فاروق يستعيد اعتباره التاريخي ! فمتى يستعيده فيصل الثاني ؟؟
اكتب مقالتي الثالثة عن مسلسل الملك فاروق ، كي اسجّل عجز المؤرخين لاكثر من خمسين سنة اعادة الاعتبار لتاريخ العهد الملكي بمصر ، ليس ما اصاب تاريخ فاروق نفسه ، بل تشويه تاريخ اسرة محمد علي باشا .. واذا كان الجدل لم يزل قائما بين المؤرخين حول ايجابيات تلك الاسرة وسلبياتها.. فليس من المعقول ان يبقى التشويه والتزوير في الصحف والراديو وحتى في الافلام والمسرحيات الكوميدية والمسلسلات التلفزيونية عن خديوات مصر وملوكها .. ولم يأت التشويه من مصر والعرب فقط ، بل وجدت ان الانكليز وغيرهم قد ساهموا في بثّ الدعايات والاشاعات عن الملك فاروق بالذات .. وقد حدثني اقرب الناس اليه في منفاه انه مات كمدا وحسرة بسبب ذلك ، بل ويقال انه موته يلفه الغموض ورحل ولما يبلغ الخامسة والاربعين من العمر !لقد تابعت ردود الفعل المتنوعة على عرض المسلسل ، فكان هناك من تعاطف مع هذه " الرواية التاريخية " واستعاد ذاكرة الماضي على العهد الملكي ليقول كلمته التي غابت لأكثر من خمسين سنة وقد ترّبى اكثر من جيلين اثنين على اوهام لا اساس لها من الصحة ، ولما تابع تاريخه مصّورا بدأ يتساءل عن كل صغيرة وكبيرة .. في حين كان هناك من اغتاظ وزمجر وسبّ وشتم في صحف سياسية ناصرية متهما مؤلفة النص والخبير التاريخي بتهم شتى ، كما وكانت الانتقادات صارخة الى درجة الادانة وعودة الاسلوب القديم في الردح والتهويل من احداث ومواقف معينة على حساب تغييب الحقائق .. وعليه ، فانني اعد هذا " المسلسل" التاريخي هو الوحيد الذي اثار عاصفة من الجدل بين من يريد معرفة الحقائق واحياء الذاكرة التاريخية وبين من يريد البقاء في دوامة الشعارات الرنانة .
نعم ، لقد تربى اكثر من جيل على افتراءات واكاذيب صحفية وتزويرات اعلامية رسمية واذا عجز المؤرخون عن جلاء الحقيقة منذ العام 1952 ، فان الدراما التلفزيونية نجحت اليوم ان تمسح بسرعة خلال شهر واحد تعتيما ظالما لتاريخ خاطئ اشاعته من دون امانة ولا ذمة ولا ضمير مجموعة من ساسة ووعاظ وصحفيين مخضرمين. .. لن اقول أن صورة فاروق كانت زاهية يجسدها ملك عادل وقائد فذ وزعيم حقيقي .. بل اقول ان عهده وشخصه نالا تشويها وتزويرا فاقا كل التصورات .. ويكفي القول أنه كاكبر رمز في البلاد كان يطأطئ راسه امام الدستور وامام ارادة الشعب .. عكس ما فعله زعماء ثوريون قوميون واشتراكيون احتكروا صنع القرار وداسوا كل القيم .ومن المحزن ان يتحّمل الملك فاروق فقط اوزار كل السياسة المصرية ومحترفيها الذين تعاملوا مع الانكليز علنا ..
لقد نجحت الدراما المصورة والسيمافور التلفزيوني في تغيير بعض ما علق في عقول وافئدة الملايين من الناس على امتداد نصف قرن ، وعرض بعض حقائق " العهد المباد " ورفع بعض السيئات التي الصقت به.. علما بأن ثمة مؤرخين مصريين انصفوا تاريخ الخديوي اسماعيل والملكين فؤاد وفاروق بالذات . ان اشاعة العهر التاريخي لم يقف عند فاروق ، واذا كانت لفاروق وآبائه مثالب سياسية وشخصية ، فهذا لا يمحي ابدا صورة مصر النهضوية وما ابدعته ثقافيا وما انجزته حضاريا منذ منتصف القرن 19 ، فضلا عن ادوارها الحية في المنطقة .. واذا كان الاقطاع في مصر ينهش بالفلاحين وكان للباشوات ملكياتهم الكبرى ، فليس اوضاع الفلاحين ولا الاقطاع وشيوخ العشائر والمقاطعجية في بيئات اخرى غير مصر كان احسن حالا . لقد شهدت مصر انطلاقة نهضوية متميزة وتفوقا كبيرا على عهد هذه الاسرة ، وخصوصا في تطور رأس المال والمعرفة والخدمات والعمارة والفنون والاداب واساليب الحياة الجديدة .
نعم ، تماما ان مسلسل الملك فاروق قد ازعج الاخوة الناصريين كثيرا ، اذ يعتبرونه مشروع ادانة غير مباشرة للمرحلة الناصرية وأشّر علامات استفهام كبيرة على انقلاب ضباط 23 يوليو / يوليو 1952 ، فضلا عن ان نظام الحكم الحالي الذي لم يزل يعتبر ثورة يوليو عيدا وطنيا ومنعطفا تاريخيا في التحولات من حكم اتهم بكل الادانات الى حكم وصف باعظم الاوصاف ! كان مسلسل الملك فاروق متعاطف جدا مع البطل باظهاره رجلا وطنيا يعشق مصر حتى العظم ، كما واظهرته هذه الدراما رجلا يكره الانكليز ويمقتهم ناهيكم عن خروجه من قمقم التعتيم الاعلامي كونه ( الملك الفاسد ) ليكون ملكا دستوريا بل بطلا وطنيا ، وكأنه يعيش الحاضر ، اذ كان ينتظر ظهوره يوميا الملايين ، فسيطر على قلوب الناس اكثر بكثير من زعماء يحكمون اليوم بلا ارادة وبلا كاريزما وبلا لهفة شارع ..
برز فاروق بشخصية ربما لا تكون حقيقية ابدا ، ولكنها صورة طبق الوثائق التاريخية .. بدا انسانا له همومه وعاطفته التي تطغى على عقله .. توضحت اسباب هزاته النفسية .. بدت واضحة الدسائس قس قصره .. بدا يحب شعبه ولا يخشى منه وكان شعبه متعلق به جدا ، ولم يجرأ احد التعّرض له .. كان شجاعا في قيادته لسيارته وسط الناس على غرار ملك العراق غازي الاول الذي عاصره ، وكان ان تعّرض الاثنان لحادثين متشابهين باصطدام سيارتيهما .. وخرج فاروق باقل اذى ، ولكن غازي قتل ، وقد اتهم الانكليز بتدبير الحادثين ..
لم يكن الجيش ضد فاروق ابدا ، اذ كان يعتبره الرمز الوطني حتى ساعات الانقلاب . لقد بكى الناس فاروقا وهو يبحر نحو المجهول كما تألم الناس علي تراجيديته ، وبقي يعيش في المنفى على معونات كانت تقدمها له المملكة العربية السعودية ـ كما افصحت عن ذلك ابنته في مقابلة تلفزيونية معها مؤخرا ـ وكانت له معاناته مع اسرته ، فلقد تأكد انه خرج بلا مال ولا كنوز لا كما اشيع عنه .. وقد تعاطف اناس آخرون عند وفاته عندما منع العمل بوصيته في ان يدفن بمسجد الرفاعي في ارض مصر ، اذ لم يوافق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على ذلك حتى مجيئ السادات الذي استعطفته بناته بتحقيق وصيته ، فوافق على نقل رفاته واعيد دفن فاروق في مصر .. وبقي الناس حتى يومنا هذا لا تعرف حقيقة فاروق ..
لقد لاحظنا ان المسلسل قد اطال كثيرا في الفترة الاولى من عهد فاروق والتي كان خلالها رمزا وطنيا لمصر ، ولكن ما انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تغّير فاروق مع تغّير الظروف التي من حوله وغياب اولئك الذين كان يعتمد عليهم في السراء والضراء .. بدا انسانا مزاجيا عصبي الطبع ولا يكترث للاقاويل .. ان ست سنوات من حكمه الاخير قد اختزلت في المسلسل اختزالا لا معنى له الا التغطية على عيوب فاروق .. ومع كل هذا وذاك فان فاروقا باختصار : ملك قاد مصر في اصعب مراحلها وهو شاب بين دهاقنة سياسة وتحت هيمنة محتل .. كان غير منضبط في بعض تصرفاته الشخصية لكنه لم يكن قاتلا ولا دكتاتورا ولا شريرا .. كان اوربيا في تصرفاته ولكنه يعشق مصر .. لقد غاب عن التاريخ لاكثر من نصف قرن حتى بدأ الوعي به ، ولكن لم نكن نعلم ان شاشة التلفزيون ستعيد اليه اعتباره بدل شعب مصر وحكومتها !
واخيرا ، لابد للعراقيين ان يعيدوا الاعتبار للعهد الملكي في العراق اذ ستمر في شهر تموز / يوليو القادم 2008 ذكرى نصف قرن على زوال ذلك العهد .. وعلى العراقيين ان يستعيدوا الذاكرة التاريخية للملك فيصل الثاني ( رحمه الله ) ، فقد كان ملكا شابا مهذبا ورحيما ، عاش يتيما ومظلوما وكئيبا .. واذا كان الملك فاروق له نزواته واخطائه وقد غادر بلاده وملكه بواحد وعشرين اطلاقة مدفع وسلام ملكي .. فان فيصلا الثاني كان بريئا ولا يستحق ابدا تلك النهاية المفجعة على ايدي العراقيين وقد دفن من دون ان يصّلي عليه أحد .. فهل ننصفه نحن العراقيين بعد خمسين سنة على استشهاده ونقف للصلاة والترحم عليه ؟