Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

غربال الذاكرة :الموسيقار صلحي الوادي

عندما فاجأني خبر وفاة الموسيقار العراقي الكبير صلحي الوادي ( 30/9/2007) عادت بي الذاكرة الى اكثر من اربعين سنة عندما التقيته في منتصف الستينيات في دمشق وكان يومها مديرا للمعهد العربي للموسيقى الذي انشأه هناك عام 1961 بعد انتهاء دراسته الموسيقية في لندن والتي عاد منها حاملا اختصاصا في التأليف الموسيقي والقيادة الاوركسترالية والتوزيع ، ومصطحبا معه زوجة انجليزية هي عازفة البيانو سنثيا الوادي !! وقد تحول المعهد العربي للموسيقى عام 1990 الى المعهد العالي للموسيقى في دمشق وصار صلحي الوادي عميده وعميد المعهد العالي للمسرح حتى عام 2002 بعد ان اصيب بجلطة دماغية اقعدته عن العمل .
ولعل من اهم انجازات صلحي الوادي تأسيس الاوركسترا السينفونية الوطنية السورية عام 1993 والتي قدمت اول اوبرا في سوريا عام 1995 ، وقد منح في نفس العام وسام الدولة للشرف على اعماله الموسيقية الرائدة وخدماته المتميزة للموسيقى العربية الجادة ! في عام 2004 تم تكريمه بإطلاق اسمه على المعهد العربي للموسيقا بدمشق.
اذكر انه عند لقائي الاول بصلحي الوادي - قبل اكثر من اربعين سنة - بدا لنا وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل وكأن لقائنا ذاك لم يكن الاول ، فتحدثنا بعفوية عن امور نحسبها مشتركة بيننا ، لها تداعيات خاصة عندما يلتقي عراقيان في الخارج فيجدان رغبة وحاجة للحديث عن خصوصيات عراقية يدرك المقابل مغزاها ودلالتها الوجدانية فذكرنا - بين امور عديدة - منطقة السفينة في الاعظمية حيث كنا , ونحن صغار نذهب للعب في ساحة مرتفعة تطل على دجلة كنا نطلق عليها اسم ( امام بيت الوادي ) !! وحدثني عن بساتين العنب التي تملكها اسرته في الدورة ، وحدثته عن قريتنا ( ام عردة ) في منطقة المشخاب .. وكان الكثير من سوالفنا يتشح بالحنين والشوق كعادة معظم العراقيين البعيدين عن الوطن !
وقد وجدنا – صلحي الوادي وانا – صفات وخصائص واهتمامات مشتركة بيننا جذبتنا الى بعضنا وجعلت علاقتنا تتسم بمودة صادقة . وقد زعم الاخرون ان بيننا حتى تشابها في الملامح العامة وليس فقط بالسلوكيات المشتركة التي تعود حتما الى مزاجنا العراقي او ما نطلق عليه ( الذبة العراقية) !!
وكان من البديهي ان يقع اختياري على صلحي الوادي ليضع الموسيقى التصويرية لفيلمي الروائي الطويل الاول الذي اخرجته عام 1968 في دمشق بعنوان (الرجل 28126 ) المأخوذ عن قصة للكاتب سعيد حورانية احد رواد الاتجاه الواقعي في كتابة القصة العربية والذي توفي عام 1994 بسرطان الرئة .
شاركني سعيد حورانية كتابة السيناريو لذلك الفيلم الروائي الطويل عن قصته المبنية على حكاية واقعية لمجند جزائري يحمل الرقم العسكري 28126 اسمه محمد علي الصغير ياتي سوريا ضمن جيش الاحتلال الفرنسي فيتمرد عليه وينضم الى الثوار في الحسكة ويسلمهم الاسلحة الفرنسية التي بعهدته فيحتفي به الثوار ويقدرون موقفه الوطني العروبي ، ولكنهم ينسونه وحيدا وهم يواصلون مسيرتهم النضالية!
ويبقى الصغير في قرية راس العين يعمل في الفلاحة حتى يتوفاه الله بعد عشر سنوات , في الفترة التي تبدأ السلطات بالبحث عنه لا لمكافأته على فعله الوطني السابق وانما لمعاقبته لانه موجود بالبلاد منذ عشر سنوات بدون اذن اقامة !!

كان حماس صلحي الوادي لوضع الموسيقى التصويرة لفيلمي ( الرجل 28126) كبيرا ، فهي تجربة جديدة تتطلب منه وضع موسيقى موظفة لدعم البنية الدرامية للاحداث وتعزيز الحالات الوجدانية عند المتلقي .. وكان صبورا في الاستماع الى ملاحظاتي مستجيبا الى تلبية متطلبات العمل السينمائي الذي يفرض على المؤلف الموسيقى مراعاة الموقف المرئي على الشاشة وايقاع الاحداث وديناميكية الحركة وزمن المقطع الموسيقي الواحد الذي قد يتطلب الحساب بالثواني ، كل ذلك مع مراعاة عملية الابداع الموسيقي ووحدته في مجموع موسيقى الفيلم التي ينبغي ان تكون لها ركائز اساسية ( ثيمات ) تقوم عليها البنية الموسيقى لاي فيلم !
لقد كانت تجربة صلحي الوادي معي في وضع موسيقى ( الرجل 28126) مثمرة ومؤثرة ، وقد ظهرت ملامحها بوضوح على ما قام به فيما بعد من موسيقى تصويرية لعدد من الافلام الروائية العراقية من انتاج مؤسسة السينما ومن ذلك فيلم ( الحدود الملتهبة ) للمخرج صاحب حداد وفيلم ( الاسوار ) للمخرج محمد شكري جميل .


صلحي الوادي Opinions