في أي ظرف تصبح الديمقراطية ممكنة؟
ونحن نعيش الذكرى الخامسة لسقوط النظام السابق لا نريد أن نتحدث عن لحظات سقوط ديكتاتورية العراق في التاسع من نيسان 2003، ولا نريد أن نقلب المواجع ونستذكر آلام شرائح اجتماعية واسعة إبان حكم النظام المطاح به، ولكن نريد أن نتحدث عن أدوات انبلاج قيم ومفاهيم مدنية طالما تمناها العراقيون جميعا كالعدالة الاجتماعية والحرية السياسية واحترام الكرامة الإنسانية في ظل بوادر نظام مفترض الديمقراطية.فالانتقال من سلطة مستبدة إلى سلطة "ديمقراطية" وهي ما نسميها بـ"لحظات الانتقال الايجابي" يحتاج إلى أدوات ووسائل ديمقراطية أيضا، ولا يمكن الركون إلى القول إن القوة بكل أشكالها المتاحة يمكن أن تحقق الديمقراطية بعيدا عن قوانين وقيم تسنها السلطة الديمقراطية وتلتزم بها قبل غيرها، وإلا يمكن أن تختفي عملية الانتقال السلمي وترجع على أعقابها وهي ما نسميها بـ" لحظات الانتقال السلبي" أي العودة مجددا إلى الدكتاتورية بأشخاصها وقياداتها ورموزها الأوائل أو بعضهم مع مستبدين جدد؛ لان استخدام القوة لاسيما القوة المسلحة ينتج بالضرورة تغليب قوى سياسية على أخرى إذا لم نحتكم إلى قوانين وقواعد وسنن ديمقراطية توافقية تضمن مصالح جميع الأحزاب السياسية وتضمن التزامهم في الوقت ذاته.
فمن أجل أن نعيش لحظة الانتقال الديمقراطي في بلادنا ونشعر بلذتها، ونتناسى الماضي، علينا والأحزاب السياسية أن نوفر أدوات الانتقال السلمية الايجابية عبر تحقيق شرطين أساسين وهما:
أ-تفكيك جهاز السلطة الاستبدادية القديم: فلسلطة المستبدة أجهزة قمعية واستبدادية وفيها قيادات خشنة ومتمردة على القيم الإنسانية إلا قيم طاعة السلطة المستبدة، وبقاء هذه الأجهزة سواء على شكل أجهزة سياسية كالحزب المستبد أو أجهزة أمنية أو استخباراتية، أو تدجين أو تطعيم الأجهزة الديمقراطية الجديدة بالقيادات القمعية مفترضة الولاء للسلطة المستبدة وقيادتها سيؤخر الانتقال السلمي ولحظة الانتقال، لان هؤلاء لن يحظوا في ظل النظام الديمقراطي بما كانوا يحظون به في ظل النظام الدكتاتوري.
ب- اختيار القوى السياسية الجديدة مؤسسات ديمقراطية كإطار تتمكن من خلاله أن تحقيق مصالحها، أي أن تخلق ظروف كفيلة بتحقيق مصالحها في الصراعات المستقبلية مع حلفائها الحاليين. حيث تصبح الديمقراطية ممكنة عندما تجد القوى السياسية مؤسسات كفيلة بان تقدم ضمانا معقولا بالا تتأثر مصالحها بصورة معكوسة تماما في غضون المنافسة الديمقراطية، حيث لا يمكن أن تكون الديمقراطية نتيجة مصالحة جوهرية بل قد تكون نتيجة مصالحة مؤسساتية.
ولا يكفي لكي نحظى بنشوة الانتقال الديمقراطي أن نقوم بتفكيك المؤسسات المستبدة وبناء مؤسسات ديمقراطية شكلية بل لابد من التوافق الضمني بين كل القوى السياسية على القبول بالحد الأدنى من المصالح، إذ تختلف الأمور في الأنظمة الاستبدادية عنها في الأنظمة الديمقراطية؛ فالنظام الدكتاتوري يستطيع أن يحقق كل مصالحه وأهدافه في ظل غياب تام لقوى المعارضة أو الشريكة وليس هناك حدود لتحقيق هذه المصالح.
أما في الديمقراطية فلا يمكن للأحزاب المشاركة في النظام الديمقراطي أن يقبلوا بالتهميش من قبل الشركاء الآخرين، كما لا يمكن لهم أن يحققوا كل مصالحهم ومنافعهم؛ وبالتالي لابد أن تتولد قناعات ذاتية وحزبية على القبول بالحد الأدنى للمصالح بحيث تتمكن كل الأحزاب السياسية من تحقيق جزء من مصالحها وتشعر بأهمية الدفاع عنها وعن النظام الذي امن مثل هذه الحقوق والمصالح.
وأيضا لكي نحظى بلحظة الانتقال نحو الديمقراطية لابد أن نقبل بالتنافس أو بالصراعات السلمية، فطبيعة العمل السياسي الديمقراطي يفرز نوعا من الصراع باستمرار لتحقيق مصالحها" ففي ديمقراطية ما تكون نتائج العملة السياسية غير محددة إلى حد ما فيما يتعلق بالمناصب التي يشغلوها المشاركون في كل العلاقات الاجتماعية بما فيها علاقات الإنتاج والمؤسسات السياسية.. ففي ظل الديمقراطية لا حد يكون على ثقة من تحقيق مصالحه تماما" وبالتالي، فان الديمقراطية يمكن ترسيخها فقط إذا وجدت هناك مؤسسات تجعل من غير المحتمل أن تنتج العملية السياسية المنافسة نتائج مضادة كثيرا لمصالح أي طرف سياسي قبل بالانتقال وتعامل معه.
وتظل اللحظة الحاسمة في أي انتقال من حكم استبدادي إلى ديمقراطي ليست بالضرورة انسحاب الجيش إلى ثكناته أو فتح البرلمان، وليس بالضرورة اجتياز العتبة التي لا يستطع أحد بعدها التدخل لقلب نتائج العلمية الديمقراطية الرسمية، بل إيمان القوى السياسية التي قبلت الديمقراطية كوسيلة للحكم والسلطة، وعملها على احترام سيادة القانون والاحتكام إليه في كل الأحوال بغض النظر عن قوة هذا الطرف السياسي أو ضعف ذاك، عند ذاك سوف نشعر إننا نعيش في أجواء لحظة ديمقراطية وعندنا قيم ومبادئ تضمن لنا طريقا طويلا من التعايش السلمي المطلوب.
* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com