Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

في الذكرى العاشرة لوفاة عامر عبد الله عامر عبد الله الكاتب والأديب والمناضل الوطني والشيوعي المقدام

لم يُكتب إلا القليل جداً عن السياسي العراقي الفذ والمناضل الشيوعي المقدام والفقيد المتميز الرفيق عامر عبد الله (أديب), رغم مرور عشر سنوات على وفاته. إلا أن حياته ونضاله وما تركه لنا من أفكار وكتابات تستوجب البحث والنشر والإفادة منها وتعريف الأجيال القادمة به وبجيله من المناضلين.
وإذ لم يتم الاحتفاء به في أي من أعياد ميلاده, رغم ما قدمه للشعب والوطن والحركة الوطنية العراقية والحزب الشيوعي العراقي, الذي انتمى إليه واستمر يناضل في صفوفه أكثر من نصف قرن, من خدمات جليلة ومواقف متقدمة وتنويرية ستبقى معلماً مهماً من معالم الثقافة السياسة الوطنية والتقدمية العراقية, فجدير بنا اليوم أن نحتفي بتأبينه في ذكرى وفاته العاشرة وبمبادرة طيبة وجديرة بالتقدير من زوجته السيدة بدور محمد, إذ لم يكن الاحتفاء بأعياد الميلاد من تقاليد شعبنا وقوانا السياسية, ومنها الحزب الشيوعي العراقي.
رحل عنا وهو لا يزال معطاءً من الناحيتين الفكرية والعملية ويمتلك الطاقة والحيوية على بلورة أفكاره ونشر تجربته النضالية المعقدة والمديدة. ويتجلى ذلك بوضوح في الحوار الرائع الذي أجراه معه الكاتب والصحفي المتميز الأستاذ حازم صاغية ونشر في العدد الثاني (1994) والعدد الثالث (1995) من مجلة أبواب التي كانت تصدر عن دار الساقي في بيروت ولندن. ففي هذا الحوار تبرز شخصية عامر عبد الله الفكرية والسياسية والأدبية وروحه الوطنية الوثابة والأممية الصادقة ودقة متابعاته وصدق ملاحظاته وذاكرته الحية والنشطة. فمدينة عانة التاريخية الجميلة التي كانت مستلقية كامرأة ساحرة وهانئة على ضفاف نهر الفرات قد أنجبت الكثير من الشخصيات الوطنية والديمقراطية والعلمية والأدبية التي يعتز بها العراق دوماً. وكان مؤلماً له ولأبناء عانة ولنا جميعاً أن تصبح هذه المدينة الطيبة غارقة في مياه الفرات, إذ لم يبق من ملاعب الطفولة والصبا لهم غير الذكريات.
نشأ الطفل عامر في وسط عائلة كادحة كريمة النفس, عانى من الفقر والعوز وتركت آثارها السلبية لاحقاً على وضعه الصحي العام وعلى عينيه. وكان لهذه النشأة وأجواء الفقر العام في عانة وتجليات ذلك في حياة المدينة السياسية اليومية وبروز شخصيات وطنية فيها, كان لها دورها البارز على الحركة الوطنية العراقية وعلى نزوع الشاب وأترابه صوب اليسار الديمقراطي العراقي, صوب الفكر الماركسي – اللينيني, سواء كمؤيدين ارتبطوا بحزب الشعب أولاً ومن ثم بالحزب الشيوعي العراقي.
لعب عامر عبد الله إلى جانب سلام عادل وجمال الحيدري وعبد الرحيم شريف دوراً بارزاً ومهماً في تعزيز لحمة الحزب ودوره في الحياة السياسية العراقية بعد إعادة الوحدة للحزب الشيوعي العراقي في العام 1956 وبعد أن التحقت منظمة النضال (بقيادة عزيز شريف) وجماعة راية الشغيلة (بقيادة جمال الحيدري) بالحزب. وكان من العاملين بحماس لصيانة هذه الوحدة وتشكيل جبهة الاتحاد الوطني في العام 1957. ولا شك في أن لوحدة الحزب ودور قيادته الجديدة وبرنامجه السياسي الواضح الذي أقره كونفرنس الحزب الثاني في العام 1956 والتزام الحزب بالعمل لتشكيل الجبهة الوطنية الدور البارز في تشكيل جبهة الاتحاد الوطني ولجنتها العليا, وكان لعامر عبد الله دوره الفاعل في ذلك أيضاً.
كان عامر عبد الله كاتباً سياسياً دقيقاً ومتميزاً, كما كان أديباً بارعاً ومقلاً, تتسم لغته بالشفافة والانسيابية وما يطلق عليه بالسهل الممتنع. وكان سياسياً بارعاً ومفاوضاً محنكاً, كما كان إدارياً ودبلوماسياً ممتازاً.
لعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية العراقية, سواء أكان في مرحلة النضال السري الصعب وفي أوساط الديمقراطيين والوطنيين العراقيين منذ النصف الثاني من العقد الخامس وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية مع حزب الشعب, الحزب الذي ترأسه الشخصية الوطنية البارزة والماركسي المعروف وقائد حركة السلام في العراق الأستاذ والرفيق عزيز شريف, ومن ثم في صفوف الحزب الشيوعي العراقي, أم كان على المستوى السياسي العلني, وخاصة في أعقاب ثورة تموز 1958 وفترة حكم عبد الكريم قاسم, ومن ثم في فترة حكم البعث الثانية, أي في الفترة بين 1968-1978, ثم واصل العمل السياسي إلى حين وفاته.
لقد كان عامر عبد الله أحد أبرز مفكري الحزب الشيوعي العراقي ومن القلة التي برزت خلال سنوات النضال السري والعلني واحتل لسنوات طويلة عضوية اللجنة المركزية والمكتب السياسي. وكان الكاتب المفضل في إعداد مسودات تقارير اللجنة المركزية للحزب لسنوات كثيرة. لقد كان كاتباً ملتزماً بما تقرره اجتماعات اللجنة المركزية, ولكنه كان في الوقت نفسه مستقلاً في تفكيره وفي تكوين رأيه المستقل, والتي خلقت له في فترات مختلفة غير القليل من المصاعب والمشاحنات.
كان عامر عبد الله رقماً كبيراً ومهماً في الحزب الشيوعي العراقي وفي الحركة الوطنية العراقية, حاز على احترام رفاقه, سواء من اتفق معه في أرائه ومواقفه الفكرية والسياسية أم من اختلف معه. لم يكن يعتمد الأساليب القديمة في الصراع الفكري أو المحاجة القائمة على اقتطاع المقولات من الكتب التاريخية, بل كان يقارع الحجة بالحجة, ولم يكن مستعداً لمحاباة أحد.
كان عامر عبد الله مثقفاً ماركسياً متقدماً في وعيه وفي قراءته للماركسية وفي قراءة الأوضاع في العراق في ضوء المنهج المادي الجدلي, المنهج الماركسي العلمي, وكانت له اجتهاداته, ولهذا السبب يمكن القول بأن الفقيد كان سياسياً واقعياً, رغم خصوبة خياله وطموحاته وأحلامه الوردية الطيبة, التي اشتركنا بها معه, في بناء مستقبل أكثر إشراقاً وأكثر عدالة لشعب العراق ولحركة التحرر الوطني, بناء عراق اشتراكي وديمقراطي متقدم على المدى البعيد.
في فترات النضال الطويلة شارك عامر عبد الله في الصراعات الفكرية داخل الحزب ومع القوى الفكرية والأحزاب السياسية الأخرى, وخاصة مع القوى القومية العربية اليمينية. وكانت لمواقفه الفكرية في هذا الصدد خير عون في فضح من كانوا يتاجرون بالقومية العربية على حساب شعوبهم وقضاياهم العادلة, ومنها القضية الفلسطينية أو الوحدة العربية, أو العراق الجديد في أعقاب ثورة تموز 1958, التي قادت اتجاهاتهم المتطرفة إلى ضياع ثورة تموز ومنجزاتها الوطنية الكبيرة في انقلاب شباط 1963 الدموي البغيض. لقد كان صارماً في موضوعاته المناهضة للفكر القومي الشوفيني العربي, وكان بذلك يناضل ضد مشوهي أهداف حركة التحرر الوطني العربية ويناضل من أجل رفع الوعي الديمقراطي لفهم أبعاد النضال القومي والوطني في العراق وعدالة حقوق القوميات الأخرى.
اختلف الناس في اجتهادات ومواقف عامر عبد الله الفكرية والسياسية, فمنهم من اتهمه باليمينية وآخر من رآه صادقاً مع نفسه في فهم واقع العراق في فترات مختلفة, ولكن لم يتهم يوماً باليسارية المتطرفة ومرض الطفولة اليساري. ولكن عامر عبد الله كان في كل ذلك صادقاً مع نفسه ومع ما كان يسعى إليه ويرى أنه الصواب للعراق ولم يخش في ذلك لومة لائم.
كان عامر عبد الله من بين من درس مبكراً الانهيار الذي هز العالم كما هزه في العام 1917 ميلاد دولة الاتحاد السوفييتي, الدولة الاشتراكية الفتية, ثم تدحرجت كرة الثلج لتلف معها بقية دول المعسكر الاشتراكي في أوروبا, محاولاً توضيح العوامل الكامنة وراء مقوضات النظم الاشتراكية. ولم ير في هذا الانهيار نهاية الحلم والأمل في بناء اشتراكية من نوع آخر, اشتراكية تقوم على المجتمع المدني الديمقراطي الحر والعدالة والمساواة. وجد في سقوط النظم القائمة تجسيداً لاحتقان وأزمة داخلية وليست مؤامرة من الخارج, كما وجد فيها منفذاً لتحولات لاحقة باتجاه الأفضل, إذ جاء في كتابه الموسوم "مقوضات النظام الاشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد" ما يشير إلى قدرته الجيدة على التحليل والرؤية النقدية للماضي دون فقدان البصيرة والثقة بالمستقبل وبقوانين التطور الموضوعية. فقد كتب ما يلي: "أن عملية التطور لا تتخذ في أية حالة (جزئية أو عامة) طابعاً إنسانياً هادئاً أو مستقراً. ففي المجتمع (كما في الطبيعة), هناك حركة دائبة , تولدها عملية الصراع بين المتناقضات الكامنة في كيان الظاهرة أو العملية , لتؤول بالنتيجة وبصورة حتمية إلى الانفجار وبالتالي إلى التحول النوعي أو استحداث حالة نوعية جديدة." إن سقوط النظم "الاشتراكية" في الاتحاد السوفييتي وبقية الدول "الاشتراكية" وليس الاشتراكية كفكر, لا يعني بأي حال انتصار الرأسمالية أو صواب وعدالة نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي, كما لا يعني بأي حال فشل الاشتراكية كفكر إنساني حر يسعى متبنوه إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر والسلام الدائم, بل كان الانهيار يعني فشل تلك التجارب في فهم العلاقة الجدلية بين الاشتراكية والديمقراطية, بين العدالة الاجتماعية وحرية الإنسان, ثم في التفسير والفهم أو القراءة الخاطئة للماركسية كعلم ومعرفة ومنهج مادي جدلي.
كان عامر عبد الله قائداً وطنياً وشيوعياً متميزاً ومناضلاً من أجل غدٍ أفضل للبشرية خال من القهر والاستغلال والحروب, من أجل تحقيق الحلم الذي كان يراوده ويراود كثرة هائلة من الشيوعيات والشيوعيين على صعيد العراق والعالم. فقد كتب عامر عبد الله يقول: "إن الاشتراكية –بمبادئها الإنسانية, ومثلها العليا, وقيمها الرفيعة- لا بأحكامها القاطعة, ولا بنماذجها ونظمها, كانت أملاً مرتجى, وهدفاً مبتغى, وطريقاً إلى الحرية والعدل والمساواة. لقد كان هذا ما كنت أحلم به وأسعى إليه, كما كنت أعمل سوية مع غيري لبلوغه وتحقيقه, وبكل مثابرة واندفاع. وكان هذا أيضاً وما يزال مهمة من ينتدب نفسه لقيادة الشعب, أو وعده بالخلاص".
لم تكن الأجواء الحزبية باستمرار هادئة أو بعيدة عن العلاقات الشللية التي كانت تؤذي بالضرورة عمل الحزب وجميع الرفاق وفي فترات مختلفة, ولم يكن عامر عبد الله بعيداً عنها, ولا بقية رفاق القيادة وخاصة في الفترة التي أعقبت ثورة تموز 1958. ويبدو لي أن القراءة المتمعنة لكتابه الموسوم "مقوضات النظام الاشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد", سيجد القارئ أو القارئة بعض المواقع التي ينتقد فيها عامر عبد الله بعض تلك الأجواء التي رافقت عمل الحزب في مراحل مختلفة بما فيها فترة الثمانينات من القرن العشرين.
وإذ هو قد بدأ بإعادة النظر بالتجربة الاشتراكية وبمواقفه وسياسات الحزب الشيوعي, راح يطالب الآخرين بصواب بأهمية مراجعة أنفسهم والتعلم من الماضي وطرح الجديد. فقد كتب يقول:
""..إن الواقع لم يكن ولن يصبح رهين الأحكام والأحلام. إنه واقع مأزوم يدعو بصوت جهير, كل الذين يعملون لتحقيق المبادئ والقيم الإنسانية للاشتراكية أن يراجعوا أنفسهم ونهجهم ... أن يقرأوا الواقع بعيون بصيرة... وأن يبادروا إلى تعديل النهج, والنظام, والموقف, والوسيلة, وبما يؤمن في النهاية, بلوغ الهدف المرتجى ونجاح المسيرة".
وفي آخر حياته رفض عامر عبد الله التحزب الأعمى وليس الحزبية العقلانية ذات الرأي المستقل والمفعم بالواقعية, وذات الأذن الصاغية للنقد وللرأي الآخر وذات القدرة على التعلم بتواضع, إذ قال بوضوح:
"أما المتحزب والمتحيز, والمتعصب والمتحجر, ثم القائد المعتز بجلالة قيادته وسلطان ماضيه, أو الحريص على استبقائه أو استعادته, فلن يكون بمقدوره أن يعدل المسار, أو أن يحقق الهدف المبتغى".
وقف عامر عبد الله إلى جانب المظلومين والمضطهدين وساند حركة الشعب الكردي وتأثر بفكر ومواقف عزيز شريف من القضية الكردية التي تميزت بالوضوح والمبدئية العالية ورفض كل وصاية على حركة ونضال الشعب الكردي وحقوقه المشروعة بما في ذلك حق الانفصال وإقامة الدولة الوطنية المستقلة التي كانت ولا تزال تتجلى في برنامج وسياسات الحزب الشيوعي العراقي. كما وقف إلى جانب حقوق بقية القوميات الثقافية والإدارية, وساهم باستمرار وبحيوية في صياغة برامج الحزب التي طرحت في مؤتمراته التي شارك فيها, أي في المجلس الحزبي الموسع الثاني 1956, وفي المؤتمرين الثاني 1970 والثالث 1976.
لم يكن عامر عبد الله سهل المراس كما لم يكن في نقاشاته سهلاً, بل كان صعباً وحاداً في بعض الأحيان نتيجة اعتداده الشديد برأيه. ولم يكن بالضرورة وباستمرار على صواب, كما هي حالة بقية بني البشر. لقد رفض الوقوف إلى جانب إيران في الحرب مع العراق, وخاصة بعد أن استطاعت دفع القوات العراقية الغازية إلى خارج حدودها, وكان على صواب في ذلك, رغم أنه شجب النظام العراقي الذي بدأ بشن الحرب على إيران واحتل جزءاً من أراضي الدولة الجارة, وكان يتطلع إلى أن تنتهي الحرب بسقوط النظام. ولم يحصل ذلك وأحس بإحباط ملموس. وبقدر ما ناهض وناضل نظام البعث الدكتاتوري في العراق, ناهض وأدان نظام الاستبداد في إيران.
كان عامر عبد الله, كما أرى, يتطلع إلى قيادة الحزب, وأن لم يعلن عن ذلك جهارا ولم ينافس أحداً على الموقع الأول, إذ كان يجد في نفسه الجدارة القيادية والفكرية والسياسية على تولي مسؤولية قيادة الحزب. وقد أثر ذلك على علاقاته ببعض رفاقه في قيادة الحزب وربما على بعض أحكامه إزاء الآخرين. لا شك في أن عامر عبد الله كان يمتلك مواصفات القائد والقادر على ذلك كالبعض الآخر من رفاقه, ولكنه لم يحض بموافقة وتأييد غالبية رفاق القيادة وفي فترات مختلفة والتي اقترنت بتباين المواقف الفكرية والسياسية ووفق موازنات معينة.
لقد اتفقنا في الرأي واختلفنا أيضاً, ولكن بقيت علاقاتنا ودية وقائمة على الاحترام المتبادل. لقد أغنى عامر عبد الله المكتبة العربية بالعديد من الأفكار والكتب والترجمات والدراسات والمواقف السياسية التي يفترض أن يعاد جمعها ونشرها. ولا شك في أن عامر عبد الله كان أحد الشخصيات البارزة والمتميزة العاملة في الشأن العام في العراق ولعقود عدة, وبالتالي فأن دراسته وبلورة جوانب فكره ونشاطه بمختلف صفحاتها وأبعادها مهمة جداً لمن يعمل في الشأن العام حالياً وفي المستقبل. إنها أمانة في أعناقنا جميعاً.
الذكر الطيب للفقيد العزيز الرفيق والصديق والمناضل الوطني الشيوعي عامر عبد الله.

برلين, منتصف شهر مايس/أيار 2010 كاظم حبيب

Opinions