Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

في ذكرى سميلي .. متى سيكبر هذا الطفل الآشوري ؟

هل سيبدأ الجميع بالبكاء؟
أتذكر هذه الجملة رغم السنين الطويلة التي مرت عليها، كيف لا، وهي الجملة التي سرقت شيء من طفولتي وأثقلتني بذكريات وصور تلاحقني أينما رحلت، تذكرني بأن النسيان خطيئة، والذكرى مجرد واجب لا أكثر.



كنت قد سمعت كلمة سميلي قبلها عدة مرات، وفي كل مرة كانت تُذكر سميلي، كان الصمت هو سيد الموقف، ولكن ليس للحظات طويلة، فقد كان البكاء هو الطقس المعتاد. كل شيء يكون هادئاً.. الدموع.. الوجوه... مشهد لا شك انه تكرر كثيراً، لكن رؤيتي له تغيرت بعد ان قابل رجل عجوز سؤالي ذاك قائلاً:

" انها سميلي، وعندما تكبر وتفهم ما حصل في سميلي، ستفعل ذات الشيء!"

أردت ان أكبر بسرعة، فبدأت استمع، أحياناً لم يكن الكبار ليكترثوا لوجود من هم أصغر سناً، وأحياناً كانوا يفضّلون إبعادنا، في الحالتين كان لغز سميلي يكبر ويكبر وكبرنا معه.

بين رائحة الجثث وصرخات الاطفال وعويل النساء، قادتني سميلي إلى تاريخ طويل ارهقني وأفرحني في ذات الوقت. 6000 أعوام إلى الوراء. امبراطوريات وحضارات وانجازات وابداعات... أبراج وحدائق معلقة.. لم يكن في نيتي العودة من هذا التاريخ ولا من تلك الحدائق، لكن ثمة شيء كان يدعوني للعودة سريعاً إلى سميلي وحديقتها المخضبة بالدم، فالوجوه التي كنت أراها، كانت متعبة وشاحبة، لم تكن تحمل علامات العظمة والجبروت التي حملها اشور بانيبال ونبوخذ نصر وغيرهم الكثيرين. جلّ ما كنت أراه، سواعد مرهقة أضناها العمل، وأجساد أنهكها الحل والترحال.

حكايا كلها من الماضي. ذكريات كلها حزينة. صور كم كانت مرعبة. للحظات كنت أتساءل، ألا يملك هؤلاء غير هذه الحكايا؟ ألا يتحدثون ولو قليلاً عن المستقبل؟ لاحقاً وعندما وقعت على مزيد من المنشورات والكتب التي تتحدث عن سيميلي وعن الفظاعات التي ارتكبت فيها، ادركت ان التاريخ توقف عندهم، توقف في تلك اللحظات التي اجتمعت فيها أطراف عديدة يجمعها شعار واحد [ الفتك بشعب بريء ]. يومها أدركت لماذا لا يتقنون سوى لغة الدموع.. لماذا يشتاقونها بل ويعشقونها؟.

لم اكن لأهضم هذا السيل من الاخبار والاحداث والجرائم والمؤامرات. لم اكن لأستوعب كيف ان دول عظمى تخلّت عن حلفائها [ الصغار ] بل كنت اتساءل وبسذاجة / حينها / كيف تجاهلت عصبة الامم المكونة من امم مسيحية، حقوق شعب يدين بالمسيحية!.

كنت ارى سميلي في مذبحة صورية ومذابح السفاح بدرخان ومذابح سيفو. احداث جسام تجعلك أسير الماضي شئت أم أبيت. وحدهم ضحايا سميلي كانوا يعيدونني، وهذه المرة إلى الحاضر، اليوم فقط، أدركت انها كانت وصايا لمحاربين كان في اعماقهم توق للمجهول، فلربما بعض الراحة، أو ربما بعض الخلود في ذلك المجهول.. نعم بحث عن الخلود ولكن ليس على طريقة جلجامش.. فهم كانوا قد خُلدوا حتى قبل رحيلهم.

هم رحلوا وبقيت تضحياتهم ووصاياهم...

لكن ماذا عنا نحن أبناء سميلي أو أحفادها. ماذا نقول في هذه الذكرى؟ هل بقي من كلام ليُقال؟ هل تكفي دقيقة صمت وبضعة شموع وبضع كلمات للاحتفاء بهذه المناسبة؟.

للشهداء مراتبهم الخاصة في كل ثقافات الشعوب، فما الجديد إذا نحن أولينا شهدائنا مرتبة خاصة؟

هي نفس الكلمات ترددها الشعوب في شهدائهم.. تبجيل وتعظيم. فهل من جديد إذا نحن استعرضنا؟

ولكن هل كل الشعوب مثل شعبنا....؟! ( هكذا يذكره دعاة الحفاظ على البيئة من التلوث ). أشك في هذا وهذا هو الجديد، وهذه هي المأساة الحقيقية، ولهذا أقول في هذه المناسبة: متى ننتهي من اللعب ومتى نكبر؟

دعوكم من الكلام المنمق والعبارات المهيبة والمؤثرة، فقد أُفرغت من محتواها واستُهلكت، واصبحت وفي ظل هذا العقم الفكري والعقلية المشلولة، مجرد هلوسات لا تختلف عن تلك التي يطلقها المجانين في أزقة الشوارع، حيث ترمقهم العامة بنظرات الشفقة والتعاطف، وأحياناً ببعض النقود، والتي تسمى في عرف السياسة الآشوري الحالي < حقوق >.

الفرق الوحيد بين المشهدين هو في ثيابنا الانيقة وربطات العنق الاخاذة.



هي مشكلة فعلاً ان نضيع ونتأرجح بين منهجين، فإما ان نكون شعب ردود أفعال، أو ان نكون شعب مناسبات، فلا هذه الالية ولا تلك بقادرتان على ان توصل ما تبقى من هذا الشعب إلى بر الامان. والمعيب في الامر اننا لم نتعلم من أخطائنا، فنحن نرتكبها بذات الوتيرة، وبإحساس خال من المسؤولية.

أحاول، وعندما اتواصل مع هذا الشعب المبتلي، بأن أقرأ ما يدور في مكنوناته، في السطور وما بين السطور. للأسف لا يشكل الهم القومي ـ أو الشأن السياسي إذا أردنا ان نكون أكثر لباقة ـ بالنسبة للغالبية أي اعتبار، اضف إليها حالة اليأس أو الإشمئزاز من كل ما يتعلق بالسياسة ومعادلاتها. والمفارقة ان ذات الغالبية تتوق إلى وجود كيان سياسي متماسك، يحتضن تطلعاتهم ورغباتهم ويرعاها ويدعمها، وذلك ضمن إطار مشروع، لا اختلاف على صبغته أو بنيته.

ولهذه المفارقة اسبابها وحيثياتها، وحتى وان بدت الاسباب للوهلة الاولى غير معقدة، إلا انها تستلزم بالتأكيد قراءة متأنية وعميقة وموضوعية، وان كان هذا المقال يضيق في شرح تلك الاسباب، إلا انه لا ضير من التذكير باتساع الهوة بين أغلبية التنظيمات الآشورية وبين مكونات الشعب الآشوري سواء في الوطن أو في المهجر. أما حالة الود المفقود بين التنظيمات والاحزاب الاشورية، فقد أضعفت مصداقية هذه المؤسسات وعرّتها امام العامة، وهو ما ادى إلى عزوف الكثير من الكوادر المؤهلة عن ممارسة واجباتها تجاه هويتها الام، وانضمامها إلى تنظيمات وجمعيات غير آشورية، وهي ظاهرة نتمنى ان تولى وتعطى حيز أكبر في الاجندة الاشورية، ولا سيما إذا كانت برامج المؤسسات الاخرى تتعارض مع الرؤى الاشورية .

يبقى الامل في قيام مبادرات من قبل بعض التنظيمات وذلك من أجل العمل المشترك، دون الحاجة إلى الدخول في متاهات الربح والخسارة وإلقاء اللوم واستعراض العضلات / أقصد الثقل العددي /.

النقطة الاكثر إلحاحاً والتي سأتحدث عنها، وذلك لعلاقتها بذكرى سميلي، والتي كانت لي معها تجربة شخصية وتجارب مماثلة عاصرتها، هي في وجوب اهتمام التنظيمات الآشورية بتثقيف الانسان الآشوري، واعطاءه جرعات تأهيل سياسي، ليس بالضرورة ان تكون بمستوى عال، ولا ان تكون على طريقة بعض مناهج المدارس العربية، حيث كم هائل من المعلومات مع إرهاب فكري لا يتقبل ما هو خارجها. أطالب بالحد الأدنى، بالتعريف ببعض البديهيات والاوليات وبعض العناوين الرئيسية الخاصة ببعض المحطات البارزة والمؤثرة في التاريخ الحديث.

أقول هذا الكلام لانني لطالما تعرضت لهذا الموقف وما تبعه من اسئلة " لها دلالات عميقة ":

ـ اعتقدتك عراقياً، انت تتكلم الآشورية مثلنا. ( مرات كانت تسمى السورت، ومرات أخرى مسيحي!).

ـ عندما كنت أقول انني ولدت في سوريا لأبوين ولدا في العراق، وهُجرا بعد مذبحة سيميلي، كان السؤال الاكثر إيلاماً:

ـ وما هي سيميلي!؟

لم تكن مرة ولا اثنتين... العشرات. آخر هذه الاسئلة كان قبل أيام معدودة لا أكثر، من آشوري جاوز الاربعينات، كان يحفظ مزامير داوود عن ظهر قلب وبأرقامها، أما سيميلي فلم يكن لها وجود!.

هذا الاخ العزيز وغيره، ليسوا بأقلية، أكررها... ليسو بأقلية، وليس من الواجب تجاهلهم أوتجاوزهم.



كنت أتمنى ان أكتب شيء آخر في هذه المناسبة، لا أقلها، كلمات لأولئك الذين لولاهم، لما كنا. لكنني لا أكاد أهرب من سؤال، حتى أُواجه بسؤال آخر، ولأكون أكثر صراحة، لوم أو ما شابه، لماذا؟ لانني اكتب عن العراق وعن الهم الآشوري تحديداً، وانا البعيد جغرافياً عنه، ولأكون أكثر وضوحاً، وأنا السائح في منتجعات أوروبا!.



أختم بالقول، انها الجذور ولا شيء آخر.. نخشى على من تبقّى... على أنفسنا... أشعر بالشفقة على شعب بعضه لا زال أسيراً لمزامير داوود، وبعضه الآخر أسير مزاعم ما يسمى جنة ك- ر – د – س – ت – ا – ن.

وحتى الذكرى القادمة من سيميلي، اتمنى ان نكبر قليلاً في فهمنا السياسي. وان نقول كلاماً مفهوماً، فمنذ سنوات ونحن في حديقة الاطفال هذه، أعمارنا بالالوف وعقولنا عقول أطفال، لا تجيد سوى اللعب و بضعة كلمات غير مفهومة!.

الطامة الكبرى هي ان أول ما يتعلمه الطفل، من جملة ما يتعلمه، هو لفظه لكلمتي الاب والام. لا أعرف كيف سيكبر البعض وهو لا زال حائراً في اصله ونسبه واسمه؟.



*****

بطاقة من سميلي:

إلى كل الاعلاميين والمثقفين! والمثقفين جداً! الذين يستخدمون كلمة مسيحي للتعبير عن الشعب الآشوري.

هذه الطوباوية! { السخافة } لن توصلكم إلى الجنة السماوية. أما إذا إردتم الجنة ا ل ك ر د س ت ا ن ي ة، فانكم تحضرون بذلك لسيميلي جديدة.

في سيميلي 1933 ألوف قٌتلوا لانهم دافعوا عن هويتهم. أما سيميلي التي تحضرون لها، فستدفنون فيها المئات من الالوف، بهروبكم من الهوية! ولا زلت اتساءل: كيف ومتى سيكبر هذا الطفل الآشوري؟

لعله سؤال كل عراقي يعرف اصله ونسبه واسمه.


عن موقع كتابات

Opinions