فتح المقابر الجماعية في العراق: انتقائية تخضع لحسابات سياسية
المصدر: العربي الجديد
لا تُقدم السلطات العراقية رقماً محدداً لعدد المقابر الجماعية التي خلفتها سنوات العنف والإرهاب على البلاد. لكن بالعادة يتفق مسؤولون عراقيون على أن المُكتشف منها أقل من الواقع، خاصة مع استمرار عدم معرفة مصير أكثر من 26 ألف عراقي تم اختطافهم بين 2014 و2016، خلال رحلة نزوحهم من شمال وغربي البلاد، على يد مليشيات مسلحة.
وتشترك عدة جهات عراقية رسمية في ملف فتح المقابر الجماعية التي يتم العثور عليها بين وقت وآخر في مناطق واسعة من البلاد، أبرزها "مؤسسة الشهداء" ووزارتا الصحة والداخلية ومجلس القضاء، من خلال لجنة مشتركة بين هذه الجهات، تتولى عملية فتح المقابر واستخراج الرفات والتحقق من هويات القتلى، وكذلك العمل على معرفة الجهة المتورطة بالجريمة.
تعامل سياسي مع ملف المقابر الجماعية
وتواجه السلطات العراقية اتهامات عديدة في موضوع المقابر الجماعية، أبرزها التعامل سياسياً مع الملف، حيث تماطل منذ أكثر من 4 سنوات بفتح مقابر جماعية عُثر عليها في مناطق لم يصل إليها تنظيم "داعش"، وكانت مسرحاً نشطاً لفصائل مسلحة مختلفة، توجه لها تهم التورط بعمليات خطف المدنيين النازحين في غرب وشمال العراق.
وتثير هذه المماطلات غضب الشارع، نظراً لأن مقابر أخرى في مواقع ثانية لا تتأخر عملية فتحها أكثر من شهرين أو ثلاثة، في أبعد الأحوال.
ومنذ العام 2019 تم رصد أكثر من 10 مقابر، بينها ثلاث في شرق الأنبار، في منطقة كانت خاضعة لسيطرة فصائل مسلحة، وفيها حاجز تفتيش لها إبان نزوح السكان من الأنبار، وتعرف بمنطقة الـ"خمس بيوت"، إلى جانب موقعين في الإسحاقي، وواحد في جزيرة سامراء ضمن محافظة صلاح الدين، وموقع في صدر اليوسفية، جنوبي العاصمة بغداد، ومقبرة في المحاويل بمحافظة بابل.
إلا أن جميع تلك المواقع لم يتم فتحها، رغم وضوح العظام البشرية المتناثرة على سطح الأرض. وتمنع قوات الأمن الاقتراب منها، أو تصويرها. كما مُنع فلاحون منذ سنوات من الدخول وزراعة مناطق واسعة جنوبي تكريت للسبب ذاته.
في المقابل، تستعجل السلطات الإعلان عن المقابر الأخرى التي يعثر عليها في مواقع احتلها تنظيم "داعش"، وتستدعي الصحافيين إليها، وتبدأ بفتحها وأخذ عينات من الحمض النووي (دي أن ايه) من رفات الضحايا.
وتُتهم مليشيات عديدة بالوقوف وراء العديد من تلك المقابر، بالطريقة ذاتها التي ارتكب "داعش" جرائمه، بإعدام الضحايا ودفنهم في مكان واحد. لكن سرعان ما يتم تمييع هذا الأمر بلجان تحقيقية لا تسفر عن أي نتائج، بل تذهب بعض المليشيات المتهمة إلى رمي التهمة على "داعش"، رغم بُعد المكان عن خريطة وجود التنظيم سابقاً.
وخلال العام الماضي، تم فتح عدة مقابر جماعية لضحايا "داعش"، أبرزها في سنجار وكركوك، في حين تم تجاهل المقابر المعروفة التي عُثر عليها في مناطق الفصائل والمليشيات. كما لم تسمح السلطات بالاقتراب من هذه المقابر بعد افتضاح أمرها، كما حدث مع مقابر شرق الفلوجة بالأنبار، وأخرى في الإسحاقي وجزيرة سامراء وغيرها من المناطق في صلاح الدين.
وأقر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بأن المختطفين "مغدورون"، في إشارة إلى تصفيتهم بعد اختطافهم، متحدثاً عن ضرورة تعويض ذويهم، لكنه لم يشر إلى مكان جثثهم أو الجهة التي قامت بقتلهم. بعدها صدرت دعوات حقوقية وسياسية، ونظم ذوو الضحايا وقفات تطالب بالكشف عن مكان القتلى، لكن لم يطرأ أي جديد حيال الملف.
ارتباط المقابر بقضية المغيبين
مسؤول عراقي بارز في بغداد، تحدث لـ"العربي الجديد" شريطة عدم الكشف عن اسمه، عن ارتباط ملف المقابر الجماعية المُؤجل فتحها بقضية المغيبين من سكان المحافظات الذين نزحوا وتم اختطافهم من قبل الفصائل المسلحة.
وقال إن "الملف سياسي، ويرتبط بالنهاية في كيفية تسوية وضع من تم تغييبه واختفى أثره. وهناك توجه لاعتبارهم شهداء ضمن قانون ضحايا الإرهاب لعام 2008، وتعويض ذويهم"، في إشارة إلى أن تلك المقابر لضحايا اختطفوا من قبل المليشيات.
وأكد مراقبون وسياسيون أن المقابر التي عُثر عليها في مناطق سيطرة المليشيات، سواء أثناء أو بعد عمليات تحرير المدن من سيطرة "داعش"، تقف أمام محاولات إخفاء، ومنع الوصول لحقيقة الجناة كونها "انتقامية" تتورط بها مليشيات تنضوي ضمن "الحشد الشعبي".
انتقائية في الملف الإنساني
وقال النائب رعد الدهلكي إن "الملف الإنساني داخل أيضاً في المحاصصة والانتقائية السياسية. ومثال على ذلك الانتهاكات في المناطق المحررة على أيدي المليشيات التي تملك سلاح الدولة، إضافة إلى المقابر الجماعية في مناطق سيطرة ونفوذ السلاح المنفلت".
وأضاف الدهلكي، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أن "المقابر الجماعية لقتلى تنظيم داعش، التي عثرت عليها القوات العراقية، تغطى إعلامياً، لكن لم يتحدث أحد عن جرائم ارتكبت بحق آلاف العراقيين في مناطق متفرقة على أيدي المليشيات، ومنها حوادث تغييب وقتل المختطفين".
ووصف تأخير فتح المقابر في مناطق سيطرة ونفوذ الجماعات والفصائل المسلحة بأنه "تمييز في الجرائم، يُشير إلى الطائفية والحسابات السياسية لدى الأحزاب والمليشيات التي تتجاوز حد الانتهاكات، وصولاً إلى المجازر والمقابر الجماعية".
رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي أرشد الصالحي علق، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، على قضية المقابر الجماعية التي لم تُفتح منذ سنوات، قائلاً إن "البرلمان يرفض التمييز في هذا الملف الكارثي، ولا بد أن يحاسب القانون المتورطين بهذه الجرائم أياً كانوا".
وأضاف الصالحي أن "العراق شهد مآسي كبرى، ومنها المقابر الجماعية التي خلفتها المشاكل الأمنية وسيطرة الإرهابيين على مناطق واسعة من العراق، سواء تنظيم داعش، أو الجماعات المسلحة الأخرى. وبالتالي فإن المقابر التي تظهر في مناطق سيطرة هؤلاء المسلحين تستدعي فتح تحقيق فيها من دون تمييز، لأنها تعتبر انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وتندرج ضمن جرائم الحرب".
واعتذر مسؤولون في "مؤسسة الشهداء" عن التعليق على الموضوع، خلال تواصل "العربي الجديد" مع عدد منهم، لكنّ موظفاً في المؤسسة ببغداد، يدعى محمد العبادي، قال، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك ترتيباً زمنياً لفتح المقابر بالنسبة لهم، كون عددها غير قليل، ويجب أن تتوفر إجراءات كثيرة، من بينها عينات الحمض النووي (دي أن ايه)، وموافقات وزارة الداخلية".
وعما إذا كان الترتيب الزمني يستغرق 4 سنوات كما الحال في مقابر تنتظر فتحها منذ 2019، قال إن "إدارات بعض المحافظات تتحمل مسؤولية أكثر منا"، من دون الخوض في تفاصيل أخرى.
منع المليشيات تسريب معلومات عن المقابر
من جهة أخرى، أكد ناشط، وأحد وجهاء العشائر في مدينة تكريت بمحافظة صلاح الدين، رفضا الكشف عن اسميهما، أن هناك مقابر جماعية يتم اكتشافها بين فترة وأخرى، كان آخرها في نهاية العام الماضي، وضمت جثث 15 شاباً من المدينة، وتعرفت إليهم السلطات المحلية، جميعهم أعدموا بطريقة واحدة، وهي رصاصات في الرأس، لكن المليشيات التي تسيطر على تلك المناطق، وتحديداً قرى جنوب تكريت، تمنع تسرب أي معلومات عن هذه المقابر، وأن يتم تسليط الضوء عليها.
وأكد الناشط أن "المعلومات التي يملكها الأهالي هي ذاتها التي تسمح بتوفيرها المليشيات، وتحديداً عصائب أهل الحق التي تملك مقراً في تكريت، بعنوان قيادة عمليات الحشد الشعبي، وتسيطر على مساحات واسعة في تلك المناطق بحجة تطهيرها من تنظيم داعش".
وأشار إلى أن "المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة لا يُعرف عنها أي شيء، بما في ذلك ما يجري داخلها، لأنها محاطة بأطواق أمنية، وأهلها يخشون الحديث، ناهيك عن كون معظم مقرات هذه الفصائل تقع في مناطق هجّر أهلها منها، وهي حالياً منزوعة السكان".
من جانبه، رأى الخبير والباحث السياسي أحمد الأبيض أن السبب في ذلك يعود إلى "ضغوط المليشيات والقوى السياسية لوقف المطالبات بالكشف عن المقابر الجماعية".
وقال، لـ"العربي الجديد"، إن "الأطراف المتورطة بجزء من تلك المقابر تضغط أيضاً على القانونيين والنشطاء والأحزاب السياسية وجهات قضائية، والمؤسسات الإعلامية أيضاً، بالتالي فإن التركيز على جرائم داعش بات هو الأبرز، دون الالتفات إلى الجرائم التي ترتكبها المليشيات".
وأشار إلى أن "هذه الظاهرة ستستمر طالما أن الأحزاب تختار رئيس الحكومة بطريقة الاتفاق والتحاصص، لكن يبقى كشف هذه الجرائم من واجب الصحافة والمنظمات والمراصد التي تعمل خارج العراق".