فخريه بائعة الجبن

رفضت الآنسة ( فخريه) بائعة الجبن في الكرخ وسط العاصمة، رفضا قاطعا الطلب الذي تقدم به جارها (سلمان) لخطبتها. صرح بذلك الحاج (عبد الله النجم) كبير الباعة عقب لقاء أجراه مع فخريه على انفراد، نقل خلاله رغبة سلمان بالزواج منها قائلا: (إنها ترفضه لكونه يشرب العَرَق..وانه إذا ما أراد من فخريه أن تكون له زوجة عليه الإقلاع عن تناوله).
والعَرَق صنف من الخمر يجري تصنيعه من التمر، له رائحة قوية تظل في المكان حتى بعد الانتهاء من تناوله لفترة طويلة كما تظل الرائحة عالقة في الفم لفترة أطول، له مفعول قوي لاحتوائه على نسبة عالية من الكحول، رخيص الثمن قياسا إلى الأصناف الأخرى، ما دعا الفقراء إلى تناوله، حتى صار احد المؤشرات الطبقية الدالة على كون صاحبة من ذوي الدخل القليل.
وفخريه في الثامنة والثلاثين من عمرها، متوسطة الجمال، تبدأ عملها منذ الصباح حتى بعد منتصف النهار بقليل، تحب (الموطا) وتكره الاستماع إلى نشرات الأخبار.
و سلمان يقارب عمرها، وهو من أشهر صباغي الدور دون منافس، ويتزعم كتلة من الأصدقاء غالبية أعضاءها يشربون العَرَق.
أثار الشرط الذي وضعته فخريه للزواج انقساما في الآراء، فبينما استقبله المتدينون بالإعجاب والتقدير، راحت السيدة(زهره) صانعة الحصران تقلل من أهميته وتقول: -(إن رَجلي يشرب العرق بدون مزّه ومع هذا أنا زوجته منذ عشرين سنة) وزوجها (حميد النداف) وقف أمام أقرانه مزهوا ليقول:- (عيب على من يأكل المزّه...المزّه للنسوان)، و(المزّه) هي المقبلات التي تؤكل أثناء الشرب.
العَرقيون البغداديون هم أول من أطلقوا على العَرَق تسمية (حليب سباع) والسباع هي الأسود في مسعى منهم لرفع شأنه وشأن من يشربه حتى انتشرت التسمية إلى كافة مناطق البلاد الأخرى، إلا أن ذلك لا يمنع الصبية يوما من الجري وراء السكران يهتفون وراءه (أبو العرق...أبو العرق) وأحيانا يقذفوه بالحجارة وفي سوق البياع يرجم بالطماطة، ولا بد لفخريه أن رأت هذه المشاهد ما دعاها إلى اتخاذ موقفها المتشدد إزاء العَرَق.
ظل سلمان في حيرة من أمره، فهو من جهة لا يريد إطلاق وعد يخشى أن لا يتحقق، وهو المعروف بالوفاء لوعوده، و من جهة أخرى فأن فخريه بحسب ظنه امرأة تستحق التضحية.
سجل الكرخ ارتفاعا ملحوظا في مبيعات فخريه من الجبن، وراح مؤشر الأرباح يميل إلى أقصى درجاته بعد أن هب المتدينون يغرفون من جبنتها، وهذا (الملا غفوري) راح أمام حشد من المصلين يشيد بجبنة فخريه ويدعو الآخرين إلى شرائها، وهذا الملا كان قد دخل في شجار عنيف مع (حمودي ابن طوبه) الرجل الثاني في كتلة سلمان استخدمت فيه الأيدي، جاء بعد أن قال عنه حمودي:-( انه يضرب زوجته الثانية لأنها ترفض أن تسلم له مؤخرتها)، رد الملا على ذلك بالقول:- ( لا عتب على حمودي طالما يشرب العرق بالقندره) .
أعلن سلمان عن موافقته للشرط الذي تمسكت به فخريه بعد اجتماع القمة الذي دعا له ضم بالإضافة إليه كل من الحاج (عبد الله النجم) و(فخريه)، استغرق أكثر من ساعتين، تعهد أمامها بالامتناع عن تناول العرق. رافضا في الوقت نفسه طلبا تقدمت به فخرية تدعوه للذهاب إلى مرقد الشيخ معروف الكرخي مع جماعة تختارهم كي يقسم هناك على أن لا يتراجع عن وعده في المستقبل معتبرا الطلب مؤشرا على عدم الثقة.
والشيخ معروف فيروز الكرخي عراقي ابن عراقي، أصله مسيحي من أهالي الكوفة، درس على يد الأمام علي بن موسى الرضا وأدرك آراء الإمام احمد بن حنبل، وكان من الداعين إلى التعايش الودي بين الجميع، ومرة كان جالسا على ضفة نهر دجلة،، مر زورق من أمامه يقل مجموعة من الشباب يشربون الخمر، قال له أصحابه ادع عليهم، رفع يده إلى السماء وقال:الهي أسالك أن تفرحهم بالآخرة كما أفرحتهم بالدنيا، رد عليه أصحابه:-إنما قلنا لك ادع عليهم ولم نقل ادع لهم، فقال:إذا أفرحهم بالآخرة فيعني انه تاب عليهم وهذا لن يضركم بشيء.
والملفت أن الشيخ توفي في اليوم الذي توفي فيه الشاعر ابو نؤاس، سار خلف جنازته قرابة ثلاثمائة ألف رجل بينما سار خلف ابي نؤاس رجل واحد فلما دفن معروف، قال قائل: أليس جمعنا وأبا نواس الإسلام! ودعا الناس فصلوا عليه .