأسباب في ذلك متعددة منها السياسي ومنها التعصب الطائفي.

ولذلك فان دول الجوار والإقليمية ستجعل من مستقبل العراق بدون الأمريكان (العسكر) على اقل تقدير عنصر مناقشة داخل بقوة في حساباتهم، ومؤثر مهم في معادلة السياسة الشرق أوسطية عموما، وعلى هذا الأساس فان اهتمامهم به لن يقل أهمية عن اهتمام أصحاب الشأن بذلك، وبغض النظر عن اى سيناريو سوف يسود فان تلك الدول وعلى الأرجح عليها إن تملأ الفراغ الذي يتركه الانسحاب الأمريكي(ايجابيا) ويتعين عليها مساعدة العراق في منع تردي الحال السياسية ومنع العنف من التأثير على المنطقة برمتها وهو ما سيكون خير لها حاضرا ومستقبلا.

النجاح مسؤولية مشتركة

من الواضح بان الجميع مترقبون على حذر من قضية الانسحاب الأمريكي من العراق وإمكانية حدوث هزات أمنية، وما سيؤول اليه الوضع السياسي بعد غياب عنصر السيطرة (الضامنة) في البلاد بين الفرقاء الذين مازالت المحاصصة والتوافقات تشكل رداءا دائما لهم.

ورغم إن ما بعد الـ30 من حزيران 2009 لن يكون عراقيا محضا بالاهتمام والمتابعة ولكنه بكل تأكيد سيكون عراقيا خالصا بالمسؤولية والنتائج وتحملها سلبا اوايجابا، الحراك العراقي وحسب ما هو ظاهر لم يرتق لحد الآن الى حالة التهيؤ النفسي والواقعي لاستلام جميع الملفات وخصوصا الجانب القانوني في مقدمة أساسية لاستلام باقي الملفات، فالحكومة العراقية لا تزال تجد نفسها معنية بالأمر أكثر من غيرها رغم إن الأمر يتطلب تضافر جهود الجميع حتى من هو خارج العلمية السياسية والتي يرى بان خروج الأمريكان سيشكل عاملا محفزا للاشتراك بها.

من هذا المنطلق فأن استحقاق حزيران 2009 يتم بسلام عبر:

1- يتحتم على العراقيين أحزابا وقوى سياسية وقواعد جماهيرية وبرلمان وحكومة، إدراك بان القضية تتطلب انتهاجا لسياسة جديدة بعيدا عن الوضع المحاصصي مبني على برنامج وطني شامل نابذ للعنف وقائم على المشتركات ومؤجل للاختلافات لما بعد مرحلة الاستقرار الكامل.

2- الدعوة لإقامة مؤتمر موسع لجميع القوى السياسية المشتركة وغير المشتركة في العملية السياسية لوضع تفاهمات ثابتة، لمرحلة ما بعد الانسحاب والاتفاق على التكاتف الوطني ونبذ العنف و حرمة الدم العراقي إياً كان لونه او انتماؤه.

3- البدء بحملة وطنية شاملة في جميع الميادين للتهيئة الفكرية والإعلامية لخلق جو عام لدى المجتمع العراقي في أهمية إنجاح عملية جلاء القوات الأمريكية خارج المدن ودعم القوات الأمنية والحكومة العراقية في السيطرة على الوضع عقب ذلك.

4- أهمية إجراء إصلاحات سريعة في الساحتين السياسية والأمنية والادارية والمتمثلة بفتح حوارات مع الفرقاء السياسيين والتأكيد على مهنية وكفاءة القيادات الأمنية وجهوزيتها.

5- العمل على رفع ثقة المواطن العراقي بقواه الأمنية من خلال إبعاد المشتبه بهم من بقايا النظام السابق او ممن تحوم حولهم الشبهات بانتهاكات لحقوق الإنسان، وتشديد الرقابة على عملها.

6- الإسراع بإنهاء ملفات الكثير من المعتقلين وتأهيلهم وإعادتهم الى الصف الوطني والتأكد من عدم إطلاق سراح المتهمين بإراقة الدم العراقي او دعم الإرهاب ماديا ومعنويا.

7- إشراك مجالس المحافظات بشكل مباشر بعملية انسحاب القوات والتنسيق معها مسبقا تفاديا لأي خلل أو إرباك مستقبلي.

8- فتح قنوات اتصال مع دول الجوار والعالم ذات التأثير المباشر في الوضع العراقي ومحاولة العمل على إيجاد تفاهمات وتطمينات حول العلاقات المستقبلية معهم ورسم الصورة واضحة من خلال مبعوثين رسميين لذلك.

*مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com


Opinions