عندما خلق الإنسان الآلهة
تقول الأسطورة الدينية، نقلاً عن أحاديث نبوية، أن الله مجد العقل واعتبره أثمن وأفضل ما خلق من الخلق أجمعين، ولكن ماهو العقل؟ إنه ملكة التفكير الموجودة في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، الفهم والاستجابة، التحليل واتخاذ القرار. وتقول الدراسات العلمية أن العقل البشري الأولي أو البدائي راقب الطبيعة وظواهرها وتأمل فيها، واهتدى إلى اختلاق الأساطير، وصدقها، وأخضع نفسه لقدرات مكوناتها الخارقة.كان أجدادنا في حقبة ما قبل التاريخ البشري، في العصر الحجري وما قبله، في فترة ما عرف بالإنسان النياندرتال، أول من صدم بظاهرة الموت، وأول من بادر إلى دفن الأموات بصحبة طقوس ابتكروها، وكانوا مرعوبين من الموت وفقدان الأحبة دون أن يدركوا لماذا يموت الإنسان خارج دائرة الصراع من أجل البقاء حيث يمكن أن يسقط بين أنياب وحش مفترس، أو ضحية لكارثة طبيعية أو حادث ما. ما نعرفه اليوم عن تلك الحقب هو أن البشر كانوا يضعون في قبور ذويهم من الأموات، عدداً من الأدوات والأسلحة البدائية والملابس والأطعمة الضرورية للاستمرار في " رحلة ما بعد الموت" لمساعدتهم على اجتياز مغامراتهم الغامضة و الخوض في اللغز الكبير الذي ينتظرهم في ما وراء جدار الحياة. وكان ذلك بمثابة تجسيد لأمل ميتافيزيقي. وقد تم اكتشاف آثار تدل على ذلك في مغارات منتشرة في ربوع أوروبا وآسيا ولكن علماء الانثروبولوجيا لا يعرفون الكثير عن أساطير إنسان النياندرتال . من الواضح أن هؤلاء البشر الأوائل صمموا أو ابتكروا نظاماً معيناً من المعتقدات يوفر لهم نوعاً من الاطمئنان والسكينة بأنهم يمكن أن يقهروا الموت أو يتغلبوا عليه دون أن يفلتوا منه، وذلك بالذهاب إلى ما وراء الموت. وهذا يعني أنهم توصلوا إلى أن عالمهم ليس عبثي أو فوضوي بل هو عالم محكوم بقوى غيبية غير مرئية، ومنظمة، وحيث يمكنه، بطريقة ما ، وببعض الممارسات، التعرف عليها، وربما تطويعها لخدمته . واعتقد أنه يمكن أن يناشد تلك القوى عن طريق ممارسات تدل على خضوعه وانصياعه لها كتقديم القرابين، حيث تم العثور على آثار لتلك الطقوس في الكهوف والمغارات المكتشفة مؤخراً ويعود تاريخها إلى 250 ألف سنة قبل الميلاد. إن خوف البشر من ظواهر الطبيعة الغامضة جعلهم يبحثون عن حلول لتلك الألغاز في قصص نسجوها وصرنا نسميها اليوم أساطير .
فالأساطير قديمة بقدم الإنسان نفسه كما يقول خبير الأساطير جوزيف كمبل . والأساطير حية في الأذهان والعقول إلى يوم الناس هذا، وتشكل الأسس والدعائم التي تستند إليها جميع الأديان المعاصرة ، السماوية منها والأرضية، وتمنحها قوتها وتأثيرها على عقول البشر، منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وبوذا إلى أنبياء العصر الالكتروني اليوم. الأسطورة كما نوردها هنا ليست مرادفاً للفنتازيا أو الحكاية الخرافية، أو تتضمن أكاذيب وقصص مختلقة، بل على العكس، هي تعني هنا، بتعريفها الكلاسيكي المستمد من جذرها الإغريقي، "الكلام"، لكنه كلام يتم التعبير عنه بسلطة وقناعة لا تقبل الجدل أو الدحض . الأسطورة حسب كمبل تكشف لنا كيف نكون بشراً، وتكشف لنا أهم ما في أعماقنا من حقيقة. وإن قوة الأسطورة تكمن في التفسيرات غير المحدودة التي يمكن أن تعطى لها ، وفي قوة رموزها وكناياتها ومجازاتها وامتداداتها الشمولية التي تربطنا بجوهرنا وبأهم ما في أعماقنا بطريقة يعجز معها المنطق والعقل وحدهما القيام بذلك. وحسب هذا التعريف ، يتعين على الأديان أن تقوم أو تبنى على الأساطير إذا أرادات أن تقول للإنسان شيئاً جوهرياً. وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أن قصة المسيح أسطورة حتى لو كانت موجودة كحقيقة تاريخية لكنها اتخذت أبعاد الأسطورة . الموت هو الذي دفع الإنسان للتفكير، والخوف منه هو الذي حثه على البحث عن حماية منه عبر الآلهة والأديان والقوى الخفية.
عندما أعلن الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه سنة 1885 عبارته الشهيرة" لقد مات الله " فهو يعني أن الله لم يكن موجوداً في الواقع، وليس أنه وجد ومات، بل يقصد موت فكرة الله أو الوجود الإلهي في أذهان البشر، في فترة ساد فيها الفكر العقلاني وبزغ فيها عمالقة الفكر العالمي في القرنين التاسع عشر والعشرين كماركس وفرويد وجيمس فرازير ولودفيغ فيورباخ وبرتراند رسل وسبينوزا وديكارت وروسو وجان بول سارتر وبالطبع نيتشه. فهذا الأخيرة اعتبر فكرة الله قديمة مستهلكة من قبل الأديان السماوية وليست سوى أثر من الماضي، وهو ماضي ليس علمياً قطعاً، تجاوزته الإنسانية في عصر الثورة الفكرية والصناعية التي بدأت منذ أواخر القرن السابع عشر.و بعد أن دخل العالم مرحلة التحولات الجوهرية والثورات الفكرية والعلمية والتكنولوجية، ارتفع مستوى التعليم والتربية وترسخ مفهوم حرية التعبير والمعتقد وتوفرت شروحات وتفسيرات مادية لألغاز الوجود بالطرق العلمية وفقدت الأديان بريقها وقدرتها على الإقناع، واختفى تألقها، ومعها خفتت صورة الله في رؤوس البشر، وعادت نغمة الصراع بين الدين والعلم .
والحال أننا نعيش اليوم في مطلع القرن الواحد والعشرين حالة معاكسة فلم يتقهقر الإله أمام تلك الهجمة المادية ـ العلمية . فبالرغم من الانجازات التكنولوجية والعلمية في الألفية الجديدة التي خلفت عصر الأنوار ما يزال الدين، والنزعة الروحانية، يعيشان حالة من الازدهار والعودة المظفرة التي عرفت إعلامياُ بالصحوة الدينية. ولو كان نيتشه وأترابه يعيشون هذه الظاهرة لقالوا أن عودة الله للحياة هي انتصار للجهل على العقل لأنهم مقتنعون أن الوعي الديني والإيمان الروحي والعقيدة الإلهية مبنية على الشعوذات والأوهام والغيبيات والماوراءيات، وإن البشر يتعلقون بفكرة الإله لأنهم يفتقدون الشجاعة والقوة لمواجهة هذا العالم اللامتناهي بدون الله . ولا أحد من العقلانيين يمكن أن يشكك بصدقية هذه البديهية. الحقائق تدفعنا للتفكير بأن الجذور العميقة للأديان تكمن في التجربة الصوفية والصيغة التواصلية الرهبانية مع العالم اللامادي وغير المرئي والذي هو ليس بالضرورة غير علمي . فكل الأديان السماوية والوضعية تشترك بما يسمى باليقظة الروحية لدى مؤسسيها تجاه المطلق .فالنفس البشرية لم تفتأ تبحث عن المطلق وتسعى للإجابة على تساؤلات وجودية وفلسفية جوهرية عميقة من قبيل" أين ولماذا وكيف ومتى"، التي تطرق إليها الشيخ نديم الجسر في كتابه " قصة الإيمان"، وذلك منذ أن ظهر الإنسان على وجه الطبيعة وسيستمر إلى نهاية الدهر. تقول نظرية ذكرها دوغلاس آدمز في كتابه الممتع " مطعم في تخوم الكون" :" لو حدث أن اكتشف أحد ما بماذا يفيدنا الكون ولماذا هو موجود وماهو سره الحقيقي فإن هذا الكون سيختفي على الفور وسيحل محله كون آخر أكثر تعقيداً وغموضاً واستحالة في كشف أسراره. وتقول نظرية أخرى أن هذا الأمر سبق أن حصل بالفعل في تاريخ الوجود . والفكر الصوفي يبحث دوماً عن " سر الأسرار" ولو كشف هذا السر فسيختفي موجده". فالكون غامض وعصي على الفهم والكشف، حتى مع كل التقدم العلمي والتقني والتكنولوجي الذي حققه الإنسان على الأرض. ولا يوجد مفهوم أكثر غرابة وعسراً وعدم قابلية للتفسير من تأكيدات المتصوفة على "وجود آخر" أكثر واقعية من واقعنا المادي لكنه موجود على صعيد آخر، غير مرئي من قبلنا، وهو عالم متسامي، ومصنوع من مادة غير المادة التي نعرفها . فالكشف العلمي البشري المحدود والقاصر سمح لنيتشة بالقول بموت الله على يد العلم وهو يقصد به الله الخالق للعالم والكون الذي جاء ذكره في التوراة والإنجيل والقرآن، ولكن لا يوجد في نصوص العلم أو في منجزات العقل البشري ما يدحض وجود واقع آخر موازي لواقعنا يشبه الواقع الافتراضي كما توحي به نظرية الكوانتا " نظرية الكم" البالغة التعقيد والغرابة. والذي يعرف بلغة العلم والفيزياء الكونية بالكون الموازي. أما عن أصل الحياة فقد تقدمت الأديان بنظرية الخلق الإلهي الجاهز من خلال قصة آدم ورد عليها العلم بنظرية التطور والانتخاب الطبيعي لشارل داروين، التي أثارت الكثير من الجدل والسجال والردود والاعتراضات والطعون. وتقول نظرية فنتازية ثالثة أن الحياة بكل أشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين ، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حد بعيد الحياة في الجنة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنولوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الإلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ ADN أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون أرجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها بشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين، نجحوا في تغيير الظروف المناخية على الأرض القديمة الجدباء ، وأوجدوا النباتات والمياه والأوكسجين ووفروا شروط وظروف نشوء الحياة وتطورها بعد تجارب عديدة استغرت آلاف السنين، وتسمى تلك الكائنات "الإيلوهيم" ، وقد ورد هذا الإسم في التوراة، ورئيسهم يدعى يهوه، أي الله باللغة العبرية، ومعارضه الرئيسي، ولكن بصورة حضارية جداً، كائن يسمى إبليس لم يكن موافقاً على تلك التجارب التي قادت إلى خلق البشرية على الأرض . وقد اختار الإلوهيم من بين البشر نخبة من العقلاء والمتميزين أي الصفوة التي يمكنها قيادة بني البشر العاديين وفرض القيم الدنيوية والاجتماعية والأخلاقية التي من شأنها خلق تماسك المجتمعات وتوازنها وسميت تلك النخبة بالأنبياء والأولياء والعلماء والأقطاب، الذين أنيط بهم مهمة قيادة وتنظيم مجتمعاتهم وأقوامهم وفق جملة من القيم الاجتماعية والأخلاقية المحددة بدقة . بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض وأجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميينLes Ummites وساعدتهم على تطوير أنفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة، ونحن مدينون لهم بما أنجزناه نحن البشر من تطور تقني وعلمي منذ أربعينات القرن الماضي. وكان علماء مشهورين على اتصال بشكل مباشر أو غير مباشر بتلك الحضارات الكونية كآينشتين وزاخاروف، وجون بيير بتي، وبفضلهم نجح الإنسان في تطويع الذرة وفلقها والحصول على طاقتها والتمكن من تكنولوجيا الرقائق الالكترونية والكومبيوترات والألياف الضوئية أو البصرية والتقنيات السمعية البصرية كالراديو والتلفزيون والسينما والفيديو والانترنت والهواتف المحمولة ورحلات الفضاء وكشف شيفرة الـ ADN والهندسة الوراثية وعملية الاستنساخ الحيواني والنباتي والبشري وغيرها من التقنيات المعاصرة والمستقبلية التي أحدثت طفرة في التفكير والفهم الإنساني ورؤيته للعالم والكون . وفي مقال لاحق سوف نتطرق لما سينجزه الإنسان في المائة سنة القادمة من تقنيات وأجهزة هي الآن في خانة الخيال العلمي ومنها خلق آلهة المستقبل.
د. جواد بشارة / باريس
Jawad_bashara@yahoo.com