Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

طريق الدكتاتورية المسدود

لطيف القصاب/
تدور في أذهان العديد من المهتمين بمتابعة الشأن السياسي العراقي فكرة إمكانية الرجوع بالدولة العراقية مرة اخرى الى طابع الحكم الدكتاتوري الصارم بدون او مع بقاء المظهر الخارجي للدولة مظهرا ديمقراطيا بشكل عام.

ويذهب الفريق المؤيد لهذا الطرح الى ان الغالبية العظمى من عموم الشعب العراقي مستعدة (فطريا) للقبول بحكم القوة والتسلط لما الفه هذا الشعب في الماضي القريب والبعيد من حكومات مستبدة، وما يزيد من استسلام الجماهير لفكرة حاكمية الدكتاتور هو تخبط التجربة الديمقراطية الحديثة، هذه التجربة التي اعقبت سقوط نظام صدام حسين، ويشكو قطاع عريض من العراقيين من انهم لم يجنوا منها الا الخسارة الفادحة في الارواح والارباح.

ترى الى اي مدى يمكن ان تعود عجلة التاريخ الى الوراء في العراق وتستعيد نظم الحكم القمعي سطوتها السابقة ؟. المناصرون لهذا الاستنتاج يعولون على سايكولوجية الشعب الساخطة على الاوضاع السياسية التي سادت البلاد منذ سنوات ولكن ماذا عن القوى السياسية التي ترسم المشهد السياسي العراقي الحالي على صعيد السلطة والمعارضة، هل تنخرط هي ايضا كلها او بعضها في ركب الشعب المستاء من ممارسة الديمقراطية، ام ان لها تصوراتها المختلفة ؟

وقبل ان نسترسل في محاولة إيجاد جواب لهذا السؤال لابد من القطع اولا بمدى صحة فرضية كون الشعب العراقي بات مهيأ اكثر من اي وقت مضى للرضوخ طواعية الى الحكم الدكتاتوري مجددا، فهل هذه الفرضية جديرة بالاثبات ام انها محض تكهنات خيالية او تعبيرات عن مآرب سياسية.

ان تحليل قضية الحنين الشعبي للدكتاتورية يستدعي منا استقراءً لجميع وجهات نظر العراقيين حول هذا الموضوع، وبما ان استقراء من هذا النوع لاينهض به الا جهد دولي كبير فاننا سوف نحاول معرفة ما تنطوي عليه الذهنية العراقية العامة من خلال ادوات اخرى كحساب تاريخ التجارب الديمقراطية الاكثر حداثة في العراق، ومن جهة اخرى سنحاول قياس المستوى المعرفي لعموم المواطنين.

لاشك ان تجربة العراقيين في الديمقراطية هي تجربة سطحية لم تنزل بعد منزلة عميقة من نفوس وعقول العراقيين، فقد اعتاد اقطاب الحكم في الحقبة الملكية امتهان الدستور والهيئات التشريعية الى الحد الذي تحولت فيه هذه المؤسسات الرسمية الى دُمى يحركها الملك تارة ورئيس الوزراء تارة اخرى، وحينما ازفت ساعة موتها لم تحظ بعدد مهم من المشيعين والناعين، وبغض النظر عن مشاعر الطبقات المتضررة من تغيير الحكم الملكي الى آخر جمهوري فان الذاكرة الجمعية للشعب العراقي لاتكاد تحتفي باي مظهر من مظاهر الحب الحقيقي للديمقراطية الصورية التي سادت العراق في ثلاثينات واربعينيات القرن الماضي،ولم ينل بعض رموز هذه الفترة التاريخية شيئا معتدا به من عواطف الجماهير الواسعة.

وبالنسبة للفترة (الديمقراطية) الراهنة فان صوت الناخب على سبيل المثال مايزال قابلا للمزايدة الاجتماعية والاقتصادية ولم يتحول الى قيمة سياسية ثمينة داخل النسيج الفكري للانسان العادي، بل اصبح هذا الصوت بفعل حداثة التجربة وسوء أداء القابضين على السلطات وتردي الواقع الامني والخدمي مدعاة لصب اللعنات وتوجيه الشتائم على رؤوس الناخببين قبل المنتخبين.

ولو قدر لعامة الشعب العراقي ان يوضعوا في موقف الاختيار بين الحرية والامن مثلا لما كان لهم الا ان يختاروا الامن على اي بديل اخر وهذا لايقدح بنضج العقلية الوطنية العامة بقدر ما يعطي مؤشرا على واقع الحال الناجم عن تضافر عوامل الافقار والتجهيل والتخريب الداخلية والخارجية التي اصابت الادراك الجمعي العراقي بكدمات حادة.

الى هنا نكون قد عززنا مقولة القائلين بامكانية الرجوع الى حكم المستبد اذا ما اوكل الامر الى رغبة الشعب مجردة عن أي تأثيرات اخرى. لكن فرضية كهذه تبدو غير واقعية اذا ما علمنا بان الناس في العراق لايتحركون عادة بوحي من اراداتهم الحرة وافكارهم المجردة بل هم مجبولون على الانقياد خلف مآرب واهداف ترسمها لهم النخب الاجتماعية والسياسية، ومع هذا الشرط اللازم يصبح الحديث عن امكانية تغيير الانظمة الحاكمة بمشيئة شعبية ضربا من الاساطير، فالكلمة الفصل في مثل هذه الموضوع بيد من يمتهنون الاعيب السياسة ويجيدون السير في دهاليزها المظلمة.

وهؤلاء على اختلاف انتماءاتهم الفكرية سوف ينظرون الى مسألة إعادة الحكم الدكتاتوري الى العراق بنظرة شزراء فصندوق الاقتراع الديمقراطي لن يكون اخطر عاقبة من انقلابات العسكريين حتى بالنسبة لأكثر المتضررين من نتائج هذا الصندوق.

قد يحاول البعض التشكيك في قدرة القوى السياسية لاسيما المتناحرة منها على اتخاذ قرار التصدي لمحاولات الرجوع بالعراق الى ما كان عليه قبل التاسع من نيسان عام 2003 م بدعوى ان جل هذه القوى تنتمي الى منظومات خارجية، وكل بحسب الولاء الجهوي والانتماء العقائدي، غير ان هذا التشكيك يُرد حينما نتأمل في مدى التصدعات والتشققات التي اصابت وسوف تصيب كيانات سياسية محسوبة على هذه الدولة او تلك، ونظرة واحدة على مجمل الاحداث السياسية الراهنة تعطي انطباعا بقلة قدرة العديد من الدول ذات التأثير في المشهد السياسي على لم شتات اتباعها تحت قائمة انتخابية موحدة قبل الانتخابات وكذلك في الحفاظ على ما بقي من اتحاداتها بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الاخيرة، فضلا عن سقوط ذريع لعدد من مشاريع دول اخرى حاولت دخول مسرح النفوذ العراقي واقتضام قطعة منه.

ان الضمانة لعدم العودة الى حكم التسلط والاستبداد موكولة اذن الى عهدة القوى السياسية العراقية الراهنة التي وان اختلفت على كل شيء فانها لن تجد مفرا من الإذعان الى بديهية ذائعة الصيت تفيد بان الديمقراطية في أسوأ تطبيقاتها هي أفضل من الدكتاتورية في أحسن تطبيقاتها.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net
Opinions