Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

غايـة القانـون وعوامـل التقـدم

يطلق لفظ القانون بصورة عامة ويراد به كل ظاهرة مستقرة على السير وفق نسق ثابت ومتماثل مطرد لاتتأثر بظروف الزمان والمكان تتحقق اثارها كلما توفرت اسبابها وشروطها الموضوعية . وعلى هذا المعنى قيل قانون الجاذبية ، قانون الاجسام الطافية ، قوانين الرياضيات وقوانين الذرة .... .
اما لفظ القانون بالمعنى الاصطلاحي في علم القانون فيراد به ، مجموعة قواعد السلوك العامة والمجردة المنظمة للعلاقات الاجتماعية بين الاشخاص المعبرة عن ارادة الشعب العامة والمقترنة بجزاء مادي تفرضه السلطة العامة بأسم المجتمع على من يخالفها .
ويقوم القانون الوضعي برمته ومبنى فكرته الفلسفية على اساس استهداف ثلاث غايات كبرى هي حسب تسلسل الاهمية ، تحقيق آمن المجتمع واستقرار المعاملات فيه ، تحقيق العـدل ، دعم التقدم والتطور والابداع في المجتمع .
ويسود الاعتقاد لدى كثير من الناس بأن علم القانون انما يتشكل من مجرد النصوص المثبتة في متون القوانين ، والواقع ان هذا الاعتقاد خاطيء بالمرة .
ذلك ان القانون علم وفن ، فهو علم لانه يقوم على عدد من النظريات العلمية التي شيدت على اساس معطيات واقعية وعقلية وطبيعية ومثالية وتاريخية تعطي للقاعدة القانونية مداها ومعناها وتفسيرها بهدف كشف المراد منها ومن ثم تطبيقها تطبيقاً سليماً على الوقائع المتطابقة مع فرض تلك القاعدة ، فالقاعدة القانونية لا تُضمن في الغالب تعريفات او شروط للتطبيق ، فهي قاعدة عامة مجردة لا تغوص في التفاصيل عادة ، مما يعني وجوب الرجوع الى النظرية ذات العلاقة لبيان الاحكام التفصيلية وفك الغموض الذي قد يكتنف تلك القاعدة . ولا غنى للقاضي او رجل الادارة في حدود عمله عن الرجوع الى تلك النظريات لتطبيق النصوص القانونية تطبيقاً سليماً لتفادي الوقوع في الخطأ في تطبيق القانون او فهمه او تأويله .
ومن تلك النظريات نظرية الشخص المعنوي ونظرية الاوضاع الظاهرة ونظرية الظروف الطارئة ونظرية العقد ونظرية البطلان ونظرية السبب ونظرية الارادة الظاهرة والارادة الباطنة ونظرية التكييف ونظرية الغلو وغير ذلك من كبرى نظريات القانون المستقرة غير القابلة للحصر التي تبنى على اساس من معطيات الطبيعة والعقل والتاريخ والمنطق .
والقانون فن لان صياغة القاعدة من حيث الشكل والمضمون ما هي الا تعبير عن الجانب الفني للسياسة القانونية التي تُعنى بوضع أنسب ادوات التقنية التشريعية لاحتواء المعطيات والحاجات والاهداف الاجتماعية ، فقد يكون من المناسب ان يضمن العنصر الموضوعي في اطار قاعدة قانونية جامدة او مرنة او معيار قانوني او مبدأ قانوني او أن يحيل المشرع الحكم الى قواعد العدالة او القانون الطبيعي، حسب مايمليه مبدأ أمن واستقرار المعاملات داخل المجتمع او مبدأ العدالة فضلا عن ما تمليه نظرة المشرع لمستقبل الحياة الاجتماعية وما يطرأ عليها من تغيرات محتومة بعد سن الشريع ونفاذه .
ومن حيث التصنيف ، فأن القانون علم انساني معياري يقوم على فكرة الغاية ، كما هو حال علم الاخلاق وعلم الجمال وعلم المنطق ... فهي علوم انسانية لانها تجعل من تفكير الانسان السليم وتنمية تذوقه للجمال وضبط سلوكه وحمايته غاية لها ، ولكل علم منها معياره الخاص ، وهي علوم غائية لان لكل علم منها غايته التي يسعى الى ادركها فغاية علم المنطق التفكير السليم ومعياره الحق والصواب ، وغاية علم الجمال تربية الشعور على تذوق الجمال وتمثله ومعياره الذوق السليم ، وغاية علم الاخلاق ضبط سلوك الانسان ومعياره العدالة والخير والفضيلة ، وغاية القانون تحقيق العدل وضبط سلوك الافراد وربط ذلك بأمن واستقرار ومصلحة الجماعة ومعياره القاعدة القانونية سواء كانت وضعية او عرفية وايا كان مصدرها ، التشريع او العرف او المباديء العامة للقانون او القانون الطبيعي او قواعد العدالة او احكام القضاء او اراء الفقهاء وحسب طبيعة فرع القانون من حيث المرونة او الجمود.
ومن هنا اطلق عليها تسمية علوم انسانية معيارية تمييزاً لها عن العلوم الطبيعية السببية كالفيزياء والكيمياء ، التي تبحث فيما هو كائن فهي علوم تقريرية وصفية تعمل على كشف قوانين الطبيعة التي تسير وفقاً لقانون السببية ، فكل سبب يحقق نتيجة معينة حتماً ، مثل قانون الجاذبية وقانون ارخميدس وباسكال وقانون الطاقة وقانون الذرة .... ، ولانها تقوم على السببية الحتمية او الآلية فأن قوانين الطبيعة لا يُمكن ان تُخرق ، وعلى هذا النحو لم تكن هناك حاجة لمعيار ما يقوم نتائجها وفقاً لما ينبغي ان تكون عليه فهي كائنة شئنا ام ابينا ، وجزاء مخالفتها يتحقق تلقائياً دون حاجة لتدخل سلطة تفرضه ، فمن يلقي بنفسه في النار لابد ان يحترق ، ومن يلقي بنفسه من مكان شاهق اما ان تتكسر عظامه او تنتهي حياته ، واذا نجا فان ذلك لا يعني ان القانون الطبيعي لم يعمل بل يعني ان سبباً اخر قد توفر ولو عن طريق الصدفة حال دون تحقق النتيجة فقد يكون الاول قد ارتدى ملابس تقي من النار وان الثاني وقع في حوض عجلة تحمل مادة ألاسفنج مرت بالصدفة ، فالسبب الاقوى يزيح السبب الاضعف كلياً او ان يتوازن معه جزئياً بقدر او بآخر .(1)
اما العلوم الانسانية المعيارية ومنها القانون فتبحث فيما يجب ان يكون عليه الانسان < Sollen> ، ويحكمها قانون الاسناد لا قانون السببية ، اي علاقة بين قاعدة اجتماعية وجزاء ينبغي ان يوقع عند مخالفتها ، لان القواعد المعيارية بخلاف القواعد الطبيعية، يمكن ان تخرق وجزاء مخالفتها لايمكن ان يتحقق تلقائياً ، فقد يفلت المخالف للقانون من العقوبة ، مما يقتضي ان تكون هناك قاعدة قانونية عامة ومجردة وعامة موضوعة سلفاً وجزاء تفرضه سلطة عامة عند مخالفتها .
ومن جانب اخر يوضع القانون ويراد منه تحقيق غاية معينة كما هو الامر في كل عمل انساني ، لابد له من غاية يسعى لادراكها ، الا ان الغاية من القانون قد تكون من جانب عامة تغطي جميع القوانين في كل زمان ومكان وفي هذا اختلف فقهاء القانون في تحديد مضمون وطبيعة هذه الغاية العامة ، ومن جانب اخر فان للقانون غاية خاصة او محلية ، ان صح التعبير ، وتعبر هذه الغاية عن افكار وطموحات وامال مجتمع من المجتمعات في زمان ومكان محدد .
كما تلعب الافكار الفسلفية السائدة دورا اكيدأً في تحديد الغاية من القانون ، وهكذا تبنت المجتمعات الرأسمالية المذهب النفعي ومبدأ حرية الاقتصاد ومبدأ دعه يعمل دعه يمر ، وفي تبنيها هذا حددت لغاية القانون وجهتها الشرعية المطلوبة ، فتم تشييد النظام القانوني على اساس احترام هذه المباديء الى درجة اعتبارها من الثوابت شبه المقدسة ، بينما اخذت غاية القانون وجهة اخرى في النظم الاشتراكية .
ان بحث الغاية في الفكر القانوني يتطلب دراسة العلاقة بين القانون والمجتمع ومن ثم بحث فكرة الغاية في القانون .
القانون والمجتمع : لايستطيع الانسان ان يعيش معزولا عن الاخرين ، بل لابد له من العيش في مجتمع ليتمكن من الايفاء بحاجاته وضمان آمنه الشخصي مما يستتبع دخوله مع غيره من الناس في معاملات وعلاقات اجتماعية واقتصادية .
وتتصف الحياة الاجتماعية الانسانية بانها حيوية ، متحركة دوماً للامام او للخلف ، لا ثبت على حال ايجابية كانت ام سلبية ، وقيل قديماً ان ثبات الحال من المحال ، وتشير طبيعة هذه الصفات في زمان ومكان معين الى نوع وطبيعة العلاقات الاجتماعية مجتمع ما في زمان ما ، فالمجتمع قد يكون في حال نشاط وتقدم ونهوض وقد يكون في حالة خمول وتراجع وتخلف الا ان المجتمع لا يكون في حالة سكون ابداً، وعلى اية حال كان المجتمع فأن هناك عاملين اساسيين يحكمان العلاقات الاجتماعية ، هما عامل المشابهة وعامل التنوع .
ويتحقق عامل المشابهة من حقيقة ان الروابط الاجتماعية تنشأ بين افراد تجمعهم صفات وروابط وثقافات مشتركة وتقارب بين التطلعات والاماني ، ويتمثل الاشتراك بصفة عامة في القرابة الاجتماعية بتأثير النسب والمصاهرة ووحدة اللغة والدين والتاريخ المشترك بل حتى تقارب الاشكال من الناحية الجسمانية ،فالصينيون كلهم متشابهون من وجهة نظرنا وكذلك الامر من وجهة نظر الصينين بالنسبة للاخرين، وعامل المشابهة هذا هو عامل توحيد وتآخي وتضامن ، ولذلك نجد المهاجرين من مجتمع واحد يشكلون احياءاً خاصة بهم في بلاد الغربة .
اما عامل التنوع والاختلاف فيمثل الفروق الشخصية بين فرد واخر ، داخل المجتمع ،واولها الفروق الفسيولوجية بين الرجل والمرأة ويترتب على ذلك فروق جوهرية في السلوك والعادات وطبيعة القيود الاخلاقية المفرضة على ايً منهما ،كما ان لكل فرد شخصية متميزة تتفرد ببعض الصفات والخصائص عن غيرها ، فليس ابناء المجتمع على مستوى واحد من الادراك او الذكاء او النشاط او الحرص او الالتزام بالقيم الاجتماعية والشرعية ، وهذه الخصائص والصفات المتنوعة هي التي تضفي الحيوية على حركة المجتمع وبسببها ينشأ الصراع على المصالح بين افراد المجتمع الواحد،وتعارض المصالح هذا سيفا ذو حدين اذ يمكن ان يكون سببا للتناحر والبغضاء والعدوان والحروب المدمرة كما يمكن ان يكون سببا للتعايش السلمي والحياة الحرة الكريمة ومعيار التمييز بين الوضعين هو التنظيم، اي تنظيم العلاقات الاجتماعية ، فمن المهم جدا والضروري للغاية تنظيم تلك العلاقات حتى لاتعم الفوضى اذا ماترك لكل انسان مطلق الحرية في تحقيق رغباته وفقا لمشيئته او وفق مايعتقد او يظن انه حقا وعدلا ، فالانسان بطبيعته لايدين نفسه ويبرر افعاله داماً وهكذا حال السارق والقاتل والزاني ، فكل له مبرراته.
وتنظيم تلك القواعد يكون بوضع قواعد عامة مجردة يقصد بها الحد من حريات الافراد ورغباتهم وتصرفاتهم المطلقة ، كما يقصد بها التوفيق بين مصالحهم حتى يزول التعارض والتضارب بينها ، هذه القواعد تضع معايير تحدد مايجب ان يكون عليه سلوك الافراد في المجتمع ، ولهذا يتعين عليهم احترامها والخضوع لها . ومن هذه القواعد التي تحكم وتنظم سلوك الافراد على النحو السابق يتكون القانون .
ان وضع القانون يرمي في الواقع الى تنظيم المجتمع تنظيما من شأنه التوفيق بين مصالح الافراد وحرياتهم من جهة وبين المصلحة العامة للجماعة من جهة اخرى .
ولما كان القانون علماً اجتماعياً معيارياً ، فان وضع القانون يتأثر بالعوامل والقيم الجتماعية كما ان صفته المعيارية لا تجعل منه مجرد علم تفسيري يصدر الاحكام على الوقائع وفقا لما تقضي به فكرة السببية او مبدأ العلة والمعلول ، وانما علماً يبحث في الغايات والاهداف الاساسية وطبيعة القيم الاجتماعية ومدى ملائمتها للغاية التي يتطلع اليها ، وفي ضوء ذلك كان لابد لكل قاعدة قانونية من غاية وقيمة اجتماعية .
غاية القانون : تطورت فكرة الغاية من القانون مع تطور الفكر الانساني وتطور المجتمعات وانتقالها من مرحلة الى اخرى ، ففي مرحلة القوانين القديمة كانت الغاية الاساسية من القانون هي المحافظة على السكينة والسلام الاجتماعي بأي شكل من الاشكال ولو باللجوء الى كل اساليب الردع والقهر فتميزت الجزاءات المفروضة في تلك القوانين بالقسوة ، وربما كان ذلك امراً طبيعياً في تلك المرحلة من حياة البشرية ، اذ يصعب ضبط سلوك الانسان البدائي وجعله ملتزما بالقوانين والاعراف بواسطة الالتزام الذاتي او عقوبات غير رادعة .
وفي العصور الرومانية وبتأثير من الفسلفة اليونانية اضيفت غاية اخرى للقانون هي تحقيق العدل ، وتم اعتماد التمييز الذي قال به ارسطو بين فكرة العدل وفكرة العدالة .
وفي القرون الوسطى ومع بروز السلطات المطلقة للملوك وسيطرة رجال الكنيسة ورجال الاقطاع على الدولة والحكم إحتـَيت مرة اخرى الفكرة البدائية التي ترى ان غاية القانون الاساسية هي تحقيق الامن الاجتماعي والحفاظ على الوضع القائم .
اما في عصر النهضة الذي طغت فيه افكار الحرية والمساواة فقد اعتبرت ان غاية القانون تأكيد ذات الفرد واثبات حريته واقامة المساواة الطبيعية والعدل بين افراد المجتمع ورفع جميع القيود اتي تحد من حرية الانسان ونشاطه ومن ثم لا ينبغي للقانون ان يكون وسيلة الحكام للحفاظ على الوضع القائم ، وحسب وجهة النظر هذه ، ينبغي عدم التوسع في نطاق القانون وحصرها في اضيق نطاق ، وفي هذه المرحة من التطور الانساني ترددت مرة اخرى الفكرة اليونانية التي تقول ( ان القانون شر لابد منه ) .
وفي مطلع القرن العشرين ومع تنامي الحركات الاجتماعية تم الاعتراف بغاية اخرى للقانون هي تحقيق التقدم الاجتماعي .
وفي ضوء ما تقدم ، تقوم غاية القانون على اساس من مبدأين اساسيين يجسد مضمونها القيم الاجتماعية هما مبدأ امن المجتمع واستقرار المعاملات ( السكينة الاجتماعية ) ومبدأ تحقيق العــدل في المجتمع ،
ويتناوب كل من هذين المبدأين في العمل في اطار القاعدة القانونية فقد يجتمعان وقد يفترقان وقد يغلب احدهما على الاخر في نطاق نظام قانوني معين ، تضاف اليهما غاية تبنتها في العصور الحديثة التشريعات المتطورة هي غاية تحقيق التقدم الاجتماعي .
وتختلف القوانين المعاصرة في ترتيب الأولوية التي يجب اعطائها لكل غاية عند تشريع القوانين، الا اننا سنتناولها بالدراسة حسب تطورها التاريخي .
القانون وغاية السكينة الاجتماعية : هذه هي الغاية الاولى من القانون التي نمت وتطورت فكرتها ووسائلها عبر التاريخ ، وقد ارتأت البشرية منذ نشأتها ان الامن الاجتماعي الا يتحقق الا بعدة وسائل، منها، اولاً وجود حاكم ذو سيادة استندت مشروعية حكمه في البدء الى طبيعته الالهية او ان ترشحيه للحكم يتم من قبل الالهة او ان تقود العناية الالهية الى اختياره ، وتطورت هذه الوسيلة لاحقاً الى صيغة حكومة ديمقراطية منتخبة .
وثانياً ان توجد قوانين صارمة تفرض المحاكم الجزاء على من يخالفها ، وقد تعددت وتنوعت الافكار القانونية في هذا المجال وخاصة في مجال الجزاء القانوني وطبيعته والغاية منه ، وكان الهدف من العقوبة ابتدءاً هو الانتقام من الجاني وشفي غليل الضحية او عائلته ثم اصبح الهدف من العقوبة في العصور الحديثة هو اعادة تأهيل الجاني وتحقيق الردع العام .
كما ادركت البشرية ان السلام الاجتماعي لا يتحقق الا اذا سعى القانون الى التوفيق بين المصالح المتعارضة.
وتذهب المدارس الشكلية الحديثة ، وهي نوع متطور من الافكار القانونية القديمة ، الى ان الغاية الاساسية من القانون هي توفير الامن الاجتماعي وترى في تأكيد سلطة الحاكم اساس كل خير وتقدم للمجتمع وكان عدد من فلاسفة اليونان يرون ان القانون هو حكم القوة ، ولهذا عرف الفقيه ( ثراسماخوس ) وهو سفسطائي، العدالة بانها في صالح الاقوى ، ومن اقوال الفقهاء الرومان المأثورة ( ان مايريده الحاكم هو ما يريده القانون ) وفي العصور الحديثة كان من الطبيعي ان تتبنى مدرسة الشرح على المتون هذا الاتجاه ، كما تبناه كبار الفلاسفة الالمان ومنهم هيجل ، فالقانون من وجهة نظرهم يعبر عن مشيئة الحاكم ، وتكرس هذا الاتجاه في المدرسة الوضعية القانونية الذي تزعمه كلسن، فالقاعدة القانونية حسب هذا الرأي هي أمر يصدر من صاحب سلطة الى من يخضع لهذه السلطة مقترن بجزاء لمن يخالفه ، وهذه القاعدة تنفصل بمجرد سَنها عن الاخلاق والعدالة ، وإن كانا مصدر مادتها الأولية ، لتستقل بوجودها كأداة تنظيمية للمجتمع ملزمة للافراد دون حاجة للتحقق مما إذا كان القانون الذي يضم هذه القواعد الوضعية متفقاً مع حسن الاخلاق وروح العدالة او غير متفقاً معهما ، فالغاية التي يجب ان يكرسها القانون هي الامن الاجتماعي بواسطة قواعد قانونية ثابتة نسبياً لا يقبل تطبيقها التقدير ، لا تتقادم ولا تنسخ الا بتشريع لاحق .
ان وسيلة فرض الامن الاجتماعي هي القوة والردع والاستعانة بأجهزة الامن العام لفرضها عند الضرورة .
واذا اردنا ان نحلل قيمة هذه الغاية في النظام القانوني ، فلا يسعنا الا الاعتراف بالقيمة العظيمة لهذه الغاية في حياة المجتمع ، ذلك ان استقرار المجتمع واستتباب الأمن فيه امر لازم لأطمئنان ابناء المجتمع على سلامة حياتهم واموالهم وحماية مصالحهم المشروعة ، فاستخدام القوة وفق الضوابط القانونية ودون تعسف ضرورة اجتماعية لمواجهة مظاهر الاجرام والانانية والخارجون عن القانون وحب الذات المفرط الذي لا يتلائم مع طبيعة العلاقات الاجتماعية والذي يفرز تصرفات سيئة كالربا والاحتكار والاجرام .
ومن جانب اخر ، فان غاية السكينة الاجتماعية تفرض بطبيعتها ضرورة التوفيق بين المصالح المتعارضة .
ذلك ان من المهم جدا والضروري للغاية تنظيم تلك المصالح المتعارضة حتى لاتعم الفوضى ويهدر السكون الاجتماعي اذا ماترك لكل انسان مطلق الحرية في تحقيق رغباته وفقا لمشيئته او وفق مايعتقد او يظن انه حقا وعدلا .
فالقانون يتولى التوفيق بين المصالح المتعارضة مع مراعاة الابقاء على اكبر مجال لحرية الفرد والجماعة ، ويمكن ان يضحي القانون بالمصالح الخاصة حماية للمصلحة العامة ، الا ان ذلك لا يكون الا اذا لم يكن هناك سبيل اخر لحماية المصلحة العامة يمكن ان يبقي على المصلحة الخاصة دون ان يمسها ، وان لا تؤدي تلك التضحية الى اعاقة قوى الانسان الخلاقة او تكبيلها بالقيود بداعي حماية المصلحة العامة . فلا يمكن تحت اية تبريرات مثلا حرمان الناس من حق التعبير وحرية نشر الفكر والرأي والعقيدة في الظروف الطبيعية بزعم انها تتعارض مع المصلحة العامة ، ولو قاد المنطق المجرد الى هذه النتيجة . وهذا يعني ان هناك مصالح خاصة لا يمكن هدرها وان بدا ظاهراً انها تتعارض مع المصلحة العامة .
وتعتبر مسألة تنظيم المصالح المتعارضة من اهم الاعتبارات التي يجب ان يراعيها واضع القانون ، لان القانون الذي تختل فيه حماية المصالح ويبدو فية التحيز واضحاً وغير مبرر لفئة او طبقة من المجتمع من اهم عوامل عدم الاستقرار وفقدان الأمن الاجتماعي وسبباً للأنتفاضات الشعبية والثورات عبر التاريخ .
ولكن ماهي معايير تقييم المصالح وماهي بالتالي الاوليات التي يجب ان يراعيها المشرع وهو بصدد تنظيم المصالح المتعارضة ؟
يمكن ان يقترح في هذا المقام معيار المصلحة العامة ، فكل مصلحة فردية تكون اقرب الى المصلحة العامة هي التي تقدم على غيرها .
الا ان استخدام هذا المعيار لوحده يبدو غير مُجديا لاعطاء حلول كافية ، فضلا عن انه معيار ذو مفهوم مرن وغامض كما يمكن ان يكون اداة الدكتاتورية لتمرير القوانين القائمة على الرغبات والاهواء الشخصية .
الا ان معيار المصلحة العامة في الدول الديمقراطية يبدو اكثر انضباطاً لسببين اولهما شيوع الفكر الفردي البراكماتي وثانيها ان القانون يصدر عن هيئة منتخبة هي البرلمان .
ويضع الفقيه روسكو باوند معياراً عملياً عاماً هو وجوب اشتمال الحل على اكبر قدر من المصالح بأقل تضحية ممكنة ، ويوضح روسكو فكرته بأن اعتماد هذا المعيار لا يعني ان جميع المصالح يمكن النظر اليها على انها في مستوى واحد او انها لا تخضع للمعايرة من حيث ترتيب الاهمية ، ومن بين اول الحقوق التي يجب ان يتمتع بها بها الافراد والتي تكون حافزاً للمشاركة في النشاطات الاجتماعية هو الحق في الاستقرار والآمان من العدوان الداخلي والخارجي ، وحماية الصحة العامة وحماية الاسرة وحماية المؤسسات العامة وحماية الاداب العامة والاهتمام بحياة الفرد وحقه في العيش بمستوى لائق يتناسب مع المستوى الاجتماعي العام السائد .
ومن الطبيعي ان لا يتمكن القانون من وضع هذه الحقوق والمصالح في مستوى واحد لانها تحمل صفة التعارض بطبيعتها ، مما يعني ان عملية وضع القانون تتطلب دراسة الواقع الاجتماعي والقييم والاوليات التي يقدرها عموم ابناء المجتمع ، وهذه متغيرة من مكان الى اخر ومن زمن الى اخر ، وكم من التشريعات الاصلاحية العظيمة فشلت وسقطت عند محاولة تنفيذها لانها لم تأخذ بالاعتبار القيم الاجتماعية السائدة المضادة للتطور، فالافكار العظيمة لاتكفي لوحدها بل ينبغي ان تكون وسائل تنفيذها ملائمة وان لا توقع صدمة في مشاعر ابناء المجتمع نتيجة انهيار القيم المفاجيء، فلدى البشر عداء تاريخي وحذر دائم من التغييرات المفاجئة خاصة ، وهكذا لم يُنزل الذكر الحكيم في يوم واحد وكان ذلك ممكناً بالتأكيد ، ذلك ان نقل المجتمع نقلة نوعية هائلة من الجاهلية وعبادة الاصنام الى رحاب التوحيد والمعرفة ونور الاسلام يتطلب تدرجاً في نزول الاحكام لتستقر في العقول والضمائر .
تطبيقات فكرة الامن الاجتماعي : قد يبدو غريباً للكثيرين ان النظام القانوني يتبنى انظمة تجافي منطق العدالة بوضوح ، ولكن ذلك يأتي من المشرع بقصد بناءاً على غاية تغياها وهي تحقيق امن واستقرر المعاملات بعد ان ارتأى تقديمها في تلك الاحوال على اعتبارات العدالة ، ومن ذلك تحديد مدد الطعن بالاحكام امام محكمة الاستئناف او التمييز بموجب القوانين الاجرائية بمدد قصيرة نسبياً وكذلك مدد الطعن بالقرارات الادارية فأن مرت تلك المدد يرد الطعن او ترد الدعوى شكلاً بغض النظرعن صحة الحكم او القرار او خطأه اومخالفته للقانون. ومن ذلك ايضاً نظام التقادم المسقط في الالتزامات ، والتقادم المكسب في العقارات والمنقولات كاثر من اثار الحيازة .
التقادم المسقط عبارة عن مضي مدة معينة على استحقا الدين دون ان يطالب به الدائن ، فيترتب على ذلك سقوط حقه في المطالبة إذا تمسك بالتقادم من له مصلحة فيه . وحكمة تبني التقادم المسقط هي استقرار المعاملات .
فلا يمكن من الناحية العملية ان يوفر القانون الحماية الى الدائن الى اجل غير مسمى ، والقانون يفترض ان سكوته عن المطالبة مدة طويلة دلالة على انه استوفى حقه او انه قد نزل عنه للمدين ،او ان المدين شخص مهمل فتكون رعاية المدين اولى . فليس من المقبول من ناحية استقرار المعاملات ان يسمح للدائن او ورثته بمطالبة المدين بعد مرور عدة اجيال . وتبنى فكرة التقادم المسقط عل اساس مزدوج يستند الى مراعاة فكرتي الصالح العام والصالح الخاص ، وترتيباً على فكرة الصالح العام ومبناها عدم نظر المنازعات التي تقادم عليها العهد لتعذر الفصل فيها ، لايجوز النزول عن التقادم قبل ثبوت الحق فيه ، ومن ثم لايمكن للدائن ان يشترط مقدما تنازل المدين عن حقه بالدفع بالتقادم .ً وترتيباً على فكرة الصالح الخاص ومبناها قرينة الوفاء ، لا يقع التقادم بقوة القانون ، بل يجب ان يتمسك به من له مصلحة فيه .
لم يتبنى الفقه الاسلامي التقادم المسقط في عهود ازدهاره استناداً الى حديث رسول صلى الله عليه وسلم ( لا يسقط حق امرؤ مسلم وان قدم ) الا انه في العصور المتأخرة وخاصة بعد تبني الدولة العثمانية للعديد من النظم الغربية ، فقد تبنت مجلة الاحكام العدلية نظام التقادم ، الا انه تقادم مانع من سماع الدعوى لا مسقط للحق ، وقد برر الفقهاء الاخذ به على اساس فكرة ان السلطان حينما اقر نظام التقادم المانع من سماع الدعوى فان ذلك يعد بمثابة عزل للقاضي من جهة نظر الدعاوى التي مر عليها الزمان ، فبما ان السلطان قادر على عزل القاضي ومنعه من نظر الدعاوى كلية فانه قادر على عزله في جزء معين من الدعاوى ومنعه من النظر فيها ، لان من يملك الكل يملك الجزء .
وقد تبنى المشرع العراقي نظام التقادم المسقط في المادة ( 429)التي نصت على انه ( الدعوى بالالتزام اياً كان سببه لا تسمع على المنكر بعد تركها من غير عذر شرعي خمس عشرة سنة مع مراعاة ما ورد فيه من احكام خاصة ) .
نظام الحيازة والتقادم المكسب : الحيازة ، سلطة واقعية يمارسها من وضع يده على شيء بحيث يظهر بمظهر صاحب حق عيني عليه كالمالك وبقصد مزاولة ذلك الحق ، وان لم تستند هذه السلطة الى حق يعترف به القانون.
والحائز للشي قد يكون صاحب الحق فيه ، وقد لا يكون كذلك ، فان وجود الحق ليس لازماً لوجود الحيازة . فالسارق او الغاصب او من يعتقد انه صاحب الحق يعتبر حائزاً مادام يمارس على الشيء سلطة فعلية ، ظاهراً عليه بمظهر المالك او صاحب حق عيني اخر . وتقوم الحيازة على عنصرين ، مادي ومعنوي .
يتكون العنصر المادي من مجموعة الاعمال المادية التي يباشرها الحائز وتظهره بمظهر صاحب عيني كالمالك ، فان كان حاز منزلاً سكنه ، وان كانت ارضاً زراعية باشر زراعتها وان كانت ارض سكنية باشر البناء عليها ، ويجب لصحة الحيازة ، ان تنطوي هذه الاعمال على معنى التعدي ، فان كانت تلك الاعمال برخصة من المالك او القانون فلا يتحقق الركن المادي للحيازة ولا يكسب الحائز الملكية او الحق العيني على الشيء مهما طال الزمن ، الا اذا انقلب معتدياً وعندها تحتسب المدة من هذا الوقت . وفي هذا نصت المادة (1145 /2) مدني عراقي على انه ( ولا تقوم الحيازة على عمل يأتيه الشخص على انه مجرد اباحة ... ) .
اما العنصر المعنوي فيقصد به ان تتوفر لدى الحائز نية استعمال الشي الذي يحوزه كصاحب حق عيني كالمالك .
وعليه لا يعتبر الحائز العرضي حائزاً بالمعنى القانوني كالمستأجر والمستعير والوديع والولي والتابع والناقل لعدم ظهورهم بمظهر صاحب حق عيني الا اذا تغيرت صفة حيازتهم للشيء بأن انكروا حق المالك واستأثروا بالشيء لانفسهم .
وهكذا يتمتع المعتدي ، السارق اوالغاصب ... ،بالحماية القانونية التي يوفرها نظام الحيازة ويعتبرهم اصحاب الحق العيني على الشيء الذي في حيازتهم ، وعلى من يدعي انه صاحب الحق عبأ الاثبات قبل انتهاء مدة التقادم ، فان مرت مدة التقادم المقررة قانوناً وتحققت شروط التقادم اكتسب المعتدي الحق بالتقادم وليس لصاحب الحق بعد ذلك ان يطالبه بالرد . يتضح مما تقدم ان الملكية سلطة قانونية ، اما الحيازة فهي سلطة واقعية فعلية .
وكان الرومان قد جعلوا السلطة القانونية تابعة للسلطة الفعلية ولا توفر لها الحماية الا بسبب السلطة الفعلية .
وفي الفقه الاسلامي يعتبر وضع اليد قرينة الملكية ودليلها الظاهر . فمن وضع يده على شيء اعتبر انه يملكه حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك (2) . ونصت المادة ( 1157/ف1) مدني عراقي على انه ( من حاز شيئاً اعتبر مالكاً له حتى يقوم الدليل على العكس .)
وقد يبدو غريباً ان يحمي القانون الحيازة لذاتها ويرتب عليها اثارها وهي قد لا تستند الى اي حق يعترف به القانون للحائز . والحال ان حماية الحيازة تستند الى غاية قانونية مهمة هي حماية السكينة الاجتماعية التي تقتضي تقديم اعتبارات امن المجتمع واستقرار النظام فيه ومنع الاعتداء على الاوضاع القائمة ولو كان المعتدي هو في واقع الامر صاحب الحق .
وهذه الحماية تبدأ كحماية موقته للحائز يستطيع خلالها صاحب الاصلي استرداد حقه من الحائز اذا تمكن من اثبات حقه بالطرق القانونية ، وتنقلب هذه الحماية الى حماية دائمة للحائز اذا انقضت المدة المقررة للتقادم ، لان الحائز يتملك عندئذ الشيء الذي في حوزته ، اذا كان قد حازه بصفة مالك ، وفقاً لنظام التقادم المكسب .
هذا بالنسبة لحيازة العقارات اما بالنسبة لحيازة للمنقولات ، فتكون الحيازة سبباً لتملك المنقول المملوك للغير في الحال دون حاجة الى تقادم ما تطبيقاً لقاعدة (الحيازة في المنقول سند الملكية) ، التي تبناها المشرع العراقي في المادة ( 1163/ف 1) مدني عراقي التي نصت على انه ( من حاز وهو حسن النية منقولا او سنداً لحامله مستنداً في حيازته الى سبب صحيح فلا تسمع عليه دعوى الملك من احد ) . وقد افترض المشرع وجود السبب الصحيح وحسن النية لدى الحائز ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك .
وهناك امثلة عديدة اخرى في النظام القانوني ترجع في اصلها الى غاية السكينة الاجتماعية مثل نظرية الاوضاع الظاهرة ومنها قاعدة ، ان الغلط الشائع يقوم مقام القانون ، واغلب قواعد الاجراءات والاثبات وقواعد تقادم الجريمة والعقوبة بالنسبة للقوانين التي تأخذ بها، وهناك قواعد ذات طبيعة جنائية مثل قاعدة لا جريمة ولا عقوبة الا بنص ، وهناك قواعد قانونية ذات طبيعة سياسية مثل قاعدة مصلحة الدولة فوق القانون .
ان غاية الامن والاستقرار تبنى على اساس الاوضاع الظاهرة التي تجسد الحقيقة القانونية ، والوضع الظاهر قد يتطابق مع الحقيقة الحقة او الواقعية او لا يتطابق . والحقيقة القانونية هي المعترف بها ابتداءاً مالم يقم الدليل على خلاف ذلك .
والامثلة المتقدمة وغيرها بما فيها من خروج واضح على قواعد العدالة ، فقد تبنتها الانظمة القانونية الحديثة جميعاً لانها انظمة تحفظ للمجتمع سكينته وامنه الاجتماعي واستقراره .
القانون وغايـة العــدل : تعد فكرة العدل من اقدم الفضائل الانسانية التي تعبر عن رغبة اصيلة لدى الانسان في أحقاق الحق ورد الظلم في كل مكان وزمان ، ولهذا تبنتها القوانين القديمة والحديثة كغاية يسعى القانون لادراكها ، وهي فكرة تناولها الفلاسفة بالدرس والتعريف والتحليل وتكونت اسسها النظرية على يد فلاسفة اليونان ولقيت اهتماماً بالغاً من فلاسفة القرون الوسطى . واكتسبت فكرة العدل عبر التاريخ كثير من الدلالات المختلفة . ذلك ان فكر العدل فكرة نسبية مجردة تختلف بأختلاف الزمان والمكان ، وهي ايضاً ، كما يقول القديس توماالاكويني بحق ، ترتبط ارتباطاً كاملاً بأسوب وتفكير الانسان عبر العصور . فالعدل في حقيقته ومعناه ليس بخاصية من خصائص القانون وليس هو ظاهرة من ظواهر المجتمع ، بل هو فضيلة وسلوك للانسان في علاقاته الاجتماعية ينبغي ان تتحقق ولو لم يكن هناك قانون او دولة بسبب ظروف قاهرة معينة، ذلك ان الفضيلة تعني استعداداً دائماً ومستمراً للنفس البشرية لفعل الخير ورد الشر ، فالفضيلة تحمل طابع الدوام والثبات والتعود ، اما اذا اتخذ السلوك الفاضل صفة التقطع فلا يعد فضيلة ، لان التقطع يرتبط بالانتهازية والتحيز وربط الموقف الاخلاقي بالمصالح الانانية ، وعلى هذا النحو فان الانسان اما ان يكن عادلا وفاضلاً على طول الخط او لايكون .(3)
ولذلك اعتبر الفلاسفة وعلى مرالتاريخ ان خير تعريف للعـدل هو ما وضعه الامبراطور الروماني جسستنيان في مدونته بقوله ( العــدل هو حمل النفس على ايتاء كل ذي حـق حقـه والتــزام ذلـك عـلى وجـه الـدوام والاسـتمرار )
التمييز بين فكرتي العدل والعدالة : يعود التمييز بين هاتين الفكرتين الجوهريتين الى فلاسفة اليونان القدماء وخاصة ( ارسطو ) ، وكذلك يميز الفقه القانوني الحديث بين العدل (العدل الشكلي القانوني ) والعدالة ( العدل الجوهري، الانصاف ) .
تناول ارسطو فكرة العدالة بالتحليل وهو يرى ان مضمون القوانين هو العدالة ، وان اساس العدالة هو المساواة ، وميز ارسطو بين صورتين اساسيتين للعدالة ، الاولى هي العدالة التوزيعية ، وهو العدل الذي يسود علاقة الجماعة بالافراد باعتبارهم اعضاء في جماعة سياسية هي الدولة وتطبق على الاموال والحقوق والواجبات العامة ، وتهدف الى ان يحصل كل عضو من اعضاء الجماعة على قدر مناسب لاستحقاقه بحسب كفائته او قابلياته او ماقدمه من تضحيات .
فما دامت العدالة هي المساواة والظلم هو عدم المساواة ، فان العدالة التوزيعية تقتضي ان تعالج الحالات المتساوية معالجة متساوية ، ويترتب على ذلك انه اذا وجد شخصان غير متساويين ، وجب ان لا يحصلا على ما هو متساو .
ومنبع الشكوى والشجار حسب ارسطو ان تعطي المتساويين حصص غير متساوية ، او ان تمنح غير المتساويين حصص متساوية . ويلاحظ ارسطو ان الناس جميعاً يتفقون على ان العدالة في التوزيع يجب ان تجري وفقاً للاستحقاق ، الا انهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق . وعبر الرومان عن هذه الصورة من العدالة كما وردت في مدونة جستنيان بالقول ان ( مساواة غير المتساويين ظلم ) .
ويعبر عنها في الفقه القانوني المعاصر بفكرة المراكز القانونية التي تقوم على اساس التمييز بين المساواة القانونية ، وهي المقصودة في هذا المقام ، والمساواة الفعلية. وطبقاً للمساواة القانونية فان ليس كل الناس متساويين امام التعيين في الوظيفة العامة مثلاً ، بل يتساوى منهم فقط من يحمل نفس الشروط والمؤهلات ، وباختلاف المؤهلات يختلف الراتب والمزايا الوظيفية. ومن جانب اخر فأن العدالة التوزيعية تمثل وجه من اوجه حقوق الانسان كما وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان .
وسمي هذا العدل توزيعياً لانه يتولى توزيع خيرات الجماعة والواجبات تجاه الجماعة بين افراد تلك الجماعة . وحين يطالب الفرد بحصته العادلة من خيرات الجماعة فأنه يطالب بما هو مستحق له بوصفه عضواً في تلك الجماعة .
وجاء في اعلان حقوق المواطن الفرنسي الوارد في مقدمة دستور سنة 1789 بالنص على انه ( ان ممثلي الشعب الفرنسي ، المجتمعين في جمعية وطنية ، قد راعهم الجهل ، والنسيان ، وعدم المبالاة بحقوق الانسان ، بأعتبارها سبب المآسي العامة واساس فساد الحكومات . فقرروا النص في اعلان رسمي على حقوق الانسان الطبيعية، المقدسة، غير القابلة للتصرف، حتى يكون هذا الاعلان ماثلا على الدوام في ذهن اعضاء الجسم الاجتماعي ، يذكرهم ابداً بحقوقهم وواجباتهم ....
المادة الاولى : يولد الناس ويظلون احراراً ومتساوين في الحقوق ولا تقوم التمييزات الاجتماعية الا على اساس من المنفعة العامة .
المادة الثانية : ان الغاية من كل تجمع سياسي حفظ حقوق الانسان الطبيعية غير القابلة للتقادم . هذه الحقوق هي الحرية ، والملكية ، والأمن ، ومقاومـة الطغيـان .... . ) . فاساس العدالة التوزيعية بحسب المادة الاولى ان تقوم التمييزات الاجتماعية على اساس من المنفعة العامة لا غير .
اما الصورة الثانية للعدالة بحسب تصوير ارسطو فهي العدالة التبادلية اوالتعويضية ، فهو العدل الذي يسود علاقات الافراد فيما بينهم فيوازن بين المنافع اوالاداءات المتبادلة ، وهي تخضع لمبدأ المساواة ايضاً ولكن المساواة هنا فعلية وليست قانونية. فتقدر الافعال او الاشياء بالنسبة الى قيمتها الموضوعية طبقاً لمعادلة حسابية ، بغية وضع كل طرف في مركز مساو تجاه الاخر ، ولايعتد هنا بالاعتبارات الخاصة بكل فرد كما هو الحال في العدل التوزيعي ،وتطبق في حالات العقد والفعل الضار واية رابطة خاصة اخرى . فمركز المتعاقدين مثلا ، متساو من ناحية العدل التبادلي ، فاذا استلم احد الطرفين المتعاقدين اكثر مما يستحق او اقل وجب الرد وايجاد التوازن لتحقيق العدل ، واذا الحق احدهم بآخر ضرراً وجب عليه التعويض .
ويميز الفقه الحديث بين فكرة العدل وفكرة العدالة ؛
فالعـدل (( Justice : يفيد معنى المساواة ، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون ، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي اليه ، فالمثل يعامل كمثله ، وغير المتساويين لايلقون معاملة متساوية ، وهكذا قرر الرومان ، كما جاء في مدونة جستنيان ،القاعدة القائلة بأن ( مساواة غير المتساويين ظلم ) . ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة وبعدالة ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الاجراءات كانت عادلة لان احدا لم يستثنى او يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون ، لافرق بين ام تسرق لأطعام اطفالها الجياع ومن يسرق لأرضاء ملذاته وشهواته ،مثلا. لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه .
اما العدالـة (Equity ) : فتعني الشعور بالانصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف بأسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف الى خير الانسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم .
ان التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة هو السبب في ان كل الانظمة القانونية شعرت بالحاجة الى اصلاح صرامة القانون من خلال الدعوة الى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي ان الظلم بعينه يتحقق لو طبق القانون بحذافيره وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور ( الرحمة فوق القانون ) الذي لايعني الا أن على القاضي ان يعالج الحالة الفردية الخاصة بروح العدالة . ووجدت هذه الفكرة تطبيقا في مظاهر متنوعة ، ففي انكلترا انشئت منذ قرون مايعرف بمحكمة العدالة للتحرر من جمود القانون العام الانكليزي وعلى اساس فكرة ( ان العدالة تنبع من ضمير الملك ) فيما اعتبرت قوانين اخرى قواعد العدالة او القانون الطبيعي مصدرا قانونيا احتياطيا يطبقه القاضي عند غياب النص ، كما فعل المشرع المصري والعراقي .
ولأن قواعد العدالة فكرة نسبية فأن فقهاء القانون يميلون الى استخدام مصطلح العدالة الاجتماعية كفكرة واقعية يمكن صياغتها بوضوح في النصوص القانونية ، ومن اهم مقومات العدالة الاجتماعية ؛ المساواة والحرية وتكافؤ الفرص ، وبالنظر لسبق الاشارة الى مفهوم المساواة القانونية ، نتاول فكرة الحرية بذاتها بايجاز ثم نتحدث عن مفهوم تكافؤ الفرص .
الحريـــة : التوق الى الحريــة غاية انسانية كبرى وهي جزء من الطبيعة الانسانية وحق اصيل من بين كل الحقوق ، بل هي جزء من طبيعة كل الكائنات الحية ، فاذا كانت الحرية جزءاً من الطبيعة الانسانية فانها ليست هبة يمنحها الحكام لشعوبهم بل ان الله سبحانه هو الذي خلق الناس احرارا ، الا ان هذا الحق كثيراً ما تعرض للاغتصاب عبر التاريخ ، فكان جوهر التاريخ السياسي للبشرية هو صراع من اجل استراد الحق المغتصب ، الحرية .
مارس الحكام السلطة منذ نشأتها بأعتبارها امتيازاً شخصياً تندمج فيه شخصية الحاكم مع شخصية الدولة فالحاكم هو الدولة وفي شخصه تتجسد سيادة الدولة ، ولم تتمكن الشعوب من اجبار الحكام على التخلي عن هذه الفكرة الا بعد صراع مرير طويل مخضب بالدماء، لتنتقل الى مرحلة السيادة للشعب وتكوين البرلمانات ولم يعد الحاكم الا ممثلاً للدولة وليس تجسيداً لها ، فضلاً عن مساهمة الفلاسفة في وضع الاسس التي ينبغي ان تقوم عليها الدولة ، كما ساهمت المصالح الخاصة للاقطاع والبرجوازية الناشئة في السير نحو هذا الاتجاه من خلال الصراع بين الملوك الذين بدأت سلطاتهم المطلقة تتنامى بظهور الدول القومية الحديثة وبين الاقطاع والبرجوازية الناشئة وهكذا اجبر امراء الاقطاع الملك في انكلترا على الاجتماع بهم لمناقشة الامور الهامة لتقديم المشورة وبمر الوقت اصبح الاجتماع منتظماً وانتقل من مرحلة المشورة الى الى مرحلة التشريع والاشراف على القضاء واتسعت صلاحياته ليتخذ من خلاله القرارات المصيؤية واطلق عليه اسم المجلس الاعظم ، وعندما حاول الملك جون الالتفاف على المجلس واعادة السلطات المطلقة لشخصه قاد النبلاء والاشراف والاساقفة ثورة كبرى فرضت عليه وثيقة الحقوق ( الماكنا كارتا ) سنة 1215 .
وبعد ذلك سمي المجلس باسم مجلس اللوردات ولم يعد بامكان الملك الغاء قانون صادر من المجلس وتمت اضافة ممثليين عن كل مقاطعة وممثلين عن المدن الهامة ، وفيما بعد تجمع ممثلي المقاطعات وشكلوا مجلساً خاصاً بهم عرف ليومنا هذا بمجلس العموم . الا ان الصراع لم يتوقف عند هذا الحد وتجدد لاحقاً في القرن السابع عشر لتنتهي الاحداث باعدام الملك شارل الاول سنة 1649 وتولي حد اعضاء البرلمان زعامة البلاد وهو اوليفر كروميل . ويمكن القول بعد هذه المرحلة التاريخية في انكلترا مضافا ًاليها ما تبنته الثورة الفرنسية من قيم للحرية والمساواة ، ان عهد الحرية وسيادة الشعب كاسلوب لحياة المجتمعات قد بدأ بالفعل لاول مرة في التاريخ الانساني .
ومع ان التفرقة بين شخصية الحاكم والدولة بدأت تتضح في العصور الحديثة ، الا ان هذه التفرقة بقيت رهناً بالحاكم وطبيعة النظام السياسي السائد ، فكانت هناك حتى في التاريخ الاوربي ، شبه ردة بين حين واخر ، فبعد الثورة الفرنسية التي قلب موازين الفكر السياسي رأسا على حق وظهر على وجه التاريخ لاول مرة دور المواطن العادي في الدولة والسياسة ، برز ايضاً نابليون كصورة من صور ذوبان الدولة بالحاكم بسبب انتصاراته العسكرية الباهرة التي الهبت مشاعر الفرنسيين وغير الفرنسيين ( 4) ، وفي القرن العشرين برز كل من ستالين وهتلر فضلا عن اغلب دول ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي كتجسيد لذلك المظهر البدائي للسلطة .
اما في الشرق ، مهد نشوء الاستبداد من الناحية التاريخية ، فأن ظاهرة اندماج شخص الحاكم بالدولة بقيت امراً مألوفاً ليومنا هذا .
مبدأ تكافؤ الفرص : تكافؤ الفرص احد اهم الاسس التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية ، ونصت على هذا المبدأ معظم الدساتير المعاصرة ، ومضمون المبدأ ان تعمل التشريعات على محو الامتيازات الخاصة والفوارق المصطنعة بين افراد المجتمع ، بعد ان كانت المجتمعات الانسانية بصفة عامة تقسم ابناء الشعب الى طبقات متدرجة في القيمة ومقدار الحقوق التي تنالها كطبقة الاشراف وطبقة المحاربين وطبقة العامة وطبقة العبيد، وكانت اغلب هذه الامتيازات تنتقل بالوراثة ، الا ان فكرة التمييز الطبقي بين ابناء المجتمع الواحد لم تلق قبولا في الفكـر الحر المعاصر فتم التخلي عنها تدريجيأً .
ويتيح هذا المبدأ لكل فرد من افراد المجتمع التمتع بخيرات المجتمع بالقدر الذي تؤهله له كفائته وقدراته الذاتية .
وفي ظل هذا المبدأ اصبح للنخبة او الصفوة الاجتماعية معنى ومضمون اخر .
فالنخبة الاجتماعية في عالم اليوم هم من يتمتعون بالكفاءات المعرفية ، سواء كانت علمية او ادبية او فنية او مهنية او غيرها ، التي اكتسبها افراد المجتمع من خلال الجد والمثابرة ومن ثم سخروا معارفهم لخدمة مجتمعهم وعموم المجتمعات الانسانية.
والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يتيح للنخبة الاجتماعية من ابنائه، بالمعنى الذي اشرنا اليه ، بان تتولى مناصب الصدارة في قيادة المجتمع . وكل نظام اجتماعي لا يضع النخبة في مكانها الذي تستحقه وكان معياره الولاء العشائري او الحزبي لا الكفاءة ، ولا يكون للافراد فيه مجال للخلق والابداع ، لابد ان ينحدر نحو هاوية التخلف والصراع ،ذلك ان تمكين الجهلة والمتملقين والانتهازيين من الوصول الى المناصب القيادية في الدولة يقود حتماً الى الاستبداد والطغيان والفوضى والفساد وعدم الشعور بالمسؤولية فى المجتمع ، والشعور بالغبن والاجحاف ، وتردي الاخلاق العامة وأزدواجيتها ومَدعاةً لنمو ثقافة القسوة والنفاق والدكتاتورية ، وتأليه الذات البشرية التي تفضلت على اولئك الجهلة وسلمتهم مقاليد الامور في البلاد، ومن ثم تكرس كل مصالح الدولة وقوانينها لخدمة اغراضهم غير المشروعة .
ويعبر احد اساتذة القانون عن ذلك تعبيراً دقيقاً بقوله ( ... وكل تشريع يرفع غير الصفوة القادرة ويقيس بغير مقياس الكفاءة ويصد العبقريات عن مصاعدها ويعيق النخبة عن القيام برسالتها ويلهب بالحرمان والخيبة نفوسها ، لا يمكن اعتباره تشريعاً ظالماً فحسب وانما هو تشريع ينسف قواعد سـلامة المجتمع من اساسها وتغدو اجهزة الحكم في ظلـه فمـاً يلتقـم ويـداً تنتـقـم ) .
والعدل كغاية سامية يسعى القانون لادراكها تلي في مرتبتها غاية السكينة الاجتماعية ، وعند التعارض يميل المشرع الى تغليب السكينة الاجتماعية والتضحيـة بغايـة العـدل .
القانون وغاية التقدم الاجتماعي (5) :
يرى بعض الفلاسفة بحق ، ان الانسان مُبذر بطبيعته لأغلب قواه الخلاقة ، حيث ان اغلب قواه تتجه الى الرغبة في البقاء ورغبته في ان يخلف نسلاً شبيها به . ذلك ان ان رغبته في البقاء تدفعه للبحث الحثيث عن لقمة العيش وهذه تأخذ جل وقته ، ورغبته في النسل ، تجعل من عنايته بأسرته واطفاله وما يترتب على ذلك من قلق على صحتهم ومستقبلهم ، تأخذ معظم الوقت المتبقي من يومه .
ومع ذلك يبقى هناك احتياطي ضخم من القوى الخلاقة للانسان غير مُستغل ،الا اذا صادف ان القوى الخلاقة هي نفسها مصدر رزق الفرد وهي ليست كذلك دائما . وبدون استغلال هذه الطاقات لا يمكن ان تتقدم البشرية ولا ان تُبنى حضارات .
ونظراً لوجود هذا الاحتياطي فقد اتاحت الظروف وحسن الصدفة لبعض العلماء والفلاسفة والادباء والفنانين من استثماره في سبيل خلق ثقافة جديدة والمساهمة في بناء حضارة عظيمة ، وقد تلعب الصدفة المحضة ً دوراً كبيراً في هذا المجال احيانا عندما تخلق ظروف معينة للمبدع ليتفرغ لابداعه ، وهكذا فان تاريخ الابداع يتحدث عن ان بعض المبدعين كان عاطلا عن العمل دفعته الحاجة الى الاختراع والاخر في السجن قادته تأملاته ووحدته الى اكتشاف حقائق مذهلة او كان هارباً من وجه السلطة او من مطاردة دائنيه ، او لم يتمكن من تكوين اسرة ت Opinions