عماد العبادي يموت قرب مقرات حكومة المنطقة الخضراء.. فَلْتسخر الأقدار!
ليس بأفضل من باقي العراقيين الذين سقطوا بنفس الرصاص الغادر و ليس دمه مقدّساً أكثر من دماء الأطفال و النساء والشيوخ و جميع الذين قضوا بـ "بتفجيرات البعث و القاعدة و المليشيات"، و ليس جسده بأطهر من باقي الأجساد الرافدينية التي تستفز شُذاذ الآفاق و "المُنغّلة" أمانيهم الصفراء، للقصاص من هذه التربة و ما أنجبته على مرّ العصور.رصاصتان مسمومتان بالغدر و بحب البقاء على جماجم الأموات و بقايا الأحياء، إحداهما في الرقبة، و كأنها رسالة توحي بذبح الصوت الذي يعلو على صوت الحكومات، و نحر الآمال التي تتطلع إلى التغيير من أجل عراق غير مُدمنٍ على الجِراح، يشرب الكأس الأخير من دماء أبنائه و يذهب ليتوضأ بدجلة و يصلّي رِكعتا وطنيةٍ لزرع البَرَكة و إنجاب وليده الجديد الذي حلمنا أن يسميه "سلام" عند نصب حريةٍ مفترضة، ترزح تحت جَور "كاتم الصوت" و البنادق الملعلة بالصلف!
الرصاصة الثانية، في الرأس، لم تكن رسالة، بل جواز سفر إلى الموت، كانت مؤدلجة من أجل مصادرة الرأي الآخر، و مسنّنة لاستهداف العقل و تحمل رمزية "الحَيْونة" و دلالات سحق الفكر و الآراء و الإنسانية.
هل أن البعثيين هم الذين قتلوا عماد العبادي؟ و هو المتهم بكونه أحد رجالات النظام السابق، أم انه خان العقيدة و قرروا تصفيته بعد ستة أعوام من "التحرير أو الغزو" ؟!!
تفجيرات "الأربعاء الدامي" قرب مقرات الحكومة و تفجيرات "الأحد الأسوَد" لم تبعد كذلك عن مقرات الحكومة، و جريمة اغتيال "عماد العبادي" هي الأقرب لمقرات الحكومة في المنطقة الخضراء، لن أتفلسف و أحلل أكثر من هذا، و لنَقل إنها الساعة قد حانت و أن الله أرسل أمره إلى عزرائيل و لا رادّ لقضاء الله و قدره!!
هل كان عماد العبادي، يهدد الأمن القومي العراقي، ربما يكون كذلك بالنسبة لمن لم يدركوا بأن معارضة 30 عاماً ضد نظام صدام حسين لم تتمكن فيها تلك الأحزاب المعارضة أن تزحزحه عن كرسي الحكم إلا بتدخل "العم سام" و "أبو ناجي" و جميع الأسماء الخمسة للعائلة المالكة لمصائر العالمين؟!.
أم أن الأحزاب و المليشيات و الحكومة تفهم أمور و قضايا النقد وفقاً لما تمليه عليه عقولهم المبرمجة على نظام نظرية المؤامرة، و عليه فان العملية تخرج عن كونها رأي لإعلامي ينتقد فيه مؤسسات الدولة التي لم تعد حكراً على أحد كما نظن أو كما أوحي إلينا، لتصبح العملية شخصية و عشائرية و خيانة عظمى و من الواجب اتخاذ القرار الأسهل، المتمثل بغسل "العار" و الطريق التقليدي و الفلكلوري الأمثل لتنفيذ ذلك، يتمثل بإراقة الدم الحرام؟!
لم يكفّ عماد العبادي عن المناداة بضرورة حلّ الأجهزة الأمنية غير الدستورية و المسؤولة مسؤولية مباشرة عن أمن بغداد و أمن المنطقة الخضراء و محيطها، فهل كان عماد حرّاً و شفافاً أكثر من غيره، لفرط استشعاره بخطورة هذه الأجهزة، المكلفة بأن تحافظ على الأمن و المفروض عليها أن تحمي الملايين و تحميه هو شخصياً، كونه الأقرب للمنطقة الخضراء، خاصة و أن مقرّ عمله كمستشار إعلامي لقناة الديار الفضائية المُطلة على شاطئ دجلة بمحاذاة جسر الجمهورية .
كان العبادي من الذين آمنوا بأن الزمن قد تغير و انه لا بد و أن يبقى حريصاً على مبادئه العاشقة للديمقراطية و إيمانه بحرية الرأي و كان لا يكلّ و لا يملّ عن الكتابة و التثقيف ضد الفساد و التصفيق لمن يُسجل نقطة أعلى في الوطنية و خدمة الوطن.
كان يعمل وفقاً لما تمليه عليه كفاءته و مهنيته و قد حلّ ضيفاً في أكثر من مناسبة على بيوت الحكومة الجديدة و البرلمان و الرؤساء و الوزراء باعتباره إعلامياً بارزاً، لكنهم لم يتمكنوا من حماية ضيفهم و أخلّوا بجدارة بأهمّ صفات المروءة العراقية و العربية التي أصبحت من الأطلال و المتمثلة بإكرام الضيف و حمايته، نعم فان أهل البيت أصبحوا ضيوفاً على أرض الآباء و الأجداد و غرباء عن جميع معاني الاستحقاقات.
سأرثيك يا عماد، على الرغم من أني لم أعلم بعد، هل سيمنّ الله عليك بالنجاة أم يصطفيك شهيداً؟
سأرثي فيكَ الصحافة البائسة، تلك التي لم تتقن بَعد كيف تدافع عن نفسها، لقد كنت جديراً في هجوماتكَ و جديراً بالطعن و باسلاً في المنازلة الشريفة كصحفي و إعلامي لا يملك غير قلمه.
سأرثيك يا عماد، و سأغمض عيني عن قراءة بيانات الاستنكار من قبل المؤسسات الإعلامية و النقابية، المهتمة بـ "حماية" الصحفيين أو ترقيم توابيتهم و أعداد رصاصات الغدر الموجهة ضد أجسادهم أو وضع شواهد الخيبة على القبور!
سأرثيك و أردد مطالباتك اللجوجة بحلّ الأجهزة الأمنية غير الدستورية و الكفّ عن التدخل بالعمل الإعلامي و استهداف الكلمة الناقدة.
سأرثي فيكَ "الناصرية" التي تقيئتنا على بغداد، من فرط نزقنا غير المحدود و عشقنا لأضواء الحرية نحن المهووسون بكل إيماءة عشق و لكل نسمة و ذرة غبار تؤكد فينا معنى العراق و حب الأرض بصورة تقترب نحو المطلق، فما كان من بغداد التي آوتنا على مدى سنين إلا و أن تفاجئنا هذه المرة بقرارها المغصوبة عليه، و الذي يقضي بالتنصل عن أبنائها واحداً تلو الآخر و أن تقرر قطع حَبلنا السرّي عنها و ترمي بنا كأشباح لاجئين على أرصفة بلدان الجليد أو كجثث هامدة في نهر أو على قارعة مزبلة أو داخل حفرة قبر!!
سأرثي فيكَ نفسي يا عماد، و تلك الآمال التي نعدّها و نرسمها من أجل المستقبل و من اجل الوطن و الحرية و الصحافة و الإعلام و منظمات المجتمع المدني و ليالي دجلة و السمر و السهر مع "الأبوذيات" و الشعر عند نهرنا الأزلي الفرات الحبيب!!
لقد وقفت مع الجميع في مِحنهم و شددتَ من عزيمتهم و كنتَ جنباً إلى جنب مع الرجولة و الموقف الشجاع، و ها نحن جميعاً نعجز أن نقف إزاء جراحاتك، لنمنحكَ الفرصة الضائعة لقول الكلمة الأخيرة التي تغنيتَ بها كثيراً و لهجتَ بها أكثر و غصصتَ بها أخيراً و التي قتلوك من اجلها!!
هل سنصمت بعد أن يخيل لهم بان عمادي العبادي قد سكت، هل سيرتاح جرح عماد و أطوار بهجت و شهداء الصحافة في قبورهم إذا بلعنا ألسنتنا و حشرنا رؤوسنا في الرمال؟
هل سيتم إجراء الانتخابات في موعدها المحدد بعيداً عن تأثيرات الصحافة الحرة التي تحاول أن تنير الدروب المظلمة و تفضح الفساد و المفسدين و الذي كان عماد أحد ابرز رجالاتها؟
قبل نحو أربعة أعوام حين كانت "القاعدة" تصول و تجول في بغداد و المدن الأخرى، تم خطف الزميل الصحفي المرحوم أحمد الربيعي حين كان موظفاً في مجلس الوزراء و تحديداً خلال فترة حكم الدكتور علاوي ، خطفوه من على بعد أمتار قليلة من بوابة المدخل الرئيس لمجلس الوزراء في المنطقة الخضراء و تم العثور على رأسه مفارقاً جسده في منطقة الدورة ببغداد، بعد أيام قلائل على اختطافه.
و الآن عملية اغتيال عماد العبادي، تتم أيضا أمام إحدى بوابات المنطقة الخضراء و هي "بوابة التخطيط" المقابلة للسفارة الإيرانية في بغداد، و كذلك فان قوات "عمليات بغداد" و الأجهزة الأمنية الأخرى غير الدستورية و التي تصول و تجول في منطقة كرادة مريم موقع و مسرح الجريمة النكراء المنفذة ضد المجني عليه عماد العبادي، فأين المنجز الأمني يا مدّعين الانجازات الأمنية و هل أن تلك الانجازات تُلجم و تقف مكتوفة الأيدي في عقر داركم المتمثل بقصور الحكم في بغداد، أم أن للأمر صورة أخرى لم تعد مخفية أو مطلسمة، لكننا نستنكف النظر إليها لكثرة ما تحمله من قسوة و بشاعة و لؤم ؟؟!!
لن أتصور أن عماد العبادي سينهض من جديد إلا بصلواتكم و مواجهتكم مجتمعين لقوى الشر و الجريمة المنظمة، لأن الزمن الأغبر لن يمنح مثل أولئك الرجال بأن ينهضوا لإكمال المسيرة و يقتصّوا من الشياطين الكسولة و من أبالسة الشر و الموت الغادر!!
هل نقول نَمْ قريراً يا عماد، فهذا الزمان ليس بزمان صحافة و لا وقت للإعلام الحر و حرية الكلمة، أنه وقت زناة الليل و التصفيات الجسدية، انه زمن الضباع المتهالكة على ما فاتها من جيف الفساد و صفقات الظلام، أنهم يعانون من الجوع لكل شيء و ما أنت يا عماد و كل الأشياء الجميلة إلا مُقبّلات يُلهون بها أفواههم النهمة و هي البداية و لن يصل الأمر إلى التخمة أبداً !
لِتَعلمْ يا عماد بان تركة الدم باتت ثقيلة جداً و أن احتياطي الشهداء و عشاق الشعر و المؤمنين بحرمة النفس التي لا تقتل إلا بالحق، أصبحوا أكثر من ذلك البترول اللعين.
أني أكاد أشم جراح جسدكَ تفوح منها رائحة المسك التي ستطغى على نتانتهم و أكاد اسمع أنينك و صوت الشهداء يصرخ بهم، ليكنسهم إلى حيث الخيبة و الخذلان و تنظيف البلاد من جرائمهم المشعّة بالجهل و التخلف و الهمجية و سيجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الخزي و العار !
*رئيس تحرير "اتجاهات حرة"
23-11-2009
itjahathurra@yahoo.com
www.itjahathurra.com