غربال الذاكرة : محميد .. !
الذي يحتل ذاكرتي هذه المرة لا هو شاعر ولا مثقف ولا اديب ولا شخصية عامة ولا مشهور .. وهذه هي المرة الاولى التي يذكر اسمه فيها مطوعا في وسيلة اعلامية ، انه مجر رجل حقيقي عاش يوما ما على ضفاف الفرات ,,, وهو مشهور جدا في منطقته .. يذكره الناس ويسردون مآثرة بالرغم من مرور اكثر من ثلاثين سنة على وفاته !!محميد ، اسم نادر ، مصغر محمد ، رجل اسمر طويل ، سريع الحركة واسع الخطوات ، ملبيا للطلبات حتى قبل ان يلفظها من يريدها .. ولقد جئنا للدينا وكان محميد موجودا بهيئته تلك ، لم يتغير مظهره كثيرا .. دشداشة سمراء ويشماغ اصغر مما اعتاد الرجال ان يضعوه على رؤوسهم ، وعقال نحيف ، ومقوار ... يجب ان لا انسى مقوار محميد ، تلك العصا التي ينتهي طرفها بكتلة صلبة من القير !! ومما لا ينسى ايضا نعال محميد ، الذي تظهر اصابعه من فتحاته فكنا نستغرب لماذا يمتطيه ما دام نصف قدمه خارج النعال !!
ويبدو ان محميد نفسه كان يستغرب ذلك فهو غالبا ما يستغني عن النعال اذا كانت عنده مهمة عاجلة فيتركه ويمشي حافيا ، ومهمات محميد العاجلة كثيرة ، بل انه كان رجل المهمات العاجلة .. فما من احد يريد شيئا من سوق المشخاب بصورة عاجلة حتى يستنجد بمحميد .. الذي يلبي فورا ، فيخلع نعاله ويتركه في موضعه ثم يقطع الخمسة كيلومترات بين قريتنا وسوق المشخاب بسرعة عجيبة ويعود بالمطلوب مبتسما دائما .. وكانه لم يقطع سوى عشر خطوات !!
وبسرعة محميد يضرب المثل حتى يومنا هذا ، كان يتسابق مع الخيل ، وكان اسرع من السيارات التي تضطر الى السير ببطء بسبب وعورة الطريق وكثرة المطبات بينما هذه لا تعيق محميد .. وعندما يريد احدهم استعمال السيارة لجلب شيء من السوق كان يقال له ( خلي محميد يروح ، اسرع ) .. وكان الكثيرون يقولون ينبغي ان ينظم محميد للفرق الرياضية ويشترك في سباقات المشي والركض الكبرى !!
عرفنا محميد ونحن صغار من مكونات هذه الدنيا التي خلقنا فيها ، فكان جزء من حياتنا وبيئتنا، يهتم بنا ويرعانا ، ويلبي طلباتنا ، ويغطي على حمافاتنا امام ابائنا ، وينسب الى نفسه من نسببه من تخريب او ضرر ...
لا احد يعرف الاسم الثلاثي ولا حتى الثنائي لمحميد ... وهو لا يحمل اية اوراق ثبوتية ، ولا اتصور ان اسمه مدون في اية سجلات رسمية ..
ولم نعرف لمحميد بيتا او عائلة .. لم يكن له شيء يخصه سوى الملابس على جسده .. والمقوار وعلبة التبغ الصفيحية ... والنعال الكبير المغبر ... هذه هي املاك محميد .. هذه ثروته .. متعلقاته ..متاع دنياه .. وكان سعيدا بذلك .. اقصد انه كان سعيدا انه لا يملك غير ذلك من متاع الدنيا .. كان يقول هكذا اخف واسهل عندما مغادرة هذه الدنيا .. لن تتحسر على شيء تركته !! حكمة محميد ليس لها حدود !!
كان عالمه مضيف العائلة يعمل فيه بتحضير القهوة والشاي ويستقبل الضيوف ، ويوقد النار في ايام الشتاء الباردة ، وينظف المضيف ، وينام فيه
ولكنه كان يملك ما هو اكثر من ذلك .. اهم من ذلك .. صفاء الروح .. والطيبة .. وحب الناس ,, والبساطة .. بساطة الحياة .. وحب الحياة .. كان يشعر بقيمة الحياة ومتعتها اكثر من كل المحطين به ممن يملكون وممن لا يملكون ..
وكان يمتعه ان يدخل السرور على قلوب الاخرين .. يحكي لي اهلي انني وانا ابن سنتين اصبت بمرض كان يبكيني .. واكتشفوا انني اكف عن البكاء عندما اسمع خرير الماء .. فصار محميد يحملني على كتفه ويخوض بي في ماء الشط امام الدار .. وكنا في فصل الشتاء .. ويبقى محميد يسير في وسط النهر وهو يحملني غير مكترث ببرودة الماء !!! فقط كي اكف عن البكاء!! ويغني ...
كان لمحميد صوت جميل ومهارة في الغناء الريفي .. وقد حاول ان يعلمني ولكنني لم اهتم بذلك يومها .. واشعر الان بالحسرة لانني لم اتعلم منه هذا اللون الجميل من الغناء الاصيل .. وكان من عادات محميد الغريبة ان لا يغني الا اذا كان يجلس على حافة النهر او في زورق صغير يصطاد منه السمك !! وعندما يسألون محميد لماذا تغني على حافات المياه .. كان يقول كي تسمعني حورية الماء !! حتى صرنا – نحن الصفار - نعتقد ان هنالك حورية فعلا ستظهر له يوما من عمق الشط وتاخذه معها !!
ومحميد رجل ذكي .. حكيم ، قوي الملاحظة ، احكامه على الناس صائبة غالبا ربما لانها غير مغرضة !! وكان ، وهو الامي ، يحفظ شيئا من شعر المتنبي سمعه من عمي الذي كان يردد شعر المتنبي بمناسبة وبغير مناسبة !!
وكان احب بيت شعر يردده محميد للمتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام
وكأن محميد قد جعل هذا البيت شعاره في حياته فقد كان عفيفا ابيا مستغنيا عن مغريات الدنيا ، لا يذل نفسه بطلب او رجاء !! لا يهن نفسه لاحد !!
كان محميد مثقفا حكيما عنده خزين من معلومات ومعارف وقصص سمعها في جلسات خمسين سنة كانت تعقد في مضيفنا ليل نهار ، وهو يجلس عند الوجاغ (موقد نار على الارض لا تطفأ ناره تحيط به دلال القهوة والشاي ) يستمع الى احاديث القوم ولا يشترك بها .. وكان ضيوف تلك الجلسات من مختلف طبقات المجتمع ، من الفلاحين المدمنين على الحضور وتناول القهوة والشاي في المضيف الى معلمي المدرسة القريبة الذين يجدون في المضيف ملاذهم الوحيد بعد انتهاء ساعات التدريس .. الى وجهاء القرى المجاورة .. ثم الضيوف الذين يتوافدون من المشخاب وما حولها .. ومن ابعد من ذلك على امتداد المدن حتى العاصمة بغداد .. وكان من المعتاد ان يزورنا مسؤولون كبار في الدولة بدرجة وزير او متصرف او مدير عام .. ولكن افضل من زيارات الرسميين كان محميد يميل الى سهرات رمضان الطويلة التي يحضر فيها شعراء ومثقفون وادباء يتبادلون الاحاديث الشيقة او يمارسون المطاردات الشعرية والتقفية .. وقد تمرس محميد في هذه المنافسات حتى صار يعرف الجواب قبل المتسابقين ويهمس به لنفسه !
في عاشوراء كان محميد يتحول الى شخص اخر .. يغيير دشداشته الى واحدة سوداء ، في الحقيقة هو لا يغير دشداشته بل يصبغها باللون الاسود وكذلك يصبغ اليشماغ اسود .. ويذهب الى مجالس "القراءة" ينصت الى سرد قصة فاجعة الحسين واهل بيته ..كان دائما يجلس في الصف الاول امام القارئ مباشرة ، ينظر الى الامام لا ترمش له عين ولا تنزل له دمعة حتى عند سرد المواقف المفجعة التي ينتحب بسببها اغلب من يجلسون حوله يبقى محميد بلا حراك ولا صوت .. وفي ليلة اليوم العاشر يتوجه محميد سيرا على الاقدام الى كربلاء فيسبق من خرجوا قبله بيومين او ثلاثة !! وقد يعود من الزيارة وبعضهم لم يصل بعد !!
في ايام الحزن تلك كانت تظهر على محميد ملامح حزن دفين غامض يبكيه في داخله ولا يبوح به .. ويبدو ان محميد كان يحمل في داخله سرا كبيرا ، خيبة كبيرة ـ اندحارا ... وقد سالته مرة عندما كبرنا واردت ان اغادر ديرتنا الى العالم الفسيح ، سألته عن نصيحة , فقال ( احذر الغدر .. دير بالك من الغدر !)
نظرت في عينيه فابتسم ... كانت نبرته تدل على انه رجل مغدور .. استغربت نصيحته تلك ..
وقد سألته مرارا عن مكنوناته فلم يبح لي بالكثير وكان يقول ( لا تفتح صناديق الماضي ، حلوها لن يعود ومرها يبقى على مرارته !)
كم كنت ولا زلت اتمنى ان اعرف ما نوع وحجم الغدر الذي تعرض له محميد ! ما هذه المرارة التي لا يريد تذكرها ؟؟! هذا ما لن اعرفه ابدا فقد غادرنا محميد قبل اكثر من ثلاثين سنة ولم تبق منه غير ذكراه الحاضرة !
وما زال الناس في تلك الديرة ، في قرية ام عردة وما جاورها على اطراف المشخاب يذكورون محميد ويضربون المثل بسوالف محميد .. وحتى الذين ولدوا بعده يتحدثون عنه وان لم يلتقوا به .. فمحميد احد مكوناتنا التراثية المدونة في عقول الناس !!
==================
(( هذه ليست قصة ادبية عن شخصية مختلقة_ هذه ذكريات عن رجل من لحم ودم ..عاش بيننا يوما ما ..ومازال في ذاكرتي !))