عجائب اخرى
- وكلوا من عدسها وثومها وبصلها-لم يتسنى لي ، ان اسمع بها من قبل ، ولامرت عليَّ في كتب المدرسة . لم اقرأ الكتاب المقدس ، ولم يتطرق من علّمني اليها يوما ابدا . لكن هذا الرجل ، الذي لايتسع المقعد لعجيزته ، وبطنه تكاد ترتطم بمقود عربته الجديدة اللامعة ، قال لي ان تلك - اية ٌ كريمة –
ورغم علمي ، بانه اراد بها قمعي واستغلالي ، لكني صدقت ماقال ببراءة .
فانبريت له متهكما ..
وهل توجد آية ٌكريمة ، تمنع أكل الدجاج ؟!
لا .. لااظن ذلك .
اجاب الرجل مرتبكا .. وقد شعر بسخريتي .
قلت ..
اذن ، اريد دجاج ورز ، وإلاّ .. لااستطيع ان اواصل عملي هنا .
وفي غفلة مني ، واخرى منه ، رايته مختبأ ًخلف شجرة صغيرة ، ويتبول واقفا ..
ضحكت في سري متمتماً ..
فقد ظننت ، بان رجل كبير السن مثله ويتحدث بمنطق المتدين ، لايمكنه ان يعمل تلك ، الا اذا كان مضطرا .
شعرت بالارتياح للوهلة الاولى ، لان هذا البرهان سيجعلني انتصرعليه ولايمكنه ان يتملص مني ..
فواجهته مرة اخرى بسخريتي المعتادة ..
وهل يتبول المؤمنون وهم واقفون ياشيخ !!؟
سوف لن اسمع منك بعد الان ، حديثا نبويا ، ولا آية قرانية ..
وغدا عليك ان تاتيني بالدجاج والرز ، الذي يكفيني لمدة اسبوع .
امتقع وجهه اللئيم ، وظهر عليه الحنق ، لكني احسست انه سيجلب لي غدا ما طلبت ، ثم قاد عربته ورحل .
كنت محاطا بتلال من الرمال الى حد الاختناق ، تضيف غرابة اخرى الى غرابة عالم الصحراء المتراكم ، تلك الصحراء ، التي تبدو كافق لانهاية له.
ضرب الظلام اطنابه في المكان ، وبدات تخترق صمته المطبق،عواءآت الضباع والذئاب الجائعة ، التي كانت تتعالى تدريجيا ، حتى ملأته صخباً . فخيل لي بان هذه الحيوانات، تتنادى وتتحاور في ما بينها بطريقة غريبة ، كانها تريد ان تضع خطة للهجوم عليَّ .
حزنت للذي انا فيه ..
استداريت .. ودلفت داخل الكوخ الطيني ، اغلقت الباب باحكام ، ثم شعلت نارا داخله ، فقد كانت ليلة خريف باردة ..
تمددت على بطانية عتيقة ومرقعة ، ورحت احلم باناقة حبيبتي ، وهي تنظر بالمراة وتبتسم لي .
سمعت هرولة خارج الكوخ ، كانت تشبه المطاردة .
اذن هناك فريسة وهناك مفترس .
نهضت لكي استجلي الامر، وكنت اعزلاً تماما ، إلاّ من عصا نحيفة ، اضطر احيانا لاستخدامها في التخلص من الافاعي والعقارب ، التي تملأ المكان ..
بحثت عن اللايت الصغير ، لكي اضئ الطريق الى الباب ، وقبل ان اعثر عليه ، كان احدٌ يطرق على الباب بسرعة وبقوة ، ويكاد يدفعه بكلتا يديه محاولا فتحه ..
من الطارق .. وماذا تريد ..؟
استوقفته بالسؤال ... فرد علي رجل قائلا ..
افتح الباب رجاءا فانا خائف ..
استقبلته بحرارة ، طمأنته بان لا يخاف ، فقد وصل الى مكان آمن ، وقدمت له ماعندي من الاكل والشراب .
كان هذا الرجل ثرثارا ، لايتوقف عن الكلام ، ولا يوحي ابدا ، انه من السياسيين الهاربين من جحيم القمع في العراق . ومع ذلك ، فقد خفف عني حمل الليل الثقيل .
كان يهذي كالمجنون ، من شدة شعوره بالخوف ..
فيقول ..
لم أكن وحدي .. لقد كان معي ثلاثة من الادلاء ..
اولهم ، اوصلني الى مدينة صفوان وعاد ..
والثاني ، عبّرني الحدود ثم عاد الى العراق ..
واما الثالث ، فقد اوصلني الى باب كوخك هذا .. والحمدلله رب العالمين .
و لما لم يجدني متحمسا للحديث ، وأسألتي تحمل معنى التشكيك واللامبالات ، استدرك وقال ..
كان معي الله سبحانه وتعالى ، ومحمد – ص – ، وعلي –ع – .
توقفنا عن الكلام وساد الصمت ..
تركته ينام ، فهو متعب جدا ولاشك ، وانا ايضا علي ان انام ، لكي اقوم الى العمل مبكرا .
قبل الفجر ، ارتديت بدلة العمل ، بعد ان احتسيت كوبا من الشاي ، وخرجت الى عملي ، الذي استمر الى منتصف النهار .
ضيفي ، واسمه جاسم ، مازال في داخل الكوخ ، فقد ابلغته بان لايخرج ، لكي لايراه احد من افراد الدورية .
من بعيد لمحت سيارة صاحب المزرعة قادمة ، فأكدت ل جاسم مرة اخرى بان لايخرج ، حتى يعود الشيخ ادراجه .
وصلت السيارة ، وكانت تحمل لي الكثير من الرز والقليل من الدجاج . وكنت اتحاشى الحديث معه ، واستعجله بالعودة ، لكي لايدخل الى الكوخ ويرى صاحبي ..
لكن جاسم يبدو اغرته السيارة الباهرة ومظهر صاحبها ، فاخذ يتابعنا من ثقوب جدران الكوخ الكثيرة ، ولما تأهب الشيخ للصعود في سيارته ..
خرج جاسم راكضا ، وركع عند قدمي الرجل ، وراح يقبل حذاءه ..
ارتبك الشيخ ، وارتعش جسده واخذ يصرخ ..
آمر ياولد .. آمر ياولد ..
ياشيخ .. ياطويل العمر.. ارجو ان تاخذني معك الى الكويت .. اريد ارى اقاربي ..
بسيطة .. بسيطة ياولد .. قال الشيخ وهو يحاول الافلات منه .
اصعد ياولد .. اصعد في السيارة ، وكف عن الذي تفعله .
صعد الاثنان ، وانطلقت السيارة دون ان يلتفتا لي .
غضبت جدا لما فعله جاسم ، وشعرت بالاهانه لهذا السلوك الغريب .
قبل المغيب ، وبعد ان اكلت دجاجة مشوية كاملة ، عزمت ان اقوم بزيارة الى احدى المزارع القريبة ، كانت تبعد عني بحدود خمسين دقيقة مشيا على الاقدام ، حملت عصاي واللايت وذهبت اليها .
لم اعرف من فيها ولاصاحبها ، وحين دخلت عليهم استقبلوني بترحاب وقدموا لي القهوة ، وكانت جلسة سمر تخللها الغناء الريفي الجميل ، ثم جاء صاحب المزرعة واسمه ابراهيم ، وعلمت بانه شرطي وينتمي الى احدى دوريات الحدود ومهمته اصطياد من يدخل الى الاراضي الكويتية بطريقة غير شرعية ، لكني وجدت نفسي منسجما معه من اللحظة الاولى وهو ايضا اظهر ودا ناحيتي .
في ساعة متاخرة ، قررت ان اعود الى مكاني ، لكن ابراهيم اصر ان يوصلني بالسيارة ، فلم امانع .
وفي الطريق وعدني ابراهيم ، بان يقدم لي المساعدة للوصول الى الكويت ودعاني الى زيارتهم مرة اخرى .
لكني لم اذهب ، وبقيت وحيدا في المزرعة ، انتظر فصل الصيف ، حيث يكثر وينشط المهربون .
وفي احد النهارات زارني ابراهيم ، وطلب مني ، ان استعد للسفر بعد ساعة من الان .. شعرت بفرح عارم ، وحزمت بعض اشيائي .
جاء ابراهيم بسيارته الكبيرة ، التي يستخدمها لحمل الاغنام ، وتوقف في باب الكوخ .
فتح غطاء المحرك ، وقال .. اصعد ..
فاندهشت وتراجعت ..
اين اصعد ..؟!
كيف لك ان تحشرني مع محرك السيارة ..؟!.. اتريد قتلي ..؟!
هز رأسه وقال مازحا .. عندما يشاهدونك الشرطة هنا ، سوف يحسبونك واحدا من انابيب محرك السيارة .. وقهقهة بصوت عالي .. ثم قال بجد ..
انظر الى هذا المكان .. لقد هرّبت فيه العشرات من الرجال .. عليك فقط ان لاتتحرك .. لان هناك سنتمتر واحد ، يفصل قدميك عن مروحة المحرك .
صعدت ، ولاحيلة لي ..
حيلتي حلمٌ ، اضحى مستحيلا ..
فسحة ضيقة كهذه ، التي اقبع بها الى جانب المحرك ، في العراق الفسيح .