في الطريق الى كربلاء
(1)
ساعات وتنطلق المسيرة المليونية الراجلة الى حيث مرقد سيد شباب اهل الجنة الامام الحسين بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) في كربلاء المقدسة، في مظهر انساني وديني وحضاري راق قل نظيره، كأحد ابرز مصاديق قول الله تعالى {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
انها مسيرة العهد والولاء والمحبة لرسول الله (ص) واهل بيته الكرام الذين اذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنص قوله عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
انت الان، اذن، من انصار الحسين (ع) تسعى للحاق به، وان اول ما يجب ان يميز شخصيتك هو الوفاء بالعهد، فانصار الحسين (ع) عاهدوا فوفوا بعهدهم، فنقرا في الزيارة وندعو لاحدهم بل لابرزهم الا وهو العباس بن علي (ع) فنقول {فجزاك الله أفضل الجزاء وأكثر الجزاء وأوفر الجزاء وأوفي جزاء أحد ممن وفي ببيعته} انهم عاهدوا الله تعالى اولا وامامهم ثانيا وانفسهم ثالثا، وهذا هو الاهم في رايي، فان الذي يعاهد نفسه هو الذي يفي بعهده مع الله ومع الاخر، والعكس هو الصحيح، فمن لا يعاهدها لا يفي ابدا، بل لا يحدث نفسه بالوفاء، حتى اذا كان قد عاهد الله تعالى ورسوله الكريم (ص) لان الانسان، كل انسان، على نفسه بصيره كما في نص قوله تعالى في محكم كتابه الكريم {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فالانسان يعرف نهاية وعده وعهده وفيما اذا كان سيلتزم ويفي به ام لا؟ ولذلك فان العهد مع النفس اهم من اي عهد آخر، لانه الالزام الذاتي الذي يلزم به المرء نفسه.
ان الوفاء بالعهد احد ابرز واهم مصاديق الايمان، فمن لا عهد له لا ايمان له، ولذلك ربط الله تعالى الوفاء بالعهد بالايمان به فقال في محكم كتابه الكريم {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} بل ان الوفاء بالعهد مقدمة للتقوى او قل علامة من علامات التقوى، يقول تعالى {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فاذا وفى المرء بعهده وجد الله تعالى وفيا بعهده له وهو القائل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ومن الواضح فان الله تعالى لا يفي بعهد لمن لا يفي بعهوده للاخرين، فاذا نكث امرءا عهدا للناس نكث الله عهده له.
وفي الطريق الى كربلاء يجب ان نتذكر، في كل خطوة نخطوها، اننا قد عاهدنا انفسنا على ان نكون من انصار الحسين (ع) فهل نحن قادرون على الوفاء بهذا العهد؟ ام اننا اجبن واضعف من ان نكون كذلك؟.
اذا كنا بمستوى العهد فلنكمل المشوار وليكن ما يكون في الطريق الى الحسين (ع) اما اذا لم نجد في انفسنا ما يؤهلنا الى ذلك، فلنعد ادراجنا ونجلس في البيت فان ذلك افضل لنا ولديننا، لان عدم التعهد افضل بكثير من التعهد وعدم الوفاء، فالاول ربما يعد ذنبا اما الثاني فذنبين او اكثر، وقد يعد جريمة، لان العهد يستتبعه حسابات من نوع خاص وموقف استثنائي، فلماذا نورط انفسنا فيما لم نكن اهلا له؟ ولذلك شدد الله تعالى على مسؤولية العهد بقوله عز وجل {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وقوله تعالى {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وان نقض العهد هو خيانة، بل اعظم الخيانة، فلا تورط نفسك بها، يقول تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}.
اعد حساباتك، اذن، ودقق بها قبل ان تتخذ قرارك النهائي، فالعهد مسؤولية، وان الالتزام والوفاء به مسؤولية اكبر، فلا تورط نفسك فوق طاقتك، وان خطواتك الى الحسين (ع) تعد عبادة اذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح مع نفسك وامام الله تعالى، وستكون وبالا عليك اذا لم تف بعهدك ونقضت شيئا منه، وتذكر دائما بان عهد الله تعالى هو عهد الناس، فعندما تعاهد الله عز وجل على امر ما فانما تعاهد الناس، فانت الذي عاهدت الحسين (ع) على ان تكون من انصاره واعوانه في طريقك الى كربلاء، وتنوي ان ترشح نفسك في الانتخابات النيابية القادمة، هل فكرت في ان تلتزم بالعهد الذي ستقطعه للناخب بحسن السيرة والنزاهة وبذل الجهد والجد والاجتهاد للدفاع عن حقوقه؟ ام انك تسير الى الحسين (ع) وفي نيتك سرقة صوت الناخب للتمتع بمميزات المقعد النيابي فحسب لتثرى على حساب المال العام وتتورط بكل انواع الفساد المالي والاداري فتمنح المقربين منك كل ما يريدون وما لا يريدون وتظل افواه الارامل والايتام والفقراء فاغرة تنتظر عطفك وحنانك اذا تذكرتهم او تحسست بمعاناتهم؟.
(2)
ليكن خروجك لزيارة الحسين (ع) خروجه على الطاغية يزيد بن معاوية لعنه الله، الاهداف نفسها، والادوات نفسها، والنوايا نفسها، والمبتدأ نفسه والمنتهى نفسه، كيف؟.
الامام لم يخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، فلا تكن انت كذلك، في مسيرك الى كربلاء واحد من هذه الانواع الاربعة من الناس، فلا تمشي للشر واذا مشيت فلا تصعر خدع للناس ولا تمش في الارض مرحا، واحذر ان تفسد في الطريق، وان لا تكون ظالما فتتماهل بالواجبات مثلا على حساب المستحبات، يقول تعالى {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
انتبه الى مشيك والى طريقة تعاملك مع الناس ومع الطريق، وانتبه الى صوتك عندما تتحدث مع الاخرين، فاحترم الكبير ووقر العالم واعطف على الصغير.
احذر ان تخلف وراءك، بخروجك الى كربلاء، حقا من حقوق الناس، فحق الناس اولا ثم حق الامام، وان الله تعالى سائلك يوم القيامة عن حقوق الناس عليك قبل ان يسالك عن حقوقه عليك، فاذا خلفت وراءك حقا للناس فستكون من الظالمين، والظالم لا يكون من انصار الحسين (ع) ابدا، ولن، ولذلك، ابذل كل جهدك لتصفية كل حساباتك مع الناس، صغيرهم وكبيرهم، قريبهم وبعيدهم، قبل ان تيمم وجهك شطر كربلاء.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان خروج الحسين (ع) كان قمة في الوعي الحضاري ان من ناحية النظام والتنظيم او من ناحية علاقاته مع الاخر، سواء من اهل بيته واصحابه الذين صحبوه الى كربلاء، او مع الناس الذين تركوه في وسط الطريق عندما خيرهم بين البقاء معه او الرحيل بعيدا عنه لما وصول نبأ استشهاد سفيره الى الكوفة الشهيد البطل مسلم بن عقيل، او حتى مع اعدائه الذين تكالبوا عليه في كربلاء في يوم عاشوراء لقتله، لانه تعامل مع الاخر من منطلق رسالي بحت بعيدا عن روح التشفي والانتقام، او لغة التسقيط والتشهير واغتيال الشخصية بالدعايات الرخيصة، او لغة السب والشتم ونشر الغسيل القذر، كما يفعل اليوم السياسيون، خاصة مع اقتراب انطلاق الحملات الانتخابية.
لقد مثل الحسين (ع) معاني الحضارة في التعامل مع الاخر كونه ملتزم بالاسلام كدين سماوي كرم الانسان بغض النظر عن دينه او لونه او خلفيته السياسية والثقافية، فقال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} وهكذا يجب ان يكون انصار الحسين (ع) الذين يشتركون في المسيرة المليونية الراجلة الى كربلاء الاباء والشهادة والغيرة.
وفي المسيرة، كذلك، يجب ان تتجلى مظاهر الحضارة والمدنية بارقى صورها، فلا نقطع طريقا باسم الموكب ولا نرمي الاوساخ على طول الطريق بحجة انشغالنا بالسير الى الحسين (ع) ولا نقلع شجرة او نقتل نبتة بمسميات الحاجة مثلا او ما اشبه.
لتكن المسيرة المليونية مظهرا من مظاهر الحضارة والمدنية والرقي، اذا رآها الاخر، مسلما كان ام غير مسلم، مؤيدا كان ام مخالفا، تمنى ان يكون ممن يشترك فيها، فالحسين (ع) حضارة بكل المعاني.
ان من المعيب حقا ان يشوب المسير الى الحسين (ع) بعض المظاهر البدائية والمتخلفة، فان مثل هذه الصور لا يرضى عنها الحسين (ع) ابدا، انه يحب ان يرى كل ما يتعلق به من شعائر ومظاهر على احسن وافضل حال، نظيف ومنظم وهادئ لا يؤذي احدا ولا يعتدي على حقوق احد ولا يتجاوز حدود الله تعالى.
لقد قضى الحسين (ع) شطرا من ليلة العاشر من المحرم يزيح الشوك من امام الخيام التي نصبها في صحراء كربلاء، لانه اراد ان يرى كل شيء نظيف ومنظم، على الرغم من انه سوف لن يقضي الا ساعات محدودة في ذلك المكان، انه اراد ان يعلمنا النظام والتنظيم حتى في اللحظة الواحدة التي يقضيها المرء في مكان ما او في حالة ما، كما اراد ان يذكرنا بان {النظافة من الايمان} كما في الحديث الشريف.
لقد رأى المسلمون ذات مرة رسول الله (ص) وهو يعتني ببناء قبر، يدقق في تسويته وتحديد معالمه وغير ذلك، فقيل له: يا رسول الله، انه قبر وليس منزل، فلماذا كل هذا الاهتمام والعناية الفائقة به؟ فقال رسول الله (ص) {ان الله يحب اذا عمل احدكم عملا ان يتقنه} فلنتقن المسير الى كربلاء بكل المعايير.
لا تقل هذه مسيرة وقتية ستنتهي بعد ايام، وان هذا الامر وقتي وان تلك المهمة آنية وان ذاك العمل لحينه، ابدا، وانما تعامل مع كل شيء بدقة وتفاني وتنظيم وكأنك تخلفه وراءك ابد الدهر، وعند ذلك سنترك بصماتنا على كل عمل نقوم به وعلى كل بناء نجهزه وعلى كل مشروع نبدا به.
ان ذلك ما يسمى بتراكم الخبرة التي تنتج كل ما يخلد على ارض الواقع وفي الذهن، فلو ان كل جيل فكر في ان يتقن عمله ليقدمه للجيل الذي يليه سليما من العيوب، لما بدانا من الصفر في كل مرة.
(3)
لم يخرج الحسين (ع) اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، فلماذا اذن خرج تاركا وراءه مدينة جده رسول الله (ص) المدينة المنورة؟.
لقد حدد الامام (ع) اهدافه الاستراتيجية الخالدة بقوله {وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي}.
الاصلاح، اذن، هو محور حركة ونهضة سيد الشهداء (ع) وهو محور كل الرسالات السماوية وحركات الرسل والانبياء والخلفاء والائمة المعصومين، ومن تبعهم باحسان من مصلحين وشهداء، يقول تعالى متحدثا على لسان الرسل والانبياء {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
فبماذا يمكن ان يفكر انصار الحسين (ع) اليوم لاصلاحه وهم يحثون الخطا للوصول الى كربلاء المقدسة حيث مثوى الشهيد وابن الشهيد؟.
للاسف الشديد، فان هناك الكثير جدا في اوضاعنا، كعراقيين تحديدا، بحاجة الى ان نفكر في اصلاحه، ولعل ابرزها وعلى راسها هو اصلاح واقعنا الاجتماعي الذي تردى بدرجة كبيرة، تجلى بحالات الطلاق الواسعة والخلافات المتجددة والقطيعة التي يعيشها الاصدقاء فضلا عن غير الاصدقاء، ولا اقول الاعداء، وحالة التمزق والتشرذم التي يعيشها ابناء المذهب الواحد فضلا عن الدين الواحد والوطن الواحد، فعشائرنا ممزقة الاوصال بعد ان تشتتت ولاءاتها واهواءها، ومثقفونا يتراشقون بكل ما هبط من الكلام، ومرجعياتنا تمر عليها الاشهر وربما السنين من دون ان تلتقي وتجتمع وتتحاور في الشؤون والشجون، اما السياسيون فغسيلهم القذر منشور على حبال القنوات الفضائية دائما، غسيلهم الداخلي والخارجي على حد سواء، نساؤهم ورجالهم لا فرق، وقديما قيل (اذا لم تستح فافعل ما شئت).
ان اعظم انجاز يمكن ان نحققه في هذا المسير يتمثل في التفكير الجدي بالبحث عن سبل اصلاح ذات البين، لنعيد مجتمعنا العراقي الى سابق عهده في العلاقات الاجتماعية الطيبة والحسنة والراقية والفريدة من نوعها من بين الكثير من المجتمعات، فالعراقيون اجتماعيون بطبعهم، يحبون التواصل الاجتماعي ويتكافلون بالخير ويتشاركون بالالم، يعذر بعضهم بعضا ويتجاوز بعضهم عن خطأ البعض الاخر، فلماذا اصبح مجتمعنا اليوم على هذه الشاكلة التي تسر العدو وتؤلم الصديق؟ صدورهم ضيقة لا يتحمل احدهم الاخر على زلة تخرج من فيه، وروح الاخ تميل الى الانتقام والتشفي من اخيه فضلا عن غيره.
ولو عدنا من كربلاء بهذا الانجاز فقط فسنكون من الرابحين، فلقد وصف الامام امير المؤمنين (ع) اصلاح ذات البين بقوله في وصيته للحسنين (ع) {أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ الصِّيَامِ} فما فائدة الصلاة اذا لم تامرني بحسن الخلق مع الاخرين؟ وما فائدة الصيام اذا لم يامرني بالتكافل الاجتماعي مع فقراء المجتمع؟ وما فائدة عامة العبادات اذا لم تامرني بالاصلاح بين الاخوين وبين الاب وابنه وبين الصديق وصديقه؟ ام انها المظاهر الفارغة من المحتوى؟.
ان علاقاتنا هي اول القضايا التي تحتاج الى وقفة للاصلاح، ليس بالشعارات واللافتات، كما يتسمى بعضهم بالاصلاح وهو ابعد ما يكون عنه، وانما بالعمل الجدي والواقعي الذي ياخذ بنظر الاعتبار الواقع ولا يتغافل عنه او يحاول التجاوز عليه، فالمكابرة والعناد وعدم تلمس الواقع الاجتماعي على حقيقته لن ينتج اصلاحا ابدا، لان الاصلاح يبدا بفكرة تاخذ بعين الاعتبار الواقع اولا، لتتحول الى مشروع اصلاحي اجتماعي ينمو ويكبر ويتسع بمرور الزمن وبقناعة الاخرين بجدوائيته.
ان الاصلاح عملية شاقة، لا شك في ذلك، ولكنها في نفس الوقت حجر الزاوية في كل محاولة يبذلها شعب من الشعوب لتطوير نفسه وتنمية قدراته والنهوض ببلده.
واذا اردنا ان ينجح مشروعنا الاصلاحي فلابد ان يشترك فيه الجميع، علماء وفقهاء ومراجع دينية ومثقفين ومفكرين وعمال وفلاحين وطلاب ومدرسين ومسؤولين حكوميين وغير مسؤولين، والمراة والرجل، الكبير والصغير، المتدين وغيره، الليبرالي ومن ينعت نفسه بالاسلامي، الحزبي والمستقل، كلهم كلهم يجب ان يشتركوا في هذا المشروع لياتي ثماره باذن الله تعالى.
لا ينبغي ان يستمر الحال الاجتماعي على ما هو عليه اليوم، لان ذلك يأذن باستمرار الوضع السياسي على حاله كذلك، وبالتالي سيستمر بسببه حال التدهور الاقتصادي والتعليمي والصحي والبيئي وغير ذلك على حاله، ولان دوام الحال من المحال، اذ لا يعقل ان يستمر هذا التدهور الشامل الى ما لا نهاية، فان احتمالات الطوفان ستكون واردة سواء جاءت بايدينا كعراقيين او بايدي غيرنا، فهذه هي سنة الله تعالى في الكون، فلا يظن احدا بان سكوته ينجيه من آثار الطوفان، او ان عدم مشاركته الفعلية بالازمات يكفي لتبرئة ساحته، ابدا، فلقد أخذ الله تعالى على نفسه ان يأخذ الصالح بذنب الطالح اذا لم يغير الاول فعل الثاني، الم يقل الامام الحسين (ع) {من رأى سلطانا مستحلا لحرم الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير بقول ولا فعل كان حقا على الله أن يدخله مدخله}؟ فلنحذر اذن.
(4)
انت الان في الطريق الى الحسين (ع) وكأنك ذاهب الى كربلاء لتقاتل في سبيل الله تعالى بين يديه عليه السلام، وهل يمكن ذلك، اذا لم تعرف ما الذي يريده منك الحسين (ع)؟.
انه يريد رجالا استثنائيين يلتحقون بركبه من اجل الحق والحرية والكرامة، فالعبد لا يريده الامام في صفوفه، والذي يجامل الباطل على حساب الحق يرفضه ركب الامام، اما الذليل الذي يبيع كرامته من اجل امرأة يصيبها او سلطة تغريه او مال يحصل عليه بالحرام، فليس له مكان في ركب الامام بكل تاكيد.
لنقرا ماذا قال الامام (ع) عندما دعا الناس للالتحاق به، قال {فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق} وقال ايضا {من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه} فالرجال الذين يريدهم الامام (ع) يتصفون بما يلي:
اولا: لا يختارون الرجال للحق وانما العكس هو الصحيح، فيختارون الحق اولا ثم يبحثون عن رجاله، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين (ع) بقوله {إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله}.
ثانيا: ان كل حركاتهم وسكناتهم تبدأ وتنتهي بالله تعالى واليه، ولذلك فهم يرومون الحق ابدا، لا يجاملون على حسابه ولا يراهنون على غيره ولا يتوقعون من غيره خيرا ابدا، يقول تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فسبيلهم واحدة فقط.
ثالثا: ليس المهم عندهم عدد الذين يتبعون الحق ليتبعوه، وانما المهم عندهم هو ان يصيبوا الحق، ولذلك فعندما قال الحسين (ع) {ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين} لم يقل بانه سيظطر لمبايعة الطاغية اذا رد الناس عليه هذا الامر وتركوه وحيدا ولم يلتحقوا به، ابدا، فصراع الحق والباطل امر مفروغ منه لا يقبل القسمة على اثنين، فاما ان تكون مع الحق او تكون مع الباطل، اما ان تكون مع الحق اذا كثر ناصروه وتكون مع الباطل اذا خذله الناس، فهذا ما لا يفعله الحسين (ع) وانصاره، فالامام لا يبحث عن عدد وجمهرة وانما يبحث عن نوعية ومعادن خاصة من الرجال.
رابعا: ولان انصار الامام (ع) مبدئيون في مواقفهم، ولذلك قال عليه السلام {من كان باذلا فينا مهجته، موطنا في لقاء الله نفسه} فانصاره هم المستعدين للقاء الله تعالى والموت في سبيله في اية لحظة، ليس بالكلام والشعارات وانما بالفعل والعمل الصالح، بمعنى انهم يسيرون في الصراط المستقيم دائما، فاذا ما حل بساحتهم الموت فهم على استعداد تام للقائه، لا يحتاجون وقتا اضافيا لاعادة حساباتهم مثلا او لتصفيتها او ما اشبه، فمثلهم كمثل المستعد للرحيل بحقائبه وبجواز سفره وبكل ما يحتاج للحظة المغادرة.
اذن، قبل ان تنطلق في المسير الى كربلاء، تاكد بانك مع الحق، او على الاقل قرر ان تكون مع الحق من الان فصاعدا، فلا تاخذك فيه لومة لائم، ولا تنصر باطلا ولو بشق كلمة، فاذا رايت ظالما لا تعينه، واذا رايت مظلوما ابذل جهدك لتنصره وباية طريقة ممكنة.
وتاكد من حريتك، فلا تكن عبدا للمال او السلطة والموقع او الجاه وحب الظهور من حيث تشعر او لا تشعر، اعد حساباتك مع نفسك، وتاكد بانك حر لا يستعبدك شيء من حطام الدنيا، والا، كيف لك ان تلتحق بركب الحسين (ع) وفي قلبك ذرة من عبودية لغير الله عز وجل؟.
كذلك، تاكد من انك عزيز كريم، عزيز بايمانك وتقواك، كريم بما وهبك الله تعالى من نعمة العقل والارادة الحرة التي تنتصر بها على النفس الفاجرة الامارة بالسوء والشيطان الرجيم والدنيا الزائلة والهوى الذي يتبع من دون الله عز وجل، وقوي بعقيدتك التي تستلهمها من مدرسة اهل البيت (ع).
ان الحرية والكرامة ليستا شيئا ماديا لتشتريها بالمال او بالجاه والسلطة ابدا، وانما هما قيم نبيلة وعظيمة خلقها الله تعالى ووهبها لك عندما خلقك، فلا تتنازل عنهما باي شكل من الاشكال، وانما استشهد الحسين (ع) في عاشوراء في كربلاء من اجل ان يصون كرامته وحريته، اولا، ومن اجل ان يعلمك كيف تصون كرامتك وكيف تحافظ على حريتك فلا تفرط بها ثانيا، فعندما قال عليه السلام {هيهات منا الذلة} انما قصد كل من يسير على نهجه ويلتزم بخطه في كل زمان ومكان.
تذكر دائما قول الامام (ع) {كونوا احرارا في دنياكم} فبالحرية يعبد المرء ربه، وبها يختار الاحسن من كل شيء، وبها يحتفظ بكرامته وبها يصون دينه وماله وعرضه، وبها يحقق الاستقلال بعيدا عن التبعية للاخر، وبها يقف مع الحق وبها يرفض الباطل وبها يمارس حق الاختيار والانتخاب لمن يجد فيه الاهلية اللازمة ليمثله في مؤسسات الدولة كمجلس النواب او ما اشبه.
ان انصار الحسين (ع) احرار واباة ضيم يتمتعون بكرامة خارقة، وهم عندهم الحرية اثمن ما في كيانهم فتراهم مستعدون للقتل والاستشهاد من اجلها، وكذلك الكرامة فلا يقبلون بذل ابدا، الا ذل الطاعة لربهم.
(5)
تصور انك الان في طريقك للقاء الحسين (ع) في عاشوراء، فكيف ستأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ وهو، كما نعرف، الهدف الاسمى الذي نهض من اجله سيد شباب اهل الجنة عليه السلام، عندما قال {اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر}؟.
في البدء تذكر بان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدا من النفس ومن الذات قبل ان يمارسه الانسان مع الاخرين، فالذي لا يلتزم بمعروف كيف يجيز لنفسه ان يامر به غيره؟ ومن لا يمتنع عن منكر كيف يحق له ان ينهى عنه الاخرين؟ كيف؟.
لان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تعليم، والتعليم يبدا من الذات دون الاخرين ليكون الآمر والناهي قدوة واسوة فيما يامر وينهى، اما في غير هذه الحال، فان امره ونهيه لا يغير من الامر شيئا، لذلك قال امير المؤمنين (ع) {مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالاْجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِم}.
ان من يامر بالمعروف يجب ان يكون ملتزما به قبل غيره، وان من ينهى عن منكر يجب ان ينتهي عنه قبل ان ينهى عنه غيره، ليكون الامر والنهي مؤثرا في غيره، لان {أَكْبَرُ الْعَيْبِ أَنْ تَعِيبَ مَا فِيكَ مِثْلُهُ} على حد قول امير المؤمنين (ع) ولذلك قال عليه السلام {لَعَنَ اللَّهُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ}.
ولقد قسم امير المؤمنين (ع) الامرون بالمعروف الناهون عن المنكر الى عدة اقسام في قوله {فَمِنْهُمُ الْمُنْكِرُ للْمُنْكَرِ بيَدِهِ وَلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ فَذَلِكَ الْمُسْتَكْمِلُ لِخِصَالِ الْخَيْرِ، وَمِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبهِ وَالتَّارِكُ بِيَدِهِ فَذلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِخَصْلَتيَنِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِوَمُضَيِّعٌ خَصْلَةً، وَمِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَالتَّارِكُ بيَدِهِ وَلِسَانِهِ فَذلِكَ الَّذِي ضَيَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَيْنِ مِنَ الثَّلاَثِ وَتَمَسَّكَ بوَاحِدَة، وَمِنْهُمْ تَارِكٌ لاِنْكَارِ الْمُنكَرِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَيَدِهِ فَذلِكَ مَيِّتُ الاْحْيَاءِ} ويضيف عليه السلام في تبيان اهمية وعظمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله {وَمَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، عِنْدَ الاْمْرِ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنكَرِ، إِلاَّ كَنَفْثَة فِي بَحْر لُجِّيّ، وَإِنَّ الاْمْرَ بالْمَعْروُفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنكَرِ لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَل، وَلاَ يَنْقصَانِ مِنْ رِزْق، وَأَفضَلُ مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ كَلِمَةُ عَدْل عِنْدَ إِمَام جَائِر}.
وان من افضل طرق تحقيق الاستقامة في الذات هو ان ينظر المرء الى ما يكره في غيره ليقلعه من نفسه، يقول امير المؤمنين (ع) {كَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ اجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَ} فان {مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرهِ}.
مشكلتنا هي اننا ناخذ من الدين ما نريد وندع منه ما لا نريد، والى هذا المعنى اشار الامام الحسين (ع) بقوله {الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم، فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون} ولقد قال امير المؤمنين (ع) لعمار بن ياسر، وقد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاما {دَعْهُ يَا عَمَّارُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ مَا قَارَبَتْهُ الدُّنْيَا، وَعَلَى عَمد لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ، لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ} وهكذا هو حالنا، نحاول توظيف الدين لتبربر اخطاءنا او تقصيرنا او فشلنا، كما نحاول توظيفه لخدمة ما نحب وتميل اليه انفسنا.
ان انشغالنا بانفسنا عن الاخرين هي افضل ساحات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لانها ستؤسس لتغيير الذات والذي يعد حجر الزاوية في عملية التغيير الاجتماعي، ولذلك قال تعالى في محكم كتابه الكريم {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} اما امير المؤمنين (ع) فيقول {مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ، وَمَنْ خَافَ أَمِنَ، وَمَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ،مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ، وَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ} وهذه هي والله القاعدة الذهبية اللتي نحتاجها اليوم، فبدلا من ان نتعقب عيوب غيرنا لنتتبع عيوبنا اولا فنغيرها، وان نتيجة التغيير الذاتي ستكون التغيير المجتمعي.
لقد سأل رجل امير المؤمنين (ع) ان يعظه فقال له {لاَ تَكُنْ...يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ، وَيَعْمَلُ فِيهَا بَعَمَلِ الرَّاغِبِينَ... يَنْهَى وَلاَ يَنْتَهِي، وَيَأْمُرُ بِمَا لاَ يَأْتِي، يُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلاَ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ، وَيُبْغِضُ الْمُذْنِبِينَ وَهُوَ أَحَدُهُمْ}.
في الطريق الى كربلاء يجب ان نمارس الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الذات اولا، فلا نتركه باي حال من الاحوال، فان تركه سيغير المعادلات الاجتماعية لغير صالحنا بشكل مخيف، ولذلك اوصى امير المؤمنين (ع) ولديه السبطين الحسن والحسين عليهما السلام بقوله {لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ}.
(6)
لقد كان الحسين (ع) يمثل قمة المعروف عندما خرج على الطاغية يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى، كما انه كان الابعد عن المنكر، ولذلك فعندما كتب في وصيته لاخيه محمد بن الحنفية {اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر} انما قصدها بعينها فلقد كان على بصيرة من امره لم يدخل الشك في قلبه طرفة عين ابدا.
فما الذي علينا فعله، ونحن نحث الخطا الى كربلاء، لنصلح الحال ونغير الواقع؟.
ينبغي على كل راجل ان يقضي شطرا من الوقت في التفكير بوضعه الخاص بعيدا عن اي شيء آخر، فيعيد النظر في علاقاته الشخصية، اولا مع نفسه، هل هو ظالم لنفسه؟ هل هو يعطيها حقها في الغذاء والرعاية والتعليم والصحة والاستراحة، هل هو مصداق لقول امير المؤمنين (ع) {لِلْمُؤْمِنِ ثَلاَثُ سَاعَات: فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يَرُمُّ مَعَاشَهُ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا فِيَما يَحِلُّ وَيَجْمُلُ.
وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلاَّ فِي ثَلاَث: مَرَمَّة لِمَعَاش، أَوْ خُطْوَة فِي مَعَاد، أَوْ لَذَّة فِي غَيْرِ مُحَرَّم}.
ثم ليفكر في علاقاته مع الاخرين الاقرب فالاقرب، امه، ابوه، اخته، اخوه، زوجته، اولاده، المعلم، الطالب، رب العمل، الزميل في العمل، الجار، الصديق، وغيرهم وغيرهم، فليبدا بالتفكير مع نفسه وبكل صراحة وواقعية بعيدا عن تحميل الاخرين المسؤولية او التهرب منها، وكذلك بعيدا عن سياسة جلد الذات، وانما التفكير بطريقة سليمة وايجابية من اجل اصلاح اي خلل في العلاقة سواء مع النفس او مع الاخر.
ليسأل نفسه، هل انه بنى علاقاته مع الاخر على اساس {لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَة خَرَجَتْ مِنْ أَحَد سَوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً} على حد قول امير المؤمنين (ع)؟ ام انها قائمة على الشك والريبة والتربص والانتقام وغير ذلك من الصفات السيئة والمذمومة؟.
في المجتمع، هل ان البخل هو اساس علاقاتك مع الاخرين، خاصة في العائلة ومع الزوجة والاولاد؟ البخل الذي يقول عنه امير المؤمنين (ع) {الْبُخْلُ جَامعٌ لِمَسَاوِىءِ الْعُيُوبِ، وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بهِ إِلَى كُلِّ سُوء} ام الكرم هو اساس هذه العلاقات؟ فتبادر بالاجابة من يسالك، وتقدم النصح لمن يستشيرك، وتسارع الى الخيات قبل السؤال؟.
انذم الدنيا تمظهرا؟ ام حقا وصدقا؟ فلقد قال امير المؤمنين (ع) لرجل يذم الدنيا {أَيُّهَا الذَّامُّ للدُّنْيَا، الْمُغْتَرُّ بِغُرُرِهَا، الْـمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا! أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا؟ أَأَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا، أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ، أَمْ مَتى غَرَّتْكَ؟ أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ، وَكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ! تَبْغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُم الاْطِبَّاءَ، لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ، وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ، وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ! قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ، وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ. إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْق لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَة لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَاالرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ
فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِفِراقِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ،شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ؟! رَاحَتْ بِعَافِيَة، وَابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَة، ترغِيباً وَتَرْهِيباً، وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَذَكَرُوا، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا}.
بعد ذلك ليقرر ويجزم وليعاهد نفسه امام الحسين (ع) عندما يصل ضريحه المقدس بعد عناء الطريق ومشقة المسير، ان يحسن العلاقة السيئة ويقلع عنها ولا يعود اليها مهما كانت الظروف.
لتحس الزوجة بالتغيير في هذه العلاقة عندما يعود زوجها من زيارة الحسين (ع) وليحس الزميل في العمل بمثل هذا التغيير، وليحس الوالدين بمثل هذا التغيير، وليشعر الجميع بانك قد تغيرت وان مسيرك الى كربلاء ترك اثره الايجابي على سلوكك اليومي وطريقة تعاملك سواء مع نفسك، مع الذات، او مع الاخرين.
ان السير على الاقدام لزيارة الحسين (ع) لابد ان يترك اثره في نفوسنا، فيصلح فينا ما فسد من اخلاق وعلاقات وطريقة تعامل وطريقة تفكير، والا فانه سيكون كما قال امير المؤمنين (ع) {كَمْ مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ الْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الاْكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُم}.
ان فرصة السير الى الحسين (ع) عظيمة جدا اذا احسنا توظيفها في عملية اعادة النظر في علاقاتنا واخلاقياتنا وسلوكياتنا، ففي الطريق الى كربلاء يعيش المرء جوا ايمانيا وحسينيا قل نظيره، تكون النفس في ظله الاقرب الى ربها والى نبيها والى امامها، ولذلك تكون النفس مستعدة للنقد الذاتي وتقبل المحاسبة الذاتية مهما كانت شديدة، فلماذا لا نستغل الفرصة لرص الاولويات من جديد؟ واستبدال ما يحتاج الى الاستبدال بما هو افضل واحسن؟ ليشعر من نلتقيه عند العودة من الزيارة بتغيير الذات بشكل ملحوظ؟.
(7)
لقد ابتلي انصار الحسين (ع) اليوم بما ابتلي به رسول الله (ص) من وجود اسوأ ثلاثة انواع من الناس في المجتمع، هم الذين وصفهم القران الكريم بقوله {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا}.
النوع الاول؛ هم المنافقون الذين يبطنون غير ما يظهرون من افكار ومواقف، فتحدث عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} وهم لبعضهم، همهم في المجتمع قلب الموازين والمفاهيم ليتصيدوا في الماء العكر، فيصفهم القرآن الكريم بقوله {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
والنوع الثاني؛ هم الذين في قلوبهم مرض، يتقلبون في المواقف والاراء تقلب الليل والنهار كونهم يميلون مع كل ريح، لا يهمهم من الحق والباطل شيئا، كما انهم لا يعيرون للصالح العام اية قيمة، فمصالحهم الشخصية فوق اي اعتبار آخر، فاذا تحققت مع الحق كانوا من دعاته والمتقاتلين عليه، واذا ضمنوها مع الشيطان كانوا من حزبه، انهم يتلونون تلون الحرباء، بسبب اصابتهم بمرض الشك والتردد، لا تراهم الا عند شهادة الزور، عامة كانت ام خاصة لا فرق، انهم الغوغاء الذين يحدثنا عنهم امير المؤمنين (ع) بقوله في صفة الغوغاء {هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا غَلَبُوا، وَإِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُعْرَفُوا. وقيل: بل قال: هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا ضَرُّوا، وَإِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا. فقيل: قد علمنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟ فقال: يَرْجِعُ أَصْحَابُ الْمِهَنِ إِلَى مِهَنِهِمْ، فَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِمْ، كَرُجُوعِ الْبَنَّاءِ إِلَى بِنَائِهِ، وَالنَّسَّاجِ إِلَى مَنْسَجِهِ، وَالْخَبَّازِ إِلَى مَخْبَزِه} وقال (ع) وقد أُتي بجان ومعه غوغاءُ {لاَ مَرْحَباً بِوُجُوه لاَ تُرى إِلاَّ عِنْدَ كُلِّ سَوْأَة}.
اما النوع الثالث؛ فهم المرجفون الذين يشيعون الباطل والاكاذيب من الاخبار والانباء ويلقون الشكوك والتساؤلات غير المنطقية، وكل ذلك من اجل اشاعة البلبلة في صفوف المجتمع، ما يخلق لهم جوا اجتماعيا مريضا يساعدهم على الاكتساب منه وتحقيق انانياتهم، انهم الكذابون في المجتمع الذين شغلهم الشاغل نشر الاشاعات والدعايات الكاذبة، ولقد حذرنا منهم رب العالمين بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وبسبب ما اتاحته لنا التكنلوجيا اليوم من تعدد وتنوع وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، السهلة والمجانية والسريعة، فان صنف (المرجفون) ازداد بشكل مهول فاذا بهم يدخلون معنا الى مخادعنا وعند وجبة الطعام وفي الشارع وفي المدرسة وفي كل مكان، يبذلون جهدا مضاعفا من اجل اشاعة الاكاذيب والافتراءات والشكوك عند الناس، بالخبر والصورة والمعلومة والقصة وفي كل شيء، ليس من اجل التفكير للتوصل الى الحقائق مثلا، ابدا، وانما من اجل اشغال المجتمع بالتوافه وبتساؤلات غير عقلانية وغير منطقية، وكذلك لزرع الشك والريبة في كل شيئ، فتارة يكون هذا الشيء عقائد وافكار وثوابت وقيم، وتارة يكون هذا الشيء رموز ومرجعيات وزعامات، وتارة يكون هذا الشيء شعائر وادوات ووسائل تهدي المجتمع الى رضا الله تعالى من خلال التسلح بالتقوى.
في طريقنا الى الحسين (ع) سيزداد نشاط (المرجفون) بشكل واسع، لانهم يرون في مسيرة الاربعين فرصة للخداع والتضليل على اعتبار ان الرجالة ليس لهم عمل محدد يؤدونه سوى السير حثيثا صوب الحسين (ع) فلماذا لا يشغلونهم باراجيفهم اذن؟.
ومن اجل ان نضيع على (المرجفين) الفرصة ونسقط خططهم بالضربة القاضية، فان علينا ان لا ننشغل بالقيل والقال ابدا، وان نبتعد عن مواطن الشبهة في الحوار والكلام، وان لا نتورط بالجدال العقيم في اية قضية من القضايا، وان لا ننشغل بالتوافه في الكلام والعمل، وهذا الامر يحتاج منا جميعا ان ننوي القربة الى الله تعالى لحظة الشروع بالسير الى كربلاء، وان نخلص النوايا ونطهر النفوس من ادران الدنيا الزائلة، لنكون بمستوى المناقبيات التي تمثل بها انصار الحسين (ع) في يوم عاشوراء، والذين كان احدهم على يقين من دينه وربه وامره ونبيه وامامه ما لا يشق له غبار فنقرا في زيارة قمر بني هاشم {اشهد انك لم تهن ولم تنكل وانك مضيت على بصيرة من امرك مقتديا بالصالحين ومتبعا للنبيين} فلا اشاعة اثرت في يقينه، ولا كذبة قللت من عزيمته، ولا مرجفا اثر في شكيمته، فلنكن مثله او في الطريق اليه.
(8)
من من الذين يسيرون الى الحسين (ع) يرفض ان يتقمص آثار شخصية انصار الامام في يوم عاشوراء؟ بالتاكيد لا احد يرفض، فكل من يسير الى كربلاء يتمنى لو انه يتقمص الشخصية الكربلائية العاشورائية بابهى صورها، فكيف نحقق ذلك؟.
تعالوا، ونحن في الطريق الى كربلاء، ننشغل بما انشغل به الحسين (ع) واهل بيته واصحابه في ليلة عاشوراء، وهم يستعدون للموت في سبيل الله عز وجل.
لقد استمهل الامام (ع) القوم سواد ليلة عاشوراء ليس من اجل تصفية حسابات شركاته العملاقة او لنقل امواله الطائلة من مصرف الى آخر أأمن واكبر، او ليوزع تركته على الورثة في حياته وقبل ان يموت، ابدا، وانما من اجل ان يوظف الوقت المتبقي له والذي يفصله عن الجنة، للتقرب اكثر فاكثر الى ربه، كيف لا وهو النموذج الذي يتحدث عنه القرآن الكريم بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}؟ الم يقل عنه جده رسول الله (ص) {احب الله من احب حسينا}؟.
يصف التاريخ الحال التي قضى فيها الحسين (ع) واهل بيته واصحابه ليلة العاشر من المحرم بقوله:
قضى الإمام الحسين (ع) وأصحابه ليلة العاشر من المحرم بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن، وكان لهم دويّ كدوي النحل، وحركة واستعداد للقاء الله سبحانه، يصلحون سيوفهم ورماحهم.
انهم قضوا ليلتهم بالاستعداد الروحي والمادي، الروحي للقاء الله تعالى والمادي للقاء العدو، وهذا ما يجب ان يكون عليه انصار الامام (ع) اليوم وهم يسيرون اليه مشيا على الاقدام، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف} اولم يخبرنا العزيز الجبار بقوله في محكم كتابه الكريم {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}؟ فلو كنا قد اعددنا لهذا اليوم عدته، افهل تمكن منا الارهابيون القتلة الذين لازالوا يستبيحون دماءنا في الشوارع؟.
فلنقضي الوقت الذي سنقضيه في الطريق الى كربلاء، اذن، بما يلي:
الف؛ قراءة القرآن والتدبر في آياته والسعي لحفظ ما تيسر منها.
ليطالع الواحد منا تفسيرا او اكثر لعدد من آيات القرآن الكريم، فان في ذلك زيادة في المعرفة والعلوم.
باء؛ الدعاء والتضرع، ليرفع الله تعالى عنا هذه الغمة ويرحمنا ويهدينا للتي هي اقوم، وان يطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وأعيننا من الخيانة، وألسنتنا من الكذب وايدينا من السرقة.
ولا ننسى ان نردد دعاء الفرج لامامنا وقائدنا وسيدنا صاحب العصر والزمان (عج) ليعجل في فرجه ويجعلنا من انصاره واعوانه والمستشهدين بين يديه.
لقد توجه الحسين الشهيد (ع) الى ربه في يوم العاشر من المحرم وقبل بدأ المعركة الفاصلة ليدعوه بقوله {اللهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما يشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب اليك، قادر على ما اردت، مدرك ما طلبت، و شكور إذا شكرت، و ذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاج وأرغب إليك فقيرا وأفزع إليك خائفا، و أبكي إليك مكروبا، و أستعين بك ضعيفا، و أتوكل عليك كافيا، أحكم بيننا و بين قومنا فانهم غرونا وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا، ونحن عترة نبيك وولد حبيبك محمد بن عبد الله، الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من امرنا فرجا ومخرجا برحمتك يا ارحم الراحمين. اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته اليك، رغبة مني اليك عمن سواك فكشفته وفرجته}.
ولا يختلف حالنا اليوم عن بعض ذلك الحال، فقد تكالب علينا الارهابيون من كل حدب وصوب، فاذا اكثرنا من الدعاء، ونحن في الطريق الى كربلاء، فسنتعلم منه ان لا نمد ايدينا الى غير رب الارباب، فنزداد ثقة به عز وجل ويقينا باسمائه الحسنى التي امرنا ان ندعوه بها، واذا ازددنا ثقة ويقينا، عندها لن يرهبنا شيئ ابدا، ولن يخيفنا امر ابدا، وسنقتحم الحياة الصعبة بثقة عالية بالنفس، وهو اول شروط النجاح، لان الياس او الخوف او التردد، ان كل ذلك من عوامل الضعف والهوان، لانها تثبط الانسان من اقتحام غمار التحديات، وهل وجدتم نجاحا بلا تحديات؟ او تقدما بلا صعوبات؟.
ان الدعاء يساعدنا على تحسين علاقاتنا مع ربنا عز وجل، واصلاح سرائرنا، واذا تحقق ذلك، تحقق لنا النصر باذنه تعالى، بعد ان تتحسن بذلك علاقاتنا مع الناس، يقول الامام (ع) {مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلاَنِيَتَهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِدِينِهِ كَفَاهُ اللهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِيَما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ كَفَاهُ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ}.
(9)
عدد من المناقبيات الاستراتيجية علينا ان نتذكرها في سيرة سيد الشهداء الامام الحسين (ع) لنتعلمها فنتقمصها، ونحن في طريقنا اليه، منها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ لا تستبد برايك، واصغ الى من هو اكبر منك عمرا واكثر منك خبرة وتجربة للتعلم منهم، ففي الحديث {من استبد برايه هلك} لان {من شاور الرجال شاركهم عقولهم}.
واذا اردت ان توطن نفسك على الاستشارة، فان عليك اولا ان تتحلى بمكارم الاخلاق، ليسع صدرك آراء الاخرين، فان ضيق الصدر، بتشديد الياء، يضيق عقله بآرائهم، ولذلك قال تعالى في محكم كتابه الكريم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} انظروا كيف ربط الله تعالى مكارم الاخلاق بالمشورة، وتذكر دائما بانك لست الوحيد الذي تفهم في هذا العالم، بل ربما انت اقلهم علما وفهما، من يدري؟.
ان التكبر والاعتداد بالراي والظن بكمال العقل، كلها صفات تحول دون الاصغاء للاخرين، وبالتالي تحرم صاحبها التمتع بفوائد المشورة.
ما اجمل واروع ان تتحول ثقافة الاستشارة الى جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ومن ثقافتنا العامة، فالكل يستشير الكل من ذوي الاختصاص والخبرة كلما هممنا بامر او مشروع او اردنا الاقدام على شيء.
ـ لا تستعجل عند اتخاذك القرار، اي قرار، يخصك شخصيا او يخص العائلة او الرعية، لا فرق، فالتاني قبل الجزم والتفكر قبل الحزم يقيك الندامة كما يجنبك دفع الثمن بلا نتيجة، ولذلك جاء في الاثر {في العجلة الندامة} الامر الذي يتطلب منا ان نحترم الزمن دائما لنمنحه فرصة انضاج الفكرة والرؤية.
وعندما تريد ان تدلي برايك او تتحدث في موضوع، فلا تستعجل، فكر جيدا واعد التفكير ثانية، وتذكر دائما بان {الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَة}.
ـ تحسس دائما ثقل المسؤولية التي تحملتها عندما قررت ان تكون من انصار الحسين (ع) والتي اشفقت منها المخلوقات {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} وتذكر دائما بان لا تقف عند شيء لا تعرف عنه شيئا، يقول تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فان الله تعالى لم يخلقنا عبثا ابدا وهو القائل عز وجل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}.
ـ حارب الصفات السيئة في نفسك لتحاربها عند غيرك، ولعل من اخطرها الغرور والحرص والبخل والحسد، وانما يتشبث المسؤول عندنا بالسلطة على الرغم من فشله الذريع، لانه يحرص على الدنيا الزائلة فيتصور بان الفلك قد توقف عن الدوران لحظة تسنمه موقع المسؤولية، ولذلك قال رسول الله (ص) {اخوف ما أخاف عليكم أثنتان: طول الأمل واتباع الهوى، وان طول الأمل ينسى الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق} ولقد قال امير المؤمنين (ع) {الْبُخْلُ جَامعٌ لِمَسَاوِىءِ الْعُيُوبِ، وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بهِ إِلَى كُلِّ سُوء}.
ـ تحسس دائما ضعفك امام الله تعالى وقوتك امام الشيطان والنفس الامارة بالسوء والهوى المتبع والدنيا، ولذلك توكل على رب العزة في السراء والضراء والجأ اليه في الامور كلها، وردد ابدا دعاء الحسين (ع) في يوم العاشر من المحرم اذ قال {اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة} فهو اعظم ملجا واقوى حصن وامنع ركن {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.
ـ ولان التحديات عظيمة لا يمكن للانسان ان يواجهها من دون توفيق من الله تعالى، لذلك فان استنزال الرحمة والنصر والتوفيق من الله تعالى امور ضرورية في حياتنا اليومية، ولا يتحقق ذلك الا بالاخلاص له عز وجل والخضوع له دون سواه، يقول امير المؤمنين (ع) {فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصرَ} فبالصدق مع الله تعالى يستنزل العبد مدده ورحمته ونصره عز وجل، والذي لا يتجلى الا بالصدق مع النفس اولا واخيرا، والذي يظهر على ارض الواقع بالسلوك اليومي {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}.
(10)
ماذا يعني ان يكون الامام الحسين (ع) {مصباح الهدى وسفينة النجاة}؟.
انه يعني انه عليه السلام:
الف؛ مصباح يضيء الطريق لمن يهتدي الى الحق، او قل لمن يقرر ان يهتدي الى الحق، وان هذا النور ليس حكرا لاحد دون احد ابدا، فكل من اراد ان يتخذ من الحسين (ع) نور يهتدي به، فبمقدوره ذلك.
باء: انه مصدر للنجاة لمن يقرر، كذلك، ان ينجو بنفسه من المهالك، سواء الدنيوية منها او الاخروية، وان مصدر النجاة هذا، كذلك، ليس حكرا على احد دون احد، حتى الناصبي اذا ما قرر ان ينجو بالحسين (ع) في يوم من الايام فان بمقدوره ذلك.
ولهذا السبب قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام {كلنا سفن النجاة ولكن سفينة جدي الحسين أوسع وفي لجج البحار أسرع} اي انها تستوعب البشرية كلها، اذا ما قررت ركوبها في يوم من الايام.
لقد اعطى الحسين (ع) كل شيء لله تعالى فاعطاه رب العالمين كل شيء، ولعل من اعظم ما اعطاه تعالى هو تربع حبه وعشقه في قلوب الناس، كل الناس، الا الصنف الثاني الذي شخصه امير المؤمنين (ع) بقوله {لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَاأَبْغَضَنِي، وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي: وَذلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الاْمِّيِّ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: يَا عَلِيُّ: لاَ يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ}.
ولذلك، وانت في طريقك الى الحسين (ع):
فكر في كل طريقة تخدم بها الناس، صغيرهم وكبيرهم، المرأة والرجل، المحتاج وغير المحتاج، الذي تعرفه والذي لا تعرفه، لتكون حياتك وسيرتك كلها خير وبركة في المجتمع {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} واسال الله تعالى بقوله {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} وتذكر دائما بان {حوائج الناس لديكم من نعم عليكم} وان الله عز وجل سيسلب منك هذه النعمة اذا قصرت في ادائها او لم تعطها حقها، فلقد قال امير المؤمنين (ع) {إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ، ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ} فقد تكون انت من هؤلاء العباد، منحك الله قوة او مالا او جاها او علما او سمعة طيبة او موقعا اجتماعيا او اي شيء تقدر به على خدمة الناس، فلماذا لا تبذل ما وهبك الله لخدمتهم ومنفعتهم؟ لا تستصغر نفسك وقدرتك على خدمة الناس، والا فانه تعالى سيسلب منك هذه الميزة والقدرة ويعطيها لغيرك، ولقد قال امير المؤمنين (ع) {إِنَّ لله فِي كُلِّ نِعْمَة حَقّاً، فَمَنْ أَدَّاهُ زَادَهُ مِنْهَا، وَمَنْ قَصَّرَ مِنْهُ خَاطَرَ بِزَوَالِ نِعْمَتِهِ}.
وان خدمة الناس تحتاج الى ان نتذكر اربعة امور في غاية الاهمية:
الاول: هو ان نقدم هذه الخدمة بغض النظر عن حجمها، فلا تستصغر خدمة او تستكثر اخرى، بل لتكن نيتك تقديم الخدمة على اية حال، فقد تتصور انها صغيرة الا انها كبيرة عند من تبذلها له لشدة حاجته اليها، والعكس هو الصحيح، فقد تتصور بانها كبيرة جدا الا انها صغيرة في عين من تبذلها له لقلة حاجته لها، المهم ان تؤدي انت دورك والبقية على الله تعالى وعلى من تبذل له الخدمة، وانتبه ان تستح من اعطاء القليل، فقد قال امير المؤمنين (ع) {لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ} ويقول (ع) {افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَاللهِ كَذلِكَ، إِنَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَهْلاً، فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ}.
الثاني: وهو الذي ذكره الامام (ع) في النصف الثاني من قوله اعلاه، فلا تتردد في فعل الخير وخدمة الناس وظنك ان غيرك اولى به او اقدر عليه، ابدا، بادر انت اليه ودع عنك غيرك، ان بادر فبها وان لم يبادر فذاك وشانه، وتيقن بان كل انسان يقدر على فعل الخير وخدمة الناس اذا ما قرر ذلك وتوكل على الله تعالى.
الثالث: لا تفسد خدمتك للناس بالمن والاذى، او بالتشهير والاشهار والاعلان، فلقد حذرنا الله تعالى من هذه الصفة المذمومة بقوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} اما امير المؤمنين (ع) فيقول {لاَ يَسْتَقِيمُ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ إِلاَّ بِثَلاَث: بِاسْتِصْغَارِهَا لِتَعْظُمَ، وَبِاسْتِكْتَامِهَا لِتَظْهَرَ، وبِتَعْجِيلِهَا لِتَهْنؤ}.
الرابع: هو ان لا تنتظر الشكر ممن تقدم له الخير او المعروف او الخدمة، فقد لا تجد احدا منهم فتقطع خدماتك ومعروفك، وهذا اكبر خطأ يرتكبه المرء في حياته، فان فعل الخير له عواقب معنوية وغيبية، فليست كلها مادية تتمثل بشكر الناس لفاعلها، فاذا تركت فعل الخير فستفقد هذا البعد المعنوي منها، ولذلك قال امير المؤمنين (ع) {لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْء مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ، (وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ)} فكن انت المحسن، وان لم تشكر، بضم التاء، على حسنة فعلتها لاحدهم.
(11) والاخيرة
لقد احب الحسين (ع) لغيره ما احب لنفسه، ولذلك اصبح اليوم بابا من ابواب الرحمة ورضى الله تعالى، واذا اردنا ان نكون من انصاره واعوانه فعلينا، كذلك، ان نحب لغيرنا ما نحب لانفسنا.
اسع دائما لفتح ابواب الخير للاخرين، فلقد قال رسول الله (ص) {الدال على الخير كفاعله} فربما لا تقدر انت على فعل الخير لاي سبب من الاسباب، ولكن بامكانك ان تدل عليه وتهدي اليه، الامر الذي يحتاج منك الى ان تتصف بحب الناس ونكران الذات، وان لا تكون انانيا او طماعا او حريصا او متكبرا او حسودا، فان الاناني لا يحب الخير للاخرين، فكيف يفتح لهم ابوابه؟ كما ان الطماع يسعى لاحتكار كل فرص الخير لنفسه فلا يدل غيره عليها، وانه يحاول الاستئثار بفرص الخير واحتكارها لنفسه دون غيره حتى اذا لم يكن يقدر على استيعابها، ولذلك وصف امير المؤمنين (ع) هذه الصفات السيئة بقوله {وَالْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاع إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ، وَالشَّرُّ جَامِعُ مَسَاوِىءِ الْعُيُوبِ}.
ربما يظن البعض بانه اذا تمتع بفرص الخير دون سواه فسينهض وينمو لوحده دون الاخرين، وهذا محض هراء، لان المرء لا ينهض بمفرده ابدا، وانما ينهض بالمجتمع، مثل ما ان المجتمع ينهض به، ولذلك نرى ان الاسلام يحث على مبدا التكافل الاجتماعي بدرجة كبيرة جدا، لان المجتمع الهابط يهبط به الفرد كذلك، مهما اوتي من قدرات وامكانيات وفرص، والعكس هو الصحيح، فالمجتمع الناهض ينهض معه الفرد، الا ترون كيف ان المواطن من البلدان المتخلفة، والتي يسمونها بالنامية، يتميز اذا ما سنحت له الفرصة وهاجر الى اي بلد من بلدان العالم المتحضر؟ ترى، هل سيتميز اذا ظل في بيئته المتخلفة والمتردية؟ بالتاكيد كلا، فهذا امير المؤمنين (ع) يصف هذه الحالة بقوله {لكِنِّي أَسفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا} كما انه يتحدث عن حالة التكامل في المجتمع بهذا الخصوص فيقول عليه السلام {وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخذْلاَن، حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلْكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ.
للهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وها أناذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ! وَلكِنْ لا رَأْيَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ!} فلم يكن ليكفي ان يكون الامام عالما بالدين والسياسة والحرب، لينهض بمسؤولياته على افضل وجه، وانما كان لابد من نهوض المجتمع كذلك، فلما ارتد الاخير لم يعد بامكان الامام ان يغير شيئا، فقال {لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هذِهِ الْمَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءَ}.
تعالو، اذن، ننهض وينهض معنا المجتمع، ننهض بفرص الخير فننتهز منها ما يمكننا ان نستوعبها، وندل غيرنا على ما لا نقدر على استيعابه منها.
من جانب آخر، يظن البعض بان فرص الخير والنجاح والنهوض محدودة في هذه الحياة، ولذلك يسعى لاحتكارها لنفسه فلا يدل عليها احدا، خوفا من ان تنتهي فلا يبقى له منها شيئا، هذه الطريقة من التفكير، هي الاخرى، محض هراء، ففرص الخير كثيرة جدا تكفي لكل الناس واكثر، وان فرص النمو والنهوض والتقدم، هي الاخرى كثيرة جدا، وهي غير ثابتة لتنتهي في يوم من الايام، بل انها متجددة ومتطورة بتجدد الزمن وتطور الحياة، فلماذا نخشى ان تنتهي يوما ما فنسعى لاخفائها مثلا او احتكارها والاستئثار بها؟.
من جانب ثالث؛ من يقول بانك قادر على استيعاب كل انواع فرص الخير لتحتكرها لنفسك دون الاخرين؟ ان قدرات اعظم انسان في هذا الكون محدودة في استيعاب فرص النهوض، ان على مستوى العدد او على مستوى النوع، ولذلك، ليبادر احدنا الى اقتناص الفرصة التي يرى نفسه اهلا لها وقادر على استيعابها، وليدل الاخرين على الفرص الاخرى، من اجل ان لا تمر فرصة الا وقد استغلها احدنا، بدلا من ان تضيع فلا يستفيد منها اي احد، وان المرء بحاجة الى الاحساس العميق جدا بالهدف المشترك، الوطني هنا، ليبادر الى اقتسام فرص الخير والعمل الصالح، كما ان الامر بحاجة الى احساس اعمق بالايثار، والا فانه لا احد يمكنه ان يستفيد من مثل هذه الفرص، فعندما يظل المجتمع متخلفا ومتراجعا، كيف يمكن لواحد ان يتقدم ويتطور بالفرص التي ستضيع من غير رجعة؟.
6 كانون الاول 2013
NHAIDAR@HOTMAIL.COM