في ذكرى ولادته المباركة في الثالث عشر من شهر رجب المرجب: حكومة الامام
للامام علي بن ابي طالب عليه السلام، فلسفة في الحكم، تختلف جذريا عن فلسفة الاخرين، فاذا كانت السلطة، بنظر غيره، وسيلة عامة من اجل تحقيق اهداف خاصة، فانها، براي الامام، وسيلة عامة لتحقيق اهداف عامة، فالموقع، من وجهة نظره، مسؤولية يخولها الناس للمندوب لينجز ما يريدونه من اهداف انسانية نبيلة تنتهي بهم الى تحقيق حياة حرة كريمة، والى نهاية ترضي الله تعالى وتكسبهم رضوانه في الاخرة، فهي وكالة خاصة من الامة للمندوب الذي تختاره في الزمان والمكان المحددين.هذه المسؤولية، لا زالت هي بالوكالة وليست بالاصالة، لا يتهالك عليها الامام ولا يتآمر من اجل ان ينالها، ولا تسيل الدماء انهارا من اجل ان يتربع على عرشها، ولا يقتل الاخ اخاه والاب ابنه من اجل ان ينالها الاقوى منهم، وانما يجب ان تاتي للحاكم بانسيابية وشفافية من خلال رضا الناس وقبولهم وقناعتهم، فعندما يريد الناس، يكون الامام حاكما، وعندما تقوم الحجة ويحضر البرهان، يتصدى الامام للقيادة، فيقيم حكومته بالاعتماد على رضا الناس وارادتهم، يقول عليه السلام {اما والذي فلق الحبة، وبرا النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكاس اولها، ولالفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز}.
لذلك، لم يذهب الامام الى الحكومة يطلبها لنفسه، وانما جاءته تزحف على ركبتيها متوسلة به ان يقبلها، وصدق من قال يصف الامام والخلافة (ان الخلافة لم تزين علي بن ابي طالب، وانما هو الذي زين الخلافة).
يقول الامام عليه السلام واصفا امر الخلافة التي جاءته بقوله {فما راعني الا والناس كعرف الضبع الي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم} ويضيف في موقف آخر يذكر فيه الناس حقيقة موقفه من الخلافة، خشية نسيانهم للوقائع {والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية اربة، ولكنكم دعوتموني اليها، وحملتموني عليها} وهو القائل قولته المشهورة عندما جاءه الناس يريدون مبايعته للخلافة {دعوني والتمسوا غيري}.
لقد كان الامام على استعداد لان يكون كاحد الرعية، اذا لم يكن حاكما، من دون ان يدفعه ذلك الى التآمر على الحكومة او افشال خططها او عرقلة مشاريعها، بل كان على استعداد لان يكون الاصلح من بين كل المواطنين، شريطة ان تنتخب الامة الحاكم، فلا يفرض عليها بقوة السلاح او يصل الى سدة الحكم بسرقة مسلحة (انقلاب عسكري) او يرثها عن ابيه، فالمهم عند الامام رضى الرعية عن حاكمها، لانه عليه السلام مع ارادة العامة، بغض النظر عن صحة اختيارها من عدمه، وهو عليه السلام يحاول، بهذا المفهوم، ان يعلم الامة معنى الالتزام وتحمل مسؤولية الراي والصوت الذي يمنحه المرء الى اي شاء، ليكون حريصا على رايه، فلا يبيعه او يتاجر به او يساوم عليه، يقول عليه السلام {وان تركتموني فانا كاحدكم، ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم، وانا لكم وزيرا خير لكم مني اميرا}.
ولقد قبل الامام الحكومة، ليس من اجل ان يثرى من المال العام، او ان يتبجح باللقب، او ان يامر وينهي او يستاسد على الرعية، او ان يقرب هذا ويبعد ذاك على اساس القربى والعشيرة والانتماء الحزبي او المناطقي، او ان ينتقم ممن ظلمه واغتصب حقه فيما مضى من الليالي والايام، او ان يظلم ويتجاوز على حقوق الرعية، او ان يتصرف بالمال العام كما لو انه ارثا من ابيه او امه، ابدا، وانما كما قال عليه السلام {لم تكن بيعتكم اياي فلتة، وليس امري وامركم واحد، اني اريدكم لله وانتم تريدونني لانفسكم.
ايها الناس، اعينوني على انفسكم، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولاقودن الظالم بخزامته، حتى اورده منهل الحق وان كان كارها} ويقول عليه السلام متحدثا عن شديد حساسيته من الظلم الذي لم يتورط به، فكان يتنازل عن حقه الخاص لصالح الحق العام، خشية ان يظلم احدا من العباد {والله لان ابيت على حسك السعدان مسهدا، او اجر في الاغلال مصفدا، احب الي من ان القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشئ من الحطام، وكيف اظلم احدا لنفس يسرع الى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها} ويقول في موقع آخر {الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه} فلا محاباة ولا اثرة ولا محسوبية ولا رشاوى ولا فساد مالي واداري ولا تمييز بغير عدل وانصاف ابدا.
بل انه عليه السلام رفض ان يكتفي من الحكومة بعنوانها من دون ان يشارك الطبقة المستضعفة حياتهم اليومية، فكيف للامام ان يتمتع بـ (الكهرباء) والفقراء من رعيته يتحسرون عليها؟ وكيف له ان يتلذذ بطعم برودة الهواء والناس يتضورون من الحر؟ وكيف له ان يشبع بطنه والفقراء لا يجدون قوت يومهم فينام اطفالهم جياعا؟ وكيف له ان يتمتع بالمال الوفير والجاه العريض والناس لا يعرفون كيف يكملوا نصف شهرهم برواتبهم البسيطة؟ وكيف له ان يعيش في القصور والابراج العاجية، والناس يقضون حياتهم في الاكواخ وفي بيوت الطين؟ وكيف له ان يتمتع بملذات الدنيا من الملبس والماكل والمركب، والرعية لا تجد ما تلبسه او تركبه؟ يقول عليه السلام {فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا اعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت في ارضها شبرا، ولا اخذت منه الا كقوت اتان دبرة، ولهي في عيني اوهى واهون من عفصة مقرة،.... ولو شئت لاهتديت الطريق، الى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، او ابيت مبطانا وحولي بطون غرثى واكباد حرى، او اكون كما قال القائل:
وحسبك داء ان تبيت ببطنة وحولك اكباد تحن الى القد
ااقنع من نفسي بان يقال: هذا امير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر، او اكون اسوة لهم في جشوبة العيش؟ فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، او المرسلة شغلها تقممها، تكترش من اعلافها، وتلهو عما يراد بها، او اترك سدى، او اهمل عابثا، او اجر حبل الضلالة، او اعتسف طريق المتاهة}.
لم يكن الامام عاجزا عن نيل المنى، ولكنها المسؤولية وتقوى الله تعالى التي تحول بينه وبين ان يميز نفسه عن الرعية بغير حق.
وعلى الحكومة، من وجهة نظر الامام، تقع اربع مسؤوليات استراتيجية، وهي:
اولا؛ المسؤولية الاقتصادية، وما يترتب عليها من ايجاد فرص العمل والقضاء على البطالة، واستصلاح الاراضي، وتنمية الصناعات الغذائية على وجه التحديد، وتامين الحد المناسب للعيش الحر الكريم، لكل مواطن.
ثانيا؛ المسؤولية الامنية، وما يترتب عليها من محاربة جماعات العنف والارهاب والقضاء على الجريمة المنظمة، والدفاء عن البلاد والعباد من مخاطر العدوان الخارجي، لتامين حياة آمنة ومستقرة، للناس، كل الناس.
ثالثا؛ المسؤولية التعليمية والتربوية، من خلال مشاريع القضاء على الامية والجهل والتخلف، وتامين فرص التعليم والبحث، وايجاد المناخ المناسب لتطوير مهارات الناس، بما يساهم في تطوير المجتمع وتنميته، وبما يساهم في الاخذ بادوات المدنية والحضارة، مع الاخذ بنظر الاعتبار، تطور الزمن، وحاجات كل جيل.
رابعا؛ مسؤولية البناء والاعمار المادي، من خلال اطلاق مشاريع الاستثمار والتطور العمراني، بما يساهم في القضاء على ظاهرة الازمات المادية المستفحلة كالسكن والنقل والتلوث البيئي، وغير ذلك.
ولقد لخص الامام عليه السلام هذه المسؤوليات الاستراتيجية الاربع، في بداية عهده الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر، بقوله {هذا ما امر به عبد الله علي امير المؤمنين، مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح اهلها، وعمارة بلادها}.
وبقراءة متانية ودقيقة لهذه المهام، يلحظ المرء انها مترابطة ترابطا عضويا وثيقا مع بعضها، اذ لا يمكن لاحدها الانفكاك عن الاخرى، وبمعنى آخر، فان هذه المهام، اما ان تعمل الحكومة على تحقيقها كحزمة واحدة، واما انها ستفشل في حمل المسؤولية.
ان الهدف الاسمى لاية حكومة، هو تحقيق السعادة للمجتمع، من خلال توفير فرص العيش الحر الكريم لكل شرائحه، من النساء والرجال والكبار والصغار والقادر والعاجز، وكذلك العامل وغير العامل، وان هذا لا يتم الا من خلال العمل على انجاز هذه المسؤوليات الاربع بالتوازي وبالتساوي، ليتم انجازها، او العمل على انجازها، دفعة واحدة، لانها تكمل بعضها البعض الاخر.
ومن اجل تحقيق هذه المسؤوليات الاستراتيجية الاربع، يرى الامام ما يلي:
اولا؛ ان يكون الحاكم رؤوفا برعيته، يحبهم ليحبونه، ويلطف بهم، فلا يكن سبعا ضاريا يتصيد الفرص لياكل حقوقهم، يقول عليه السلام، في عهده الى محمد بن ابي بكر حين قلده مصر {فاخفض لهم جناحك، والن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس لهم في اللحظة والنظرة} ويقول عليه السلام موصيا مالك الاشتر في عهده اليه عندما ولاه مصر {واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان، اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق} والعبارة الاخيرة تؤسس لفلسفة المواطنة في حكومة الامام، فلا تمييز ولا طبقية ولا درجات في تصنيف الجنسية (المواطنة) فالكل في حكومة الامام مواطنون من الدرجة الاولى، ولكل الحق في ان يعيش ويعمل ويدرس ويتاجر ويسافر في ظل حياة حرة وكريمة وآمنة، لا فرق بين المواطنين لا على اساس الدين او المذهب او القومية، ولا على اساس المناطقية او الحزبية او التوجه الفكري والسياسي والثقافي، ففي ظل حكومة الامام لا توجد محاصصة تحرم الكفاءات والطاقات والخبرات من فرص العمل والانتاج والابداع، وتاليا تحرم البلد والمجتمع من طاقات خلاقة تحاول ان تتبوأ مكانها الطبيعي لتنتج وتخدم، كما انه ليس للحزبية الضيقة (العصبية المقيتة) مكانا في حكومة الامام، فلا يفضل شرار قومه على خيار قوم آخرين، فقط لانهم ينتمون الى الحزب الذي ينتمي اليه، واولئك لا ينتمون.
ثانيا؛ ان لا يفكر الحاكم بظلم رعيته، ابدا، فالظلم يقصيه عن الموقع، طال الزمان ام قرب، كما ان الظلم يزيل الدول عن مواقعها، ولذلك جاء في الماثور {يدوم الحكم مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم} لان المهم عند الناس هو عدل الحاكم وليس دينه، فالناس تامن في ظل العدل، وتبيع وتشتري وتتاجر وتتعلم وتامن على حياتها وتامن على مستقبل اولادها في ظل العدل، بغض النظر عن هوية الحاكم ودينه، والى هذا المعنى اشار رسول الله (ص) عندما امر المسلمين بالهجرة الى الحبشة بعد الظلم والعسف الذي تعرضوا له على يد صناديد قريش والكافرين والمشركين، عندما قال لهم، لان {بها ملكا عظيما لا يظلم عنده احد} من دون ان يشير الى دينه او قوميته او مذهبه، فالمهم عند الرسول هو ان يكون الحاكم عادلا، وليكن دينه، بعد ذلك، ما يكون.
ماذا ينتفع الناس بصلاة الليل التي يؤديها الحاكم اذا كان ديدنه ظلم رعيته؟ وماذا ينفعهم صيامه اذا كان متجاوزا على حقوقهم؟ وماذا يستفيد الناس من دين الملك اذا كان ظالما للعباد، آكلا للحقوق لا يرعى فيهم الا ولا ذمة؟.
لماذا ترك ملايين المسلمين بلدانهم (المسلمة) ومجتمعاتهم (المتدينة) وحكوماتهم (الاسلامية) ولجؤوا الى بلاد الغرب (المسيحية)؟ ابسبب الدين؟ ام المذهب؟ ام ماذا؟ بالتاكيد ليس بسبب كل هذا، وانما بسبب الظلم الذي تمارسه الحكومات القائمة في بلدانهم، ولو كان العدل حاكما في بلاد المسلمين، لما لجا مسلم الى بلاد الغرب، ولما هاجرت مسلمة بلادها.
يقول الامام عليه السلام {انصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فانك الا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله ادحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع او يتوب، وليس شئ ادعى من تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم، فان الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد} ولكم، ايها الحاكمون، في الطاغية الذليل صدام حسين ونظامه الشمولي الديكتاتوري البائد، خير دليل وبرهان على ما يقوله الامام عليه السلام.
ثالثا؛ على الحاكم ان يحترم الراي العام، فلا يتجاوزه او يحاول تجاهله، فالراي العام يعني، عادة، الاغلبية من الشعب، وهو يعبر، عادة، عن راي جمعي يحتاجه الحاكم اذا اراد ان يقيم سلطانه بالعدل وبعيدا عن القهر والقوة وسوط الجلاد.
ان الحاكم الصالح لا يحاول ارضاء الاقلية على حساب الاغلبية، كما انه لا يسعى الى اسكات الوسائل التي تعبر او تحاول التعبير عن الراي العام، مثل وسائل الاعلام المختلفة من صحف ومجلات وقنوات اعلامية واذاعات، ومنابر اعلامية وثقافية وفكرية وفنية اخرى، بالاضافة الى الكتاب والمكتبة والرواية والقصة والمسرح والسينما وغيرها.
ان الحاكم الذي يصب كل اهتماماته من اجل ارضاء الخاصة (الاقلية) وان كان على حساب العامة (الاغلبية) سيفشل في اقامة السلطة العادلة، فهو من اجل ارضاء الخاصة سيستعمل السيف لاسكات العامة، ولذلك فان حاكما همه رضى الخاصة سيتعب من دون ان يحقق ما يريد من اهداف الرعية، يقول الامام عليه السلام {وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق، واعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية، فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، واقل معونة له في البلاء، واكره للانصاف، واسال بالالحاف، واقل شكرا عند الاعطاء، وابطا عذرا عند المنع، واضعف صبرا عند ملمات الدهر من اهل الخاصة، وانما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للاعداء، العامة من الامة، فليكن صغوك لهم، وميلك معهم}.
البلاد، اذن، لا تقوم الا بالعامة (الاغلبية) وان الحاكم الذي يريد ان يريح ويستريح عليه ان يميل مع الاغلبية وليس مع الاقلية، ولقد حاولت الحكومات العراقية التي تعاقبت على الحكم في بغداد، منذ سقوط الصنم ولحد الان، تحقيق ما اطلقوا عليه بالمصالحة الوطنية، من خلال الاصغاء الى الخاصة (الاقلية) من القيادات والزعامات، فلم تنجح، حتى اذا قررت الحكومة الحالية، اخيرا، ان تميل مع العامة (الاغلبية) فتصغ الى رغباتهم وتستمع الى مطاليبهم وتسعى لتحقيق امانيهم، اذا بجل المهمة قد تحققت، لان الاوطان بالعامة وليس بالخاصة، بالاضافة الى ان رضى الخاصة مشروط ومسور باماني ومطاليب عراض، اما رضى العامة فمعقول ومقبول، في آن.
ومن اجل ان يكون الحاكم كذلك، لابد من الشفافية في التعامل مع الرعية، فاذا اشيع عنه ما يطعن في وفائه مثلا، او في امانته واخلاصه، او في نزاهته، او ما الى ذلك، عليه ان يبادر الى توضيح الموقف، علنا ومن دون تدليس او كذب او تلفيق او حتى تضخيم او تهويل، وبكل وضوح وشفافية، فلا يتردد في ذلك او يرفض الظهور امام الناس بحجة ان ذلك يقلل من شانه او يجرأهم على السلطان، ابدا، فوضوح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يساهم بشكل فاعل وكبير في بناء الثقة بينهما، وتاليا يساعد الحاكم على النجاح والانجاز وتخطي المشاكل، لان الرعية التي تتفهم حقائق الحاكم، تكون عونا له، اما التي لا تعرف عنه شيئا، فتظل تحوم حوله الدعايات والشائعات، فستكون عونا عليه وليس له، يقول الامام عليه السلام {وان ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم باصحارك، فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، واعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق}.
رابعا؛ لبطانة الحاكم العادل صفات خاصة، اذا توفرت فيهم نجحت وانجحت الحاكم، والعكس هو الصحيح، فالبطانة الجاهلة التي يتخذها الحاكم لنفسه ليس على اساس الخبرة والكفاءة والامانة، وانما محاباة واثرة، فانها تهلك (بفتح التاء) وتهلك (بضم التاء) فالحاكم بمستشاريه، ولذلك قيل (قل لي من مستشاروك، اقل لك من انت) لان افكار وبرامج ومشاريع الحاكم هي نتاج مجموع افكار فريق المستشارين، فماذا سينتج هذا الفريق اذا كان قطيع من الجهلة والاميين، بلا خبرة وبلا تجربة؟.
ان التالية صفاتهم ادناه، ممنوعون من المشاركة في فريق المستشارين، مهما قربوا رحما من الحاكم، او كانوا ينتمون الى حزب الحاكم منذ القدم، او كانوا ممن ضحوا من اجل تحقيق التغيير، فالملاك ليس كل هذا، وانما الخبرة والدراية والعقل المدبر والتجربة وسعة الافق.
يقول الامام عليه السلام {ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الامور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فان البخل والجبن والحرص غرائز شتى، يجمعها سوء الظن بالله}.
والاخطر من المستشارين، وزراء الحاكم، فهؤلاء، كذلك، يجب ان يختارهم الحاكم بمواصفات خاصة، فلا يتخذ من هب ودب وزيرا في حكومته، ولذلك فان المحاصصة تدمر ارادة الحاكم ولا تدعه يختار الافضل من بين الناس لوزاراته، كما ان المداراة والترضيات والرشوة (السياسية) وغير ذلك، كلها لا تمنح الحاكم حرية اختيار الوزراء باحسن صورة ومن افضل الناس والطبقات، يقول الامام عليه السلام {ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الاثام، فلا يكونن لك بطانة، فانهم اعوان الاثمة، واخوان الظلمة}.
اذا كان في نية الحاكم الصالح ان يستوزر اعوان الظلمة، فماذا بقي من التغيير اذن؟ ولماذا التغيير بالاساس؟ اوليس التغيير يعني استبدال العقول والاراء والمناهج والادوات، ومنها الرجال؟ فلماذا اللجوء الى ذات الادوات لتحقيق المنهجية الجديدة؟ واساسا، هل يمكن تحقيق ذلك، وهل يعقل مثل هذا؟.
يتحجج البعض بان التغيير لا يجد بسهولة ادواته الجديدة، الا ان الامام عليه السلام يرد على هذا التصور بقوله عليه السلام {وانت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم واوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على اثمه، اولئك اخف عليك مؤونة، واحسن لك معونة، واحنى عليك عطفا، واقل لغيرك الفا، فاتخذ اولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك}.
ولكن:
متى يجد الحكم الجديد البديل من الرجال للاستيزار؟.
ان هذا النوع من الرجال موجودون في وسط الامة وفي بحرها المتلاطم، فالامة تزخر بالخبرات والكفاءات والعناصر الامينة، وليس في الحزب الحاكم او عند اقارب السلطان، ابدا، اذ ان الاغلبية من الناس لا ينتمون الى حزب معين وانما يفضلون الاستقلالية في العمل، ولذلك فاذا اراد الحاكم ان يكتشف معادن الرجال فيستوزر الافضل منهم على مبدا (الرجل المناسب في المكان المناسب) فان عليه ان لا يكون حزبيا شديدا، كما يجب ان لا ينظر الى اقاربه وعشيرته واهل محلته ومدينته فقط، فالرجال الرجال قد لا تجدهم في الحزب او في المحلة او في صفوف العشيرة والاقارب، ولكنك ستجدهم حتما جزما في الامة، كل الامة، ولما كانت الحكومة لكل الامة والسلطة لكل المجتمع، ولذلك يجب ان يبحث الحاكم عن وزرائه من بين صفوف المجتمع، كل المجتمع، فلا ينظر الى شريحة دون اخرى، وان لا يحكم الحزبية او الطائفية او الدين والقومية ، كمعايير عندما يريد ان يختار رجاله، والا فسيضطر الى تعيين غير الكفوء في المكان غير المناسب.
كذلك، فان اراد الحاكم ان يشكل وزارة قوية ومتماسكة وناجحة، فان عليه ان يتخذ من القول التالي للامام عليه السلام، هاديا ومنارا.
يقول عليه السلام {ثم ليكن آثرهم عندك اقولهم بمر الحق لك، واقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لاوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع، والصق باهل الورع والصدق، ثم رضهم على ان لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فان كثرة الاطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة}.
اذن، فالحاكم العادل لا يتخذ من المداحين وزيرا، ولا من الذين شغلهم الاطراء فقط لولي النعمة، اصاب ام اخطا، فهو في نفسه، خادم الملك وليس خادم الباذنجان، كما في تلك القصة المعروفة.
ان الحاكم الذي يطرب على الاطراء ويتمتع بالمديح ويغفو على طبطبة الوزير على ظهره، لهو حاكم فاشل من المستحيل عليه ان يكتشف نجاحه من فشلة، وصواب رايه من خطله، لانه ممدوح من قبل الوزراء على اية حال، وانهم يطرونه بكل الاشكال، وفي كل الاحوال.
ان الحاكم الصالح، هو الذي يتسع صدره للنقد، ويستوعب التاشير على الخطا او الفشل، واذا كان يضيق صدره بمر الحق من اقرب وزرائه، فهو من نقد البعيد او الرعية اضيق.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الحاكم العادل، هو الذي يتحمل المسؤولية كاملة اذا اخطا وزيرا من وزرائه او قصر، لانه هو المسؤول عنه مباشرة، فلا يتهرب من المسؤولية اويسعى لالقاء اللوم على وزيره اذا سرق او اخطا او قصر، من دون اظهار المسؤولية.
لقد كان الامام يتحمل مسؤولية استيزار وزرائه، فاذا اخطاوا مرة فانه لا يلومهم فقط وانما يتحمل مسؤوليتهم كاملة، ثم يبين ما يجب ان يكون عليه الوزير، ليوضح للرعية بانه لم يامره بمثل هذا الخطا او يطلب منه مثل هذا التقصير، فهو عليه السلام، عندما سمع بان عامله على البصرة، عثمان بن حنيف الانصاري، قد دعي الى وليمة قوم من اهلها فمضى اليها، لم يكتف عليه السلام باقالته، وانما بالغ في توبيخه واسهب في شرح علة الخطا والتقصير الذي وقع فيه، اذ لم يحاول التبرير له خشية على سمعته او سمعة حكومته، كما انه عليه السلام لم يحاول ان يخفي ذلك على العامة خشية ان (تطلع عيونها) فتتجرا على الحاكم وتتعلم النقد والمراقبة والمحاسبة، وكل ذلك امر خطير على الحكومة، ابدا، بل انه هو الذي بادر الى الكشف عن الخطا ببيان رئاسي واضح وصريح وقوي، ليكون الوزير عبرة لغيره ولنفسه.
خامسا؛ للنجاح شروط جمة، واول هذه الشروط، هو تمييز الحاكم بين الناجح والفاشل من وزرائه، وبين الصادق والكاذب منهم، وبين المتمكن والعاجز، وبين الكفوء عن غيره، اما اذا كان الجميع سواسية عنده، فما الذي يشجع الناجح للاستمرار في نجاحاته؟ وما الذي يحث الكفوء على التميز؟.
ان هذا ليس بمحل المساواة، بل انه موقع المكافاة بعد العدل، وان من الظلم والاجحاف ان يساوي الحاكم بين المسؤولين على اساس العمر مثلا او الانتماء او الولاء، ابدا، وانما المطلوب هنا ان يمايز الحاكم بينهم على اساس الانجاز وحسن الاداء والنجاح والتفوق في العمل القائم على اساس الحرص والخبرة والكفاءة والقابلية والنشاط والهمة.
يقول الامام عليه السلام {ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لاهل الاساءة على الاساءة، والزم كلا منهم ما الزم نفسه}.
في هذا الاطار، يجب ان نستحضر مبدا الاحترام والتكريم للناجح ليعي الفاشل مسؤوليته ويتحسس تقصيره، ولينتبه الناس الى اهمية النجاح فيندفعوا صوبه، ولذلك ابتكرت الامم الناجحة مبدا التكريم للذين يقدمون شيئا ما لهم ، فانما هو تكريم للنجاح وللانجاز الى جانب تكريم الشخص.
حتى القران الكريم ذكر هذا المبدا في العديد من الايات والسور، كما ان الرسول الكريم كان يهتم كثيرا بتكريم الصحابة الذين يتميزون على بقية اقرانهم، وان التكريم لا يكون للاموات فحسب، كما تفعل امتنا (العربية المجيدة) فهي لا تكرم الرجل الا بعد وفاته، ولا تتذكره الا بعد رحيله، ففي حياته لا يلبس وساما على صدره، اما اذا مات فيملا صدره بالنياشين.
كذلك، فان التكريم يجب ان يكون بشكل صحيح وواقعي، فلا يكرم الا الناجح، ولا يستذكر الا من ينجز ما ينفع المجتمع، وليس كما كان يفعل الطاغية الذليل صدام حسين، والذي ظل يملا صدور القادة العسكريين المهزومين اوسمة ونياشين، حتى ضجت بها صدورهم المريضة.
التكريم، تنبيه الى امر هام، ولذلك يجب ان يكون حقيقيا وللناس الحقيقيين الذين يستحقونه، وليس على اساس الصداقة او صلة القربى او الانتماء الحزبي، او الانتماء الى المحلة او المدينة الواحدة، ابدا.
وان من اعظم الاوسمة التي يقدمها الحاكم للناجحين، هو حسن الظن بهم، ولذلك يقول الامام عليه السلام {وان احق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وان احق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده}.
هذه هي بعض ملامح الحكومة العادلة التي نتطلع اليها بشغف، والا......فلا، وان تغيرت العناوين وتبدلت الاسباب والالقاب والازياء.
14 تموز 2008