Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

عندما يتحول الدين والمذهب والفكر النير إلى مجرد الفاظ وأقوال

 

سأحاول في هذا المقال تقديم عرض موجز لفلسفة تحليل الخطاب (اللغة) لقرائي الكرام وسأتجنب الجانب النظري قدر المستطاع من خلال منحهم امثلة حية من الواقع الإجتماعي مقارنا ومقاربا ما لدينا بما لدى الأخر المختلف عنا.

ولكن قبل الدخول في صلب الموضوع علينا تقديم تعريف موجز لما نعنيه بالخطاب وما نستند إليه عند تحليله. وتحليل الخطاب اليوم مدرسة قائمة بذاتها يدرس في أمهات الجامعات وتمنح في درسه مئات الشهادات الرفيعة وتستخدمه العلوم الإجتماعية برمتها وبدأ يأخذ مداه في العلوم الأخرى منها الطب ومدارس التمريض والإقتصاد والعلوم الطبيعة بإختلافها.

ما هو علم تحليل الخطاب

لنبدأ اولا بالخطاب وما نعنيه عند ذكرنا له. الخطاب مادته الأساسية اللغة إلا أنه أبعد من اللغة بالمفهوم العام لأنه يشمل أي رمز يستخدمه البشر لغرض إيصال معلومة او رسالة ما. وهنا ندخل في مضمار ليس اللغة فقط بل اللباس والحركات والإيماءات والإشارات وكل الرموز من أزياء رجال الدين والعسكر وغيرهم، والأولياء والقديسين والرموز الدينية والعلمانية والصور المتحركة والثابتة والتماثيل والإيقونات والمزارات وغيرها كثير. كل هذه جزء لا يتجزء من الخطاب.

كيف نحلل الخطاب؟

هناك مدارس عدة ولكاتب السطور باع متواضع فيها ولكن أهمها طرا هي التي تستند إلى فلسفة سقراط وتركيزها على نظريته الداعية إلى  فرز الممارسة عن الألفاظ (الخطاب).  هذه النظرية طورها كثيرا ماركس في فلسفته التي ينتقد فيها سطوة المؤسسات بكافة أشكالها والبون الشاسع بين ألفاظها وممارساتها ونحن مدينون له كثيرا في هذا. 

ومن الفلاسفة الكبار الأخرين يأتي هورخيمر وهبرماس وفوكو الذين منحونا الوسائل النظرية والعملية لتحليل الخطاب وعليهم يستند اليوم علماء الخطاب لتحليل المؤسسات بكافة أشكالها – أي تفسيرها لنا كما هي حقيقتها الإجتماعية وليس كما يريد اصحاب السطوة فيها ان نراها. 

علم الخطاب والدراسات الدينية

بدأت دراسات تحليل الخطاب تدخل في بعض العلوم الدينية ولو ببطء وإستحياء والسبب واضح. الفلسفة عدوة الدين كمؤسسة لأنها تعري المسيطرين عليه – أي رجال الدين – وتظهرهم اولا كأناس عاديين رغم الخطاب والألفاظ الكثيفة التي يغطون أنفسهم بها – لباس خاص رموز محددة ازياء مزركشة أثناء الطقوس وغيرها كثير – وثانيا كأناس همهم إستغلال الأخر من نفس الدين والمذهب لا سيما ألأدنى منهم مرتبة أي أتباعهم – من خلال تلقينهم الفاظا محددة ينتقونها بعناية فائقة ويركزون عليها دون غيرها من النصوص كي توائم توجهاتهم المؤسساتية البحتة، وثالثا منح ما لديهم من الفاظ وخطاب مكانة اسمى في السماء والأرض مما لدى الأخر المختلف عنهم دينا او مذهبا.

وكل فرقة او مذهب في أي دين يبني مؤسسته على الفاظ محددة اغلبها دوغماتية – أي لا يهم إن فهمها مرددوها. المهم إيمانهم المطلق بها وترديدها كدفاع عن مؤسستهم. وكل فرقة او مذهب من أي دين كان تبْني نفسها على شكل هرم او مثلث تضع على قمته رجل – وليس إمراءة على الأقل حتى الأن في ألأديان والمذاهب الرئسة– تمنحه مقدرات فوق الطبيعة وهالة من القداسة والمكانة يفتقدها كل من حوله او أبعد منه ضمن نطاق المؤسسة. 

وتبدأ الطبقات بالظهور. فالقابع على قمة الهرم له زيه الخاص وعلامات فارقة وكل طبقة لها علامة فارقة تميزهاعن الأخرى حتى نصل إلى عامة الناس الذين لا تميز لهم ويجري تلقينهم منذ الصغر خطابيا ولفظيا لتميز فرقتهم ومذهبهم عن الأخرين.

وتدعو هذه الفرق والمذاهب لفظيا وخطابيا إلى  المساواة ولكن هذه كذبة كبيرة لأن اكثر ما تخشاه المؤسسة الدينية – حتى الأن – هو المساواة مثلا السماواة  بين الرجل والمراءة في إعتلاء المراكز العليا في الهرم وتخشى النظام المدني الحديث لا بل ترى فيه خطورة على وجودها فتحاربه ولكنها في نهاية المطاف تنصاع صاغرة امام قوانينه. أنظر مثلا كيف ان الكثير من المؤسسات الدينية في اوربا منها الكبيرة جدا بدأت تنهار امام ضغط المؤسسة المدنية التي تساوي اليوم بين مثليي الجنس وغيرهم وهناك أمثلة كثيرة أخرى لا مجال لذكرها، أترك شأنها لقرائي الكرام.

ما هو دور علم الخطاب

علماء الخطاب يقولون ان لهم رسالة في هذه الأرض شأنهم شأن الأنبياء والرسل ولكنهم بالطبع يرفضون رفضا قاطعا إضفاء صبغة القداسة والمكانة الإجتماعية او الدينية او غيرها لهم. تركيزهم علمي أكاديمي اولا، اي يقدمون نظريات تستند إلى فلاسفة اللغة من امثال ويتكنشتاين وأوستن وهاليدي وغيرهم ويزاوجونها بأفكار ونظريات فلاسفة الخطاب وعلاقتها مع الإيديولوجيا والفكر والثقافة.

فهم عكس غيرهم من العلماء لا يقفون عند الجانب النظري (الألفاظ مثلا)  الذي كما يقول ماركس لا يساوي شيئا ما لم نتحقق بالدليل الدامغ كيفية ممارسته على أرض الواقع. اي إن رددت مؤسسة دينية او غيرها نصوصا جميلة جدا لا يجوز ان نصدقها بل نمتحن اعمالها وممارساتها تجريبيا على أرض الواقع.

نتائج مذهلة

ما نحصل عليه من خلال ابحاث تحليل الخطاب شيء مذهل. والذهول هنا مفاده ان اغلبنا إن لم يكن كلنا مخدعون لأننا نقيس أنفسنا حسب الفاظنا وخطابنا الذي تُلقننا اياه المؤسسة منذ الصغر، فنرى ان ما لدينا من خلال الفاظنا وليس اعمالنا وممارساتنا انه افضل واقدس وأسمى مما لدى الأخر وهذا ليس صحيح.

والطامة الكبرى اننا لا نقيس أنفسنا وننظر إليها حسب الفاظنا بل نستخدم الفاظنا وخطابنا وتعابيرنا للحكم على دين ومذهب وثقافة الأخر، اي اننا نضع أنفسنا من خلال الفاظنا كقضاة (ديان) كي نحكم على الأخرين المختلفين عنا.

وتظهر للعلن الفاظ غريبة وعجيبة تطعن بالأخر وتدينه وتظهر ان ما لديه اقل قداسة وأقل سموا واقل إنسانية مما لدينا. أنظر مثلا الصراع اللفظي بين الأديان حيث كل واحد منها يرى ما لديه هوالطريق إلى السماء وما لدى الأخر الطريق إلى الجهة الأخرى. 

ولا يقتصر الأمر على الأديان بل يتعداه إلى المذاهب والفرق ضمن الدين الواحد. فكل مذهب يطور الفاظا محددة تستند إلى نصوص يراها مقدسة يتم إنتقاؤها بعناية فائقة – عدة أسطر من الاف السطور – للبرهنة  ان المذهب والفرقة قويمة وسليمة وأقرب إلى السماء من غيرها.

 والمذهب كما الدين اساسه تفسير لفظي بشري له أناس يحددون صحة وخطأ هذه الألفاظ والتعابير وله خبراء يحددون الرمز والصورة والتماثيل التي يجب ان تدخل ضمن الطقوس والعبادة والتي لا يجوز، وغيرها من الأمور. والناس – أتباع المذهب او الدين – تتبع الألفاظ غالبا دون تمحيص او إمتحان او مناقشة لأن المؤسسة الدينية مؤسسة شمولية غايتها التلقين ولا تقبل النقاش لأنها تعتقد أنها تستقي مكانتها من السماء ولو انها تمشي على الأرض شأنها شأن سائر البشر.

علم الخطاب واللاهوت المسيحي

قراءاتي الأخيرة لما يكتبه بعض اللاهوتين الكبار كانت مفرحة حقا لأنني رأيت تاثيرا نسبيا للفلسفة لا سيما فلسفة الخطاب الحديثة لفوكو وهبرماس وهورخيمر فيها رغم ان العلماء هؤلاء لا يشيرون مباشرة إليهم.

حسب إطلاعي هناك اليوم أربعة لاهوتيين كبار يحاولون فهم الدين والمذهب والفكر النير من خلال هذه الدراسات. في الإسلام – ومع الأسف – ذهبت محاولاتي حتى الأن ادراج الرياح في الدعوة إلى إدخال علم تحليل الخطاب الحديث في الفقه الإسلامي.

وبين علماء اللاهوت الأربعة الكبار يحتل البطريرك لويس روفائيل مكانة بارزة لا بل هو العَلم والشعلة التي تقود مسار الكنيسة الجامعة في هذا المضمار ولنا فخر كبير ان يكون بين ابناء شعبنا الواحد من إرتقى إلى هذه المكانة. العلماء الثلاثة الأخرون هم: فرنسو انو ولويجي سبيوني وسمير خليلو واندريه دو هالو. 

فلسفة تحليل الخطاب للبطريرك لويس روفائيل

في الحقيقة هذا الموضوع لا يمكن إيجازه في سطر او سطرين اوحتى مقال او مقالين. إنه اوسع من ذلك بكثير ولكن كي أختصر لقرائي الكرام أقول إن بطريركنا المحبوب ادخل في الدرسات اللاهوتية فلسفة خاصة مفادها اننا لا يجوز ان ننظر إلى او نحكم على ثقافة الأخر (الثقافة تشمل الدين أيضا) من خلال خطابنا والفاظنا وتعابيرنا. والبطريرك لويس روفائيل في نظري عالم خطاب من الطراز الأول لأنه لا يكتفي ببناء نظريته الخاصة بل يمارسها على أرض الواقع يوميا من خلال كتاباته وأعماله لا سيما نظرته إلى الأخر المختلف مذهبا ودينا.

هذا بالطبع لا ينفي وجود خلافات فكرية اكاديمية وعلمية بين كاتب السطور والبطريرك لا سيما في مسألة العلاقة مع مؤسسة الكنيسة الغربية وممارساتها والفاظها وخطابها الذي فرضته علينا بإستخدام العنف المفرط أحيانا كثيرة، العنف الذي الذي يرتقى إلى جريمة تاريخية كبيرة، وكذلك مسألة النظرة إلى تراث ولغة واداب وثقافة وليتورجيا كنيستنا المشرقية المجيدة حيث لا ألتقي مع نظرته في هذا الشأن.

كنيستنا المشرقية ضحية الألفاظ

كنيستنا المشرقية المجيدة المقدسة الرسولية الجامعة كانت ولا زال فرعها الباقي على مذهب الأجداد من اكثر ضحايا الألفاظ في التاريخ الكنسي برمته. كنيستنا هُرطقت وجرى تكفير اتباعها ليس لأنها اقل إيمانا والتزاما بالإنجيل من غيرها – حاشى لأن العكس صحيح – بل لأن الأخرين حكموا عليها لا سيما الغربيون من اللاتين من خلال الفاظهم وخطابهم وتعابيرهم وليس إنجيلهم لأنه ذات الإنجيل لدى كل الأطراف.

فكانت كنيسة المشرق ولا زالت هدفا للحملات التبشرية التي تخلل بعضها عنف فظيع في كثير من المناطق وصارت ثقافتها وادبها ولغتها وليتورجيتها وكتاباتها الكنيسة هدفا للطمس والحرق والعدوان تم فيها عنوة تغير وتبديل الفاظها وخطابها بالفاظ وخطاب أجنبي دخيل.

"من انا كي ادين مثليي الجنس"

هذا ليس قولي. هذا قول اطلقه مؤخرا البابا فرنسيس (رابط 1) الذي صار يدهش العالم كل يوم لأنه يحاول الخروج من القالب الخطابي الذي يحكم على ثقافة الأخر المختلف عنه دينا ومذهبا وجنسا وميلا جنسيا وغيره من خلال الألفاظ والتعابير الخاصة بنا. هذا القول سيدشن مرحلة جديدة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الجامعة كما كانت ممارساته وأقواله الأخرى لا سيما موقفه من ان الخلاص ليس حكرا ابدا على الكاثوليك او المسيحيين بل يرافق كل شخص يمارس اعمالا صالحة.

هذا القول معناه ليس من حقي ان ادين الأخر لأن نصوصه تقول كذا وليس من حقي ان ادين الأخر لأن نصوصي تقول كذا. علم الخطاب يقول ان الإستشهاد بنص معين دون غيره معناه انني افرض هذا المنحى على الأخر لأنه يوائم تطلعاتي المؤسساتية والنفعية والشخصية وإلا لما إقتبسته ولفضلت نصا أخر عليه. بعبارة أخرى ليس من حقي ان أستخدم الفاظي للحكم على ثقافة الأخر وليس من حقي ان أستدل على مكانتي في الأرض وفي السماء بالإستناد إلى الفاظي بل إلى ممارساتي واعمالي على أرض الواقع.

أين اوصلني علم الخطاب

أغلب كتاباتي من مقالات  وأبحاث وكتب وغيرها تعني بعلم تحليل الخطاب. إنه علم شيق لأنه يزواج بين النظرية والتطبيق. النظرية باطلة إن لم نستدل عليها من خلال الممارسة. والخطاب والألفاظ، كانت مقدسة لدى أصحابها ام لا، عديمة الجدوى في غياب واقعها الإجتماعي.

فكريا وفلسفيا انا أنظر إلى الدنيا إي الواقع الإجتماعي لا سيما ثقافة الأخر – دينه او مذهبه اوثقافته – ليس من خلال ألفاظي او خطابي بل من خلال إقامة جسر متين للتقارب المبني على مبادلة الإحترام والنظرة والمكانة من كافة الأوجه سماوية ارضية إنسانية قدسية او غيرها. وصار هذا الموقف الفكري جزءا من فلسفتي في الحياة وجزءا من فلسفتي كأكاديمي.

فلسفتي في الحياة هي ان ما لدي من دين او مذهب او فكر او كتاب مقدس (خطاب)  او عرق – اي كل ما لدي بإختلافه او إلتقائه مع الأخر– سليم ومقدس وإنساني وإلهي وغيره بنفس الدرجة التي لما لدى الأخر كائن من كان. ولهذا انا أنظر كمسيحي مشرقي إلى ما لدى أخي وشقيقي المسلم او الإيزيدي او الهندوسي او البوذي او غيره بنفس المستوى الأخلاقي والإنساني وغيره لما لدي.

وقد جلب لي هذا الموقف الفكري مشاكل وهجومات من المذهبيين والطائفيين والراديكاليين والمغالين في التطرف – من كل الأطراف –  الذين ينظرون إلى ان ما لديهم هو الحقيقة المطلقة والقداسة بذاتها وما لدى الأخر ليس اقل شأنا بل لا يعتد به وبأصحابه. 

شخصيا انا لا أعير اي أهمية لهم لأنني لا أرى ان من واجبي جعلهم سعداء كي يغدقوا علي المديح الذي انا لست بحاجة إليه على الإطلاق. علينا اولا ان نتحدى ما لدينا ونضعه امام المجهر ونفلشه من ناحية الأخلاق الإنسانية التي تجعلنا كلنا في نفس المستوى من حيث القيمة الإنسانية. هذا ما يحاول ان يعلمنا إياه علم الخطاب الذي لا أرى انه لا يعارض كثيرا عقيدتي كمسيحي مشرقي.

رابط 1

http://www.bbc.co.uk/news/world-europe-23489702

http://www.bbc.co.uk/arabic/worldnews/2013/07/130729_pope_gay_people.shtml















 













 

Opinions
المقالات اقرأ المزيد
هل من يسمع نداء الأبرياء؟! سهى بطرس قوجا/ يمرّ العراق منذ سقوطه في 2003 بظروف استثنائية مفاجئة وخطيرة أخطر من التي سبقتها، تظهر على غفلة كلما اقتضت المصالح تقدم ايها الزمن ، لكن عليك ان تعلم ان لي جذورا و مكانا اسمه الوطن ماجدة غضبان المشلب/ ثلاث بذرات متبقية ، انها لي ، لن يعتبر ذلك سرقة ، من حقي ان افعلها سرا. طغيان داعش ضد الاثار، الجريمة المركبة يظل إستهداف الحضارة في الشرق بهذه الخسة والحقد الاعمى واحدا من المخاطر الجسيمة التي تريد قتل الانسانية ، لانها حضارة شعوب أصيلة في العراق وسوريا ومن الحضارات (الأكدية ، السومرية ، البابلية ، الاشورية، العربية ). لقد كانت مصدراً إشعاعياً في ماضيها وحاضرها، كما كان لها الأثر الكبير في المونسنيور د. بيوس قاشا والخلائق تسبح بحمده "الخشب" نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحًا وخاليًا من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية
Side Adv2 Side Adv1