Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

غريب انت

غريب انت
قصة قصيرةــ بقلم : شذى توما مرقوس
" غريبٌ أنت وكأنكَ طائرة ورقية أخذتها الريح عالياً فأفلتَ الخيط من يدِ أمك... وطنك... هائماً أنت في فضاءات أوطانٍ أُخرى غير وطنك لاتملكُ أن تعودَ اليهِ.... كما لاتملُكُ أن تختارَ حياتك أو قرارات حياتك فمعَ وطنك كان أنتمائك.... في أوراقِ وطنكَ الضائعة ضاعَ الكثير... لاأرضَ تحتويكَ سوى وطنك.... ياأيُّها الغريب.... "
مع دموعهِ الجارية .... تسللت أصابِعَهُ بحركةً لاأرادية الى المذياع فأخرسَهُ وجعلَ المُذيع الذي هيَّجَ كُلَ أحزانَه ِ يبتَلِعُ لَسانَهُ الشرير وأطلَقَ ضحكةً أنتِصارطويلة أختلطت بدمُوعِهِ فبكى وضحِك في الوقت ذاتَهُ .... حتى شعِرَ بالأختناق أخيراً من شقتِهِ الصغيرة.... من وحدتِهِ.... من غُربَتِهِ...من نفسِهِ... من الهواء الذي يُحيط بهِ وبتنَفُسِهِ....
الحُزنُ يعتَصِرهُ.... يعتَصِرُ رُوحَهُ.... إِنّهُ يتوقُ للهرب.... يتُوقُ للأرتماء في أحضانِ وطنِهِ..... يتُوقُ لهواءِ وطنِهِ وسمائهِ.... يتوقُ لشوارع وطنِهِ ودروبهِ .... يتوقُ لجبالهِ وسهُولِهِ... يتوقُ لأهلِ وطنِهِ حتى الذين لايعرِفَهُم منهم.... يتُوقُ للُغتِهِ التي تلّقنها مُنذُ نعومةَ أظافِرِهِ..... بلْ إِنّهُ يتوقُ حتى لرؤية بعض المزابل التي كانت تُصادِفهُ أثناء تجوالهِ في شوارِعِ بلادِهِ والتي كانت حينها تُثيرُ أشمئزازه وأستنكاره... أن توقهُ هذا ليُضحِكهُ بقدِر ما يُحزِنهُ ... بلْ وحتى يدعَهُ يسخرُ من نفسه وأفكاره وأشتياقه وحالِهِ....
ومُنذُ أن وطأت قدماهُ هذهِ البلاد لازمتهُ الغُربة والوحدة وحاولَ دائماً وعلى مدى سنين غُربتَهُ الثلاثة عشر أن يقهر هذهِ الأحاسيس فأندمجَ في مُجتمعِهِ الجديد.... صاحبَ العديد من مواطِني هذا البلد.... عمِل في أماكن مُختلفة وبظُروفٍ مُختلِفة... صعبة ومُعتدِلة.... تعلمّ لُغة أقرانَهِ من هذا البلد لحد التُخمة ....أحبَّ وتزوجَ وصارَ أباً لثلاثةَ أبناء.... وبعدَ بضعةِ سنين أنهار زواجَهُ وغرِقَ في جلبة المحاكم وقوانينها.... وأنقلبت حياتهُ فوضى حتى كرِهها.... في وطنِهِ كان دائماً هُناك من يقِفُ الى جانبِهِ كُلّما واجه مُشكلةً ما.... كان هُناكَ شامتين أيضاً ....ولكن لم يكُنْ وحيداً أبداً كما حدثَ ويحدُثُ لهُ منذُ أن دخَلَ هذا البلد.... دائماً وحيد وغريب.... ورغمَ أن لديهِ العديد من الأصدقاء من أهل هذا البلد لكنّ أحداً لم يُفكر في مُساعدتِهِ أو مواساتهِ فالعبارة المُتداولة هُنا وعلى جميع المُستويات وفي مُختلف المجالات ولكُلِ الأعمار هي " هذهِ مُشكِلتك " وأن فكرَ أحدهم أيضاً في المُساعدة فلن يكون لهُ ذلك لأن القوانين هُنا تُطبِقُ على حياة الفرد من كل النواحي غير فاسحةً المجال لأحدٍ ما بمد يد العون الى أخر.... وبدايةً حين وصلَ هُنا ... لهذا البلد.... ضايقَهُ طباعَ أَهلِها.... ثُمَّ تزايدَ هذا الشعور وأتسعَ وعلا بمرورِ الأيام وبزيادة الأحتكاك حتى أصبحَ كُرهاً.... لم يستطعْ أن يُخفي مُقتَهُ لكلِ ما شاهدهُ من طِباعِهم وأسلوب حياتهم المبني على الوحدة .... الوحدة الخالصة.... وفي مُجتمعاتٍ كهذهِ تعتمد الوحدة من منطلق ومبدأ أحترام حرية الأخر وعدم التدخل المُطلق في حياتهِ يتعلم الفرد كيف يكون وحيداً وكيف يُهمِلُ حياة الأخرين كما أهمل الأخرون حياته.....لقد كرِه غربتهُ فيهم..... وكانت غربتهُ خطيئتهُ وليست خطيئتهُم.... لكنْ غربتهُ تمثلت فيهِم...أن أصواتهُم ووجوههُم وتصرفاتهُم تؤكِدُ لهُ غُربَتَهُ... كرِه غُربتَهُ هذِهِ في أصواتهم ووجوههِم وتصرُفاتهِم وهو يُدرِكُ أيضاً أنّهُ في النهاية ليس بأفضل منهُم فهُم بشرٌ مثلهُ تماماً وأن أختلفت طرقهُم عنهُ في التفاعُل مع مُجريات الحياة أو أختلفَ منحى تفكيرهُم عنهُ..... وأنّهُ أيضاً عُرضةً مثلهُم تماماً ليكرهوا فيهِ أختلافهُ عنهُم بكُلِ مناحيهِ إَنّهُ يُدرِكُ كل هذا ... وهو لايدعي حقاً في كُلِ ما يُعانيهِ ..... لكنْ غُربَتَهُ قتلتُهُ ومزقتهُ......
أحسَّ بالأختناق أكثر... هربَ من شقتِهِ الى سيارتهِ.... ضاقت بهِ سيارته ... فهرب الى الطريق عدوّاً حتى أخَذَ يلهث.... مرّ بهِ شابين لاطفَهُ أحدهُما بكلمتين مُتداولتين بين أبناء هذا البلد لملاطفة الآخرين فتزايدَ أحساسهُ بالأختناق وحاولَ أن يصّمَ أُذُنيهِ عن سماعِ هذهِ اللُغة ..... فأنطلقَ عائداً بسُرعة الريح الى سيارتهِ ..... أستقلها وأنطلقَ بسُرعةً محظورة.... كيفَ لهُ أن لا يسمع رنين هذهِ اللغة في أُذُنيهِ أو أن لايرى هذهِ الوجوه التي كانت دائماً غريبةً عنهُ ..... وأختناقهُ صورّ لهُ حاجتهُ المُلّحة لفضاءٍ مُتسعٍ كبير مفتوح يُخالِفُ صورة الشقق التي تُشبِهُ عُلبَ السردين أو سجُون بطراز أخر فيها نُزلائها أقامُوا بمُطلقِ أرادتهم وأختيارهم..... ففعلَ كما كان يفعل كُلّما ضاقت بهِ دنياهُ وأحاسيسه هنا وتوجه الى قريةٍ بعيدة ومعزولة لا أصواتَ فيها بلْ ما أشبهها بقرية أموات حيثُ الصمت مُخيمٌ عليها تماماً كالمقابر.... غادرَ سيارتهُ بعدَ أن أوقفها وحسب قوانين هذا البلد في المكان المخصص لوقوف السيارات.... فالقوانين هنا تنظِمُ كل شئ
حتى عدد مرات التنفس في الثانية للفرد الواحد... كُل شئ مُنظم ومُرتب في هذا البلد بالقوانين لدرجة الراحة .... الراحة المُقلِقة جداً المُفعمة بالكوابيس
لم يتبقى هنا سوى الخطوة التالية والأخيرة في أن يتحول الأنسان نفسهُ الى آلة منظُومةُ تشغيلها مُرتبطة تلقائياً بلائحات القوانين المُفصلة والتفصيلية .... وتعملُ أزرار التحكم فيها بأرادة القوانين .... بلاد الحريات المُحاصرة والمحروسة بكل أنواع القوانين ... لقد كثُر الحديثُ في هذهِ الفترة بين السُكان عن زحف ٍ مُرتقب للقوانين نحو غُرف النوم الخاصة لتنظيم مُجريات الأمور فيها ...... هذا ما يُثرثرُ بهِ الكثيرون استياءاً ......
..... غابَ في الحقُول الواسعة المُمتدة باديةً بلا نهاية.... هذهِ الحقُول وذاكَ الجبل القابع هُناك يُعيدانِ لهُ بعضاً من صورِ وطنهِ المفقُودة ..... هُنا لنْ تُلاحِقَه الوجوه ولا الأصوات... ولا هذهِ اللُغة .... هُنا لنْ ينظرَ سياراتهم بألوانها الطبيعية أو الصارخة أحياناً والمُضحكة أحياناً أُخرى.... هُنا لنْ يكونَ لهُم مكان معهُ.... هُنا بأمكانهِ أن يصرُخ ويصيح حتى يعبُر صوتَهُ هذهِ الحقُول والأراضي الشاسعة فيصل الى وطنِهِ... وطنه الذي ترك فيهِ سنينه الجميلة كما ترك فيهِ سنِينَه المريرة.... المُرّة... وطنه الذي أتخَمَتهُ دائماً السلبيات الكثيرة الاأنّهُ لم يخلو من الأيجابيات
الكثيرة أيضاً....
واليوم يُنادي وطنه من هُنا ... من هذا البلد المُتخم بالسلبيات الكثيرة الا أنّهُ كوطنه فيهِ الكثير من الأيجابيات ... لكنّهُ لنْ يستطيع أبداً أن يغفر لهذا البلد ما رماهُ بهِ من الوحدة كُلَ هذهِ السنين حيثُ نمط الحياة الأجتماعية لهذا البلد تفرضُ على الفرد فيها الوحدة....
..... لطالما فكرَّ بالعودة الى وطنه لكن الأيام والسنين سرقتهُ والغُربة أكلتهُ ومزقتهُ فلم يعُدْ مُمكناً لهُ العيش في وطنه كما لم يعُدْ بأمكانهِ الأستمرار هُنا.... وأن غادرها الى بلادٍ أُخرى فعليهِ أن يبدأ الطريق مرةً أُخرى من جديد والمعاناة ذاتها ثانيةً.... سرقَتهُ هذهَ الأفكار رغم علمهِ المُؤكد بأستحالة الرجوع الى وطنهِ وهو المُبعد عنه ..... تكومت وتراكمت في صدرهِ سنين الألم والمُعاناة كُلها جبالاً ودارت زلزالاً
أهتّزت لهُ روحهُ المُثقلة بالغُربة ثُمّ بدنَهُ المُتعب فجاء
صوتُ الزلزال في شفتيهِ صرخةً عالية كانت نُواحاً ثُمّ مع الذئبِ عواءاً ..... ............................
بقلم : شذى توما مرقوس
2003


ملاحظة : عواء الذئب هنا هو رمز وتعبير عن الألم الذي لايحتملهُ الأنسان لما فيهِ من قسوة ومعاناة فيتحول هذا الألم في حنجرة من يعانيهِ الى بكاء وصراخ وعويل يُحاكي عواء الذئب بكل ما فيهِ من لوعة وألم ساحق


مُلاحظة ثانية :ــ * غريبٌ أنت * هي قصة قصيرة من ضمن مجموعتي القصصية الغير منشورة بعنوان ـــ حكايات جدُّ صغيرة .... كبيرة ــــ عن الغربة Opinions