في العراق معتقَلون ونازحون من غير أمل
المصدر: صحيفة النهار العربي
فاروق يوسف
في العام 2005 أصدر مجلس النواب العراقي قانون مكافحة الإرهاب. في المادة الرابعة من ذلك القانون، التي سميت "أربعة ارهاب"، ما يوحي بأن القانون برمته موجه ضد طائفة معينة. احتوت تلك المادة على بندين، الأول: "يُعاقبُ بالإعدامِ كل من ارتكبَ بصفتِهِ فاعلاً أصلياً أو شريكاً في الأعمالِ الإرهابية، ويُعاقَبُ المحرضُ والمخطط والممولُ وكلُّ من مكّن الإرهابيينَ من القيامِ بالجريمةِ كفاعلٍ أصلي" .أما البند الثاني فينص على "العقابِ بالسجنِ المؤبدِ على كلِ من أخفى عن عمد أي عملٍ إجرامي أو تستَّرَ على شخص إرهابي".
كان العراق يومها على أبواب حرب أهلية ستستمر نحو سنتين، كان نوري المالكي، وهو أكثر زعماء الشيعية السياسية تطرفاً في طائفيته، فيهما رئيساً للحكومة. وبالعودة إلى الوقائع الدامية التي شهدها العراق في تلك المرحلة يبدو القانون، وبالأخص المادة الرابعة منه، تمهيداً ممنهجاً لإطلاق يد الحكومة والميليشيات في اعتقال كل من تحوم حوله الشبهات على صعيد إخفاء المعلومات والتستر على الإرهابيين وتمويلهم أو الوقوف إلى جانبهم، ناهيك بالقيام بأعمال إرهابية مزعومة بحسب معلومات المخبر السري.
وفي خضم الحرب الأهلية وما تلاها لم يكن الإرهاب يستند إلى مفهوم واضح. كان العدو الطائفي، إن كان مسلحاً أو لم يكن كذلك، هو الإرهابي بالضرورة. ومن الواضح أن أعمال القتل والتعذيب والاعتقال كانت تستند إلى المادة "أربعة إرهاب" التي فتحت أبواب المقابر والسجون السرية والعلنية لأبناء طائفة كانوا هدفاً لانتقام المنتصرين الذين سلمهم المحتل الأميركي مقاليد السلطة في ظل حماية مطلقة. ورغم ما شهده العراق من تسليم للسلطة وكتابة للدستور وانتخابات فإنه كان محتلاً تجوب مدنه القوات الغازية.
مزحة في مواجهة محميات إيرانية
بناء على المادة "أربعة إرهاب" تخلص نوري المالكي من كل خصومه السياسيين من المكوّن السني الذين سبق لهم أن كانوا شركاء في الحكم متمتعين برضا أميركي. يومها أدار الأميركيون ظهورهم لما يحدث، فامتلأت سجون الدولة وسجون الميليشيات بالمعتقلين، نساء ورجالاً. وإذا ما كانت القوات الأميركية أعلنت عن عثورها على عدد من السجون السرية وإطلاق سراح المعتقلين فيها، فإنها لم تنف وجود سجون سرية أخرى كان السجناء فيها يعيشون ظروفاً قاهرة، تُنتزع منهم الاعترافات تحت التعذيب من غير أن يتمتعوا بحقوقهم المدنية بعدما ألصقت بهم تهمة الإرهاب التي شملت عوائلهم التي أخذت الميليشيات بتهجيرها من مدنها وقراها، لتنضم إلى حشود النازحين الذين لم يتمكنوا حتى الآن من العودة إلى أماكن سكنهم التي استقرت فيها الميليشيات.
كان هناك عشرات الآلاف من العراقيين ممّن ينتظرون تنفيذ الحكم بإعدامهم. لم يكونوا دواعش، إذ أن تنظيم "داعش" لم يكن قد ظهر حينما تم اعتقالهم. وهناك مئات الآلاف من العراقيين يسكنون الخيام في انتظار العودة المستحيلة إلى ديارهم التي استولت عليها الميليشيات التابعة للحرس الثوري. تلك أماكن لا يقوى رئيس الحكومة العراقية على التفكير بزيارتها، فهي محميات إيرانية. اما التفكير بعودة النازحين إلى ديارهم فقد كان مجرد مزحة طرحها حزب "تقدم" الذي يتزعمه رئيس البرلمان محمد الحلبوسي شرطاً من أجل الموافقة على تأليف الحكومة الحالية.
عقاب جماعي لا نهاية له
من المؤكد أن المعتقلين الأبرياء قد تحولوا الآن إلى أشباح بشرية. مدنهم تحولت إلى معسكرات. ولكن عوائلهم هي الأخرى رهن الاعتقال في مخيمات النزوح. هناك أجيال لم تتعرف الى المدرسة أو حُرمت منها. يقف اليوم نوري المالكي في مقدمة الرافضين لإنهاء تلك المأساة الإنسانية. واقعياً فإن الحكومة العراقية لن تجرؤ على فتح أبواب سجون لا تعرف شيئاً عن مصير المعتقلين فيها. في المقابل فإنها لا تملك القدرة على إخراج الميليشيات من مدن، صار بعضها إيرانياً بالكامل.
في ظل هذا الواقع تبدو المطالبة بإنهاء تلك المأساة الوطنية أشبه بالنفخ في قربة مثقوبة. لا لأن الحكومة عاجزة عن القيام بشيء يُغضب الميليشيات والأحزاب التي تقف وراءها فحسب، بل وأيضا لأنها لا ترغب في أن تفتح ملفاً قد يؤدي إلى سقوطها من خلال سحب الثقة منها. فمجلس النواب تتألف غالبيته من نواب ينتمون إلى أحزاب طائفية متشددة لا ترى في ذلك العقاب الجماعي إلا استحقاقاً تاريخياً. أما الأقلية النيابية التي كانت قد شاركت في الالتفاف على الدستور وهي تأمل صدور قانون العفو العام، فإن انسحابها من مجلس النواب لن يكون مؤثراً في النصاب إذا ما جرى التصويت على تشريعات جديدة.
مدن يحتلها محرروها
ولكن المسألة إذا ما اتخذت شكل تجاذبات بين الأحزاب الحاكمة تحت قبة مجلس النواب، فإنها في حقيقتها تدخل في إطار الهيمنة الإيرانية التي تفرضها الميليشيات الولائية على الأرض. ولأن إيران في حاجة إلى ممر داخل الأراضي العراقية يصل إلى الأراضي السورية، فإن هناك حاجة إلى السيطرة المغلقة على مدن في شرق العراق وغربه تقع ضمن ذلك الممر الذي تعتبره إيران ضرورياً لتنفيذ سياستها في المنطقة. وليس مستبعداً أن تكون إيران قد خططت في سنوات سابقة أن تقع تلك المدن أو عدد منها تحت سيطرة "داعش"، وهو ما ينتج منه تهجير سكانها ويسمح للميليشيات بدخولها ومن ثم الاستيلاء عليها ومنع الأهالي من العودة إلى بيوتهم. وهكذا تحولت المدن المحررة إلى مدن محتلة.
لذلك يمكن القول إن كل جدال محلي في شأن البحث عن حلول لتلك المأساة انما هو للاستهلاك الإعلامي. فلا السجون ستُفتح ولا أحكام الإعدام التعسفية سيُعاد النظر فيها، علماً أنها لن تُنفذ، ولا النازحون وهم قرابة المليونين سيعودون إلى ديارهم ما لم يغير الإيرانيون سياستهم في العراق أو يُجبروا على القيام بذلك.