عراق المستقبل ووثيقة مبادئ
هرع العراقيون إلى صناديق الاقتراع لانتخابات ممثليهم فى مجلس النواب، وستنبثق من خلاله حكومة جديدة لأربع سنوات قادمة، وبهذه المناسبة، أود أن أكتب هنا عما كنا قد نشرناه منذ أشهر مطالبين ببدء صفحة جديدة، إذ كنت قد نشرت مع مجموعة من المثقفين والاختصاصيين العراقيين المستقلين فى المهجر بتاريخ 71 نوفمبر 9002 إعلان مبادئ، قلنا فيه مطالبنا من أجل وثيقة مبادئ وطنية أساسية موجهة إلى المسئولين العراقيين القادمين.*وهى وثيقة عدها العديد من المثقفين والساسة العراقيين المستقلين منهاج عمل حقيقيا لا طوباويا، لما يمكن عمله على مدى السنوات القادمة لإنقاذ العراق دولة ومجتمعا واقتصادا وثقافة مما يخلصه من أحواله الصعبة، أو ما قد يعصف به من مشكلات قادمة، وهو يحمل مشكلات لا تعد ولا تحصى.
لكن المسئولين العراقيين الذين تنتهى ولايتهم هذا اليوم، لم يلتفت أى أحد منهم إلى وثيقتنا التي كنا ولم نزل نعتبرها أحد البرامج الأساسية لإصلاح الوضع، وتخليص العراق من ورطاته التى أدخل نفسه فيها منذ زمن طويل، كما أنها تعبير عن الضمير الوطنى للعراقيين جميعا.
إننا مع الأسف نعلن اليوم بعد مضى أشهر على ذلك الإعلان، أن الصراع على السلطة فى العراق هو أكبر من التماثل والاتفاق على المبادئ الوطنية التى يحتاجها العراقيون اليوم قبل أى يوم مضى! هذه المقدمة أظن أنها كافية لتبيان ما الذى طالبنا به، فما الذى طالبنا بتحقيقه على أرض الواقع فى العراق، ومن قبل العراقيين الذين سيتسلمون مسئولية البلاد، ونحن ندرك أن الفشل قد رافق أساليب الحكومة على مدى أربع سنوات مرت بالرغم من كل ما تحقق مما يصفونه بالإنجازات؟
أولا: من أجل دستور جديد يقدس وحدة الوطن والدولة والشعب
لقد طالبنا بالإعلان عن إصلاحات دستورية حقيقية كي ينبثق تاريخ جديد فى ظل دستور مدنى متطور، أى التغيير فى العملية السياسية نحو الأفضل، وتغيير عدة بنود أخفقت فى تلبية ضرورات العراق الاستراتيجية والمرحلية، والإعلان عن تأسيس هوية عراقية موحدة للجميع من أجل مبدأ وحدة الوطن، مع بناء جيش عراقى موحد يمثل جميع تنوعات العراقيين الاجتماعية من دون أية انتماءات أخرى لأى طرف من الأطراف، وبعيدا عن الصراعات الحزبية وضمان الحريات المشروعة، ويرفض التفريق بين العراقيين على أساس دينى أو قومى أو مذهبى، ويساعد على بناء علاقات متكافئة وأخوية مع دول المنطقة والعالم.
ثانيا: المحاصصات والانقسامات
لقد طالبنا أن تتبنى كل الأحزاب العراقية على الساحة اليوم بالعمل الفعلي على إلغاء المحاصصة والبرامج الحزبية الطائفية والقومية، وتأسيس برامج جديدة يتبناها البرلمان العراقى الذى تقع عليه مهمة محاربة الفساد والمحسوبيات المتنوعة التى نخرت كل المؤسسات، وألا يكتفى الجميع بالإعلان عن مشروع وطنى بالاسم من دون تقديم أية بدائل حقيقية تضمن تغييرات فى النهج المعمول به حاليا، وهو نهج يكرس نهج الانقسامات الاجتماعية لا السياسية وحدها.
ثالثا: العراق: وطن واحد لا عدة أوطان
لقد طالبنا أيضا باعتراف حقيقى بالعراق، أرضا وشعبا، وبوجوده وتاريخه وحضاراته بعيدا عن كل قومية أو ديانة أو طائفة أو إقليم.. وألا تعتبر دولته مصطنعة أو استعمارية وألا تستغل الفيدرالية من أى طرف كان، لمطالب توسعية أو الاستيلاء بالقوة علي أرض هى بالأساس عراقية قبل أن تكون غير ذلك.. لقد طالبنا بأن يكون للدولة العراقية حضور رسمى فى كل شبر من أرض العراق مهما كانت طبيعة النظام السياسى الحاكم، فلا يمكن أن يعيش العراق منقسما بين حكومتين أو أكثر.. وليكن اعتمادنا على الضمير الإنسانى والوطنى والحوار الأخوى الصريح لتشييد مستقبل وطننا المشترك، ومن أجل أن نؤسس لأجيالنا القادمة صروح السلام والاستقرار والعدالة!
رابعا: من أجل سياسة داخلية تدعم الأمن وتحارب الإرهاب والفساد
لقد اتبع النظام السابق سياسة داخلية قمعية واستبدادية وقاسية عانى العراقيون من جرائها الويلات، وكثرت الانقسامات، وزاد الفساد اليوم بشكل لا يصدق، وبعد زوال النظام السابق، سحقنا الإرهاب وكل وسائل التدمير التى ندينها تماما.. إن تقوية الدولة والجيش والأمن يبدأ بإلغاء الفساد الذى تتمثل أولى مظاهره فى جانبه الرسمى والعلنى والقانونى. إن القضاء على الفساد يتم بإصلاح سمعة القيادات والمسئولين وأعضاء البرلمان وكبار موظفى الدولة، بدءا بتقليل رواتبهم وامتيازاتهم الفاحشة التى تفوق حتى مستويات الدول الكبرى! كما طالبنا إعلانا عن أن الحكومة القادمة ينبغى أن تحل جميع الميليشيات والقوى المسلحة فى كل أنحاء العراق.
خامسا: من أجل موقف وطنى وعقلانى من العلاقة مع أمريكا وأساليب سياسية خارجية جديدة
تتحمل الولايات المتحدة مسئوليتها التاريخية من الناحيتين السياسية والقانونية لما حصل فى العراق منذ 2003 بعد أن أزالت نظام الحكم السابق بالحرب والقوة والتدمير لكل العراق، وإنها لم تحقق وعودها للشعب العراقى بإعادة بناء العراق، وإلغاء ديونه وتعويض خساراته وإعمار البلاد بعد انسحاقها.. إن تدميرا منظما قد جرى فى العراق، كما لحقت به انقسامات طائفية وتشظيات عرقية نتيجة للسياسة التى اتبعت برعاية الولايات المتحدة.. هنا ينبغى القول بأن الإدانة لا تنفعنا فقط، بل علينا باتباع أى أسلوب سياسى فيه من الحكمة والعقلانية للتعامل مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الخارجية، وتأسيس علاقة مبنية على المصالح المشتركة بيننا كعراقيين وبين الآخرين.. كما هو مطبق فى دول عديدة فى العالم، وعليه ضمن هذا السياق، طالبنا الحكومة والبرلمان الجديدين باتباع سياسة خارجية مسالمة وجديدة تشتمل على المبادئ التالية:
1/ تعديل المعاهدة الأمنية بين العراق والولايات المتحدة بحيث نضمن من خلالها مصالحنا الوطنية العليا.
2/ سياسة إقليمية «شرق أوسطية» متوازنة مع الدول المحيطة، والتعاون معها بما هو فى مصلحة العراق، والسعى لعقد معاهدة جديدة مع إيران وعدم تدخلها الرسمى المباشر بالشأن العراقى، كذلك أن تبادر بلادنا إلى إطلاق «مشروع بناء منظومة إقليمية شرق أوسطية».
3/ إقامة علاقات متطورة مع الاتحاد الأوروبى، بما يضمن نوعا من التوازن فى علاقتنا مع أمريكا.
سادسا: إعطاء مسألة البيئة العراقية حقها القانونى والإعلامى
لقد دعونا إلى تأسيس «اللجنة الوطنية العليا للبيئة العراقية لمراقبة وتنسيق وإيجاد كل المؤسسات الفنية والدولية والإعلامية والتربوية للدفاع عن البيئة العراقية وإنقاذها، والأهم جعل البيئة موضوعا رئيسيا تتداوله مؤسساتنا التشريعية والتعليمية والإعلامية، إننا ندعو للعمل على إيجاد حماية ورقابة أممية لدجلة والفرات والأهواز مثل الكثير من الأنهار الدولية، تشترك فيها الأمم المتحدة والدول المتشاطئة المعنية: تركيا وإيران وسوريا، مع ضرورة الاهتمام بتبنى وتنمية وسائل حماية وتطوير البيئة العراقية.
سابعا: إلغاء الإجحاف بحق المثقفين والمبدعين والمختصين
لقد طالبنا بتجسير الفجوة بين المسئولين والمثقفين العراقيين، وإشراك المثقفين العراقيين وكل المتخصصين وتجمعاتهم، بلا أى تفرقة طائفية أو سياسية أو عرقية، فى إعداد سياسة الحكومة والبرلمان واستشارتهم فى القرارات المهمة، من أجل حوار موسع وشامل، هذه المطالب لا تمثل كل مطامح العراقيين، بل هى مطالبه الأساسية والمهمة التى لم تنل ما تستحقه من الاهتمام الحزبى والإعلامى. إننا ندعو جميع العراقيين وخصوصا الكتاب والإعلاميين ورجال الدين الناشطين السياسيين، إلى فتح أبواب الحوار الشفهى والكتابى حول هذه المطالب الوطنية المهمة وجعلها جزءا من موضوعات الحملة الانتخابية وبرامج القوى المتنافسة.
وأخيرا : ماذا اقول ؟
لقد قلنا، ولم نزل نعيد القول إن العراق الجديد لا يبنى إلا بأفكار ومشاريع وطنية جديدة نصنعها نحن بأرواحنا وعقولنا لتكون متلائمة مع روح العصر، لهذا فإننا تأملنا أن تنال وثيقة مبادئنا فى إعلاننا ذاك ما يستحقه من اهتمام من قبل الأطياف السياسية العراقية سعيا نحو إعادة بناء العراق على أسس جديدة وحيوية وحضارية معتمدين على كل المواثيق التى لم تربطه بالعالم أجمع، وبالأخص فى منطقته التى يعد واحدا من مراكز الثقل فيها، ولكن أن يتم تجاهلها من قبل أغلب الساسة والمرشحين الحاليين، من دون أى تفعيل أو أى حوار أو أى رد أو أي اختلاف، فهذا ما يؤلم حقا لأناس لا يقرأون أبدا.. ولا يريدون إلا البقاء فى حزمهم السياسية البليدة، كما أن من سوق بعض هذه «المبادئ» باسمه فقط، من دون أى ذكر لأصحابها من العراقيين المستقلين الذين لم يطرحوا أسماءهم كمرشحين عن أى طرف من الأطراف، فهذا يعد انعداما لأخلاق سياسية ينبغى أن يحملها كل وطنى يقدم مصالح العراق على مصالحه.. ويبتغى فعلا الاستفادة من الآخرين من أجل بناء خارطة طريق جديدة للعراق. إننى هنا أشدد على هذه «المبادئ» من جديد، ومعى كل الذين شاركونى الإعلان عن وثيقة المبادئ، التى نعتبرها أسسا حقيقية لإنقاذ العراق فى المستقبل المنظور.. ونحن نؤمن إيمانا حقيقيا بأن طريق بناء العراق صعب جدا، ولا يمكن أن يتحمله زعيم واحد، ولا حزب واحد، ولا كتلة أو اتجاه واحد.. إنما يتحقق بالشراكة الحقيقية عندما تجتمع كل الأطراف العراقية بمختلف ألوان الطيف العراقى لتأسيس جديد.. وما عدا ذلك، فسيبقى جميع العراقيين يصارع بعضهم بعضا.. وستنتهى أربع سنوات قادمة أخرى، وكأننا لم نفعل شيئا أبدا.. فهل وصلت رسالتنا إلى كل الناس؟! أتمنى ذلك من صميم القلب.
سيار الجميل ، جامعة جورجيا ، الولايات المتحدة الاميركية .
راجع نص الاعلان عن وثيقة مبادئ على الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20091118-1764
* نشر المقال في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4265 - السبت الموافق - 6 مارس 2010
ويعاد نشره على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com