في يومها العاشر – هل تجبر حرية السوق المرأة على العمل كعاهرة؟
في يوم المرأة، من حقها أن تتوقع مناهدية أجمل من مثل هذا السؤال المستهجن والصادم، لكن ربما كان التحذير في الزمن الصعب، اكثر قيمة من الورود أو قصائد الشعر الجميلة. للأسف إنه ليس سؤال بلا معنى على الإطلاق، وهو ليس محاولة نافرة لتشويه سمعة الرأسمالية من قبل أحد كارهيها، بل هي النتيجة المنطقية لمسيرة قوانين السوق الإقتصادية وتداعياتها البعيدة التي لا يدركها الجميع.
أنني لا أقصد بـ "الإجبار" هنا، ان تسقط المرأة نتيجة حاجتها المادية في يد عصابات المتاجرة بالرقيق الأبيض، بل أقصد أمراً أكثر فضاعة:ان تقوم الحكومة بنفسها، في دولة يقوم اقتصادها على حرية السوق، بوضع القوانين لإجبار النساء على العمل كعاهرات عندما لا يجدن عملاً آخر!
لمن يبدو هذا الكلام تهويلا ومبالغة، خاصة بالنسبة لمتحمسي الليبرالية، أقول أن خير طريقة لمعرفة أين يؤدي طريق ما، هو أن نسأل من سار قبلنا في ذلك الطريق، فهذا السؤال ليس نظري فقط. فمن سار قبلنا على طريق الليبرالية وحرية السوق أشرف على الوصول إلى تلك الحالة الغريبة، وهو يناقشها بجدية منذ اكثر من عقد.
لقد بدأ الأمر في هولندا حين أجازت عام 2000 ، إقامة بيوت الدعارة كـ "بزنز"، ووضعت لها قوانينها ولها شروطها وضرائبها وتقاعدها، مثل اية مهنة أخرى. وحتى الآن ليس هناك مشكلة حقيقية، ففي أوروبا يمكن لمن يشاء أن يختار طريقة حياته الشخصية بحرية. لكن المشكلة كانت في تقاطع الإعتراف بالدعارة كمهنة من جهة، وقوانين العمل والبطالة من جهة ثانية، والتعريف الرأسمالي للعمل من جهة ثالثة.
قوانين العمل الموروثة من دولة الرفاه، والتي تتآكل بفعل ضغط "حرية السوق عليها"، تتيح لمن يصبح عاطلاً عن العمل مرتباً يسد به رمقه ويدفع إيجار بيته، لحين أن يجد عملاً مرة ثانية، لكنها تجبر العاطل أن يبحث عن عمل "مناسب" يتناسب مع تعليمه وخبرته في البداية. فإن لم تستطع الحصول على ذلك العمل بعد عدد معين من الشهور، فأن مكتب العمل يجبرك على قبول عمل ذو مستوى أدنى من عملك الأصلي. فإن كنت مهندساً، فعليك أن تقبل أن تعمل كـ "فني" مثلاً. فإن طالت بطالتك ولم تجد حتى عملاً ادنى، توجب عليك في النهاية، وبعد فترة معينة من البطالة، أن تقبل "اي عمل يقدم لك"، هذا ما يقوله القانون!
هذا يعني أن تعمل كعامل في مخزن عمومي، أو في جني المحاصيل في المزارع أو غيرها من الأعمال الشاقة، قليلة المردود. وحين يقر النظام الرأسمالي الدعارة كـ "عمل" رسمي له ضرائبه، (معيداً البشرية في هذه النقطة ألاف السنوات إلى الوراء حين كانت الدعارة "أقدم مهنة في التاريخ")، أثير في هولندا السؤال: هل تشمل القوانين هذا العمل؟ أثير الكثير من النقاش، ولم يستطع أحد أن يأتي بجواب مقنع عن السؤال: ولم لا؟
لم يتم إجبار أية إمرأة حسب علمي على ممارسة تلك المهنة من قبل الحكومة، فحتى المجتمع الهولندي بتحرره ورأسماليته، مازال بعيداً عن تقبل مثل هذه الصدمة، لكن مجرد طرح السؤال ومناقشته بجدية، يعني أن احتمال تطبيقه امر وارد، إن لم يكن اليوم، فربما غداً. فعندما تشتد الحالة الإقتصادية على مدفوعات الدولة، وهي تشتد يوماً بعد يوم، فسيأتي اليوم الذي يخرج به أحد السياسيين باقتراح تنقيذ هذا القانون لحل مشكلة بطالة عدد كبير من النساء. وعندما لا يتقدم أحد باقتراح آخر لحل المشكلة ضمن النظام الإقتصادي المتبع، فأن ذلك القانون سوف يقر في نهاية الأمر! أن ما قد يبدو غريباً جداً اليوم، لن يكون بنفس الغرابة بعد فترة من الزمن، وما لا نستطيع أن نتخيله، يمكن أن يحدث إن أعطيت العوامل المؤثرة باتجاهه، الوقت اللازم لعملها.
ما علاقة ذلك بالتعريف الرأسمالي للعمل؟ لاحظ اليساريون منذ زمن، أن عمل المرأة في البيت، وتربية الأطفال، لا تعد "عملاً" يعترف به المجتمع الرأسمالي الليبرالي ولا تستحق عليه أجراً في نظامه الإقتصادي. لكن بالمقابل، فالمجتمع يعتبر "المقامرة" بأسعار العملات وأسهم الشركات لحساب بنك ما، رغم أنها لا تنتج أي شيء، "عملاً" مجزياً يحصل صاحبه على أعلى الأجور، كما يلاحظ جومسكي بامتعاض في أكثر من محاضرة له! اليسار والإشتراكية يرى في عمل البيت من أجل الأسرة، سواء قام به رجل أم إمرأة، عمل أساسي في المجتمع. ويمكننا أن نرى أثر ذلك ليس فقط في قوانين الدول الإشتراكية أو التي كانت إشتراكية أو ذات الصبغة الإجتماعية (كلمة مرادفة للإشتراكية)، وإنما في قوانين الدول الأقرب إلى الإشتراكية من ضمن الدول ذات النظام الرأسمالي. ففي أوروبا، يكون الإعتراف بعمل البيت متناسباً مع قرب نظام الدولة من الإشتراكية، لذا نرى إجازات الأمومة (والأبوة) على أقصى مداها في الدول الإسكندنافية، وأقلها بالنسبة للدول الصناعية في أميركا، حيث يقترب النظام أكثر من غيره، من الرأسمالية النقية.
لذلك يمكننا القول أن اتجاه البلد سيحدد مصيره في هذه الناحية كما في النواحي الأخرى. ففي بلد مثل العراق، حيث ترك اليسار المعركة، ولم يتردد أحياناً أن يصف نفسه بالليبرالية، وحيث تتسابق مختلف الكتل لتبيان ولائها للدين الجديد، دين حرية السوق، وحيث أقر الإلتزام به في نص الدستور نفسه وربط البلاد به، وبأوضح مما أقر ارتباط البلد بالدين "القديم"، الإسلام، لا يمكننا أن نتوقع اتجاها رأسمالياً مشابها للسويد، بل باتجاه الأنظمة التي تركت مصائرها بيد حرية السوق تماماً.
ستقولين يا عزيزتي القارئه: لكن امرأة تشعر بالكرامة لن تقبل ابداً أن تعمل بهذه المهنة، ولن يستطيع أحد أن يجبرها عليها! ولعلك يا عزيزتي لم تقرأي قصة الكاتب السوري زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر"؟ حين تهترئ كرامة النمر الشرس الفخور، بفعل الجوع، فلا يصل يومه العاشر إلا وقد ماء كالقطط وأكل الحشيش ونهق كالحمير وصفق كالمتملقين! فهل ستكونين أكثر قوة من النمر في تحمل الجوع؟ كم واحدة ستنهار، وكم نسبة من سيصمد؟ وإلى متى؟ كم سنة؟ كم جيل؟
ستقولين أيضاً أن دولنا في الشرق، وبفضل التقاليد، لا يمكن أن تقبل أن تجبر نساءها على مثل هذا العمل مهما سرنا في طريق الليبرالية. وإن قبلت التقاليد فالدين لن يقبل، خاصة أن في العراق مثلاً، الحكام المنتخبون هم من أحزاب دينية إسلامية معروفة، كما أن الدستور يحرم سن أي قانون يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي.
وأقول لك أن لا تعتمدي كثيراً على هذا! فرجال السياسة المتدينون، سمحوا أن تذهب العراقيات للدعارة أمام أعينهم في مختلف البلدان، ولم يجدوا من مئة مليار كل عام، يصرفون الكثير منها على مختلف التفاهات والغرائب، ما يمنعوا به عن نساء العراق هذا المصير المشين والمضاد للدين في كل شيء. فلجوء إمرأة للدعارة بحريتها شيء مؤسف، لكن لجوئها إليها بسبب الحاجة للطعام والباس والسكن، جريمة إنسانية وأخلاقية قبل أن تكون دينية. لكنهم كما ترين، يرتكبونها بلا أي ارتجاف لضمير أخلاقي أو ديني.
ما قد يبدو غريباً وعجيباً في الأمر أنهم شديدوا الإلتزام حين تراهم يتحدثون عن السفور مثلاً! إن الخطب الدينية والسياسية التي تحث على منع السفور، أكثر بكثير من تلك التي تدعوا لإنقاذ المرأة من الدعارة بتوفير مورد كريم لمن تحتاج منهن.
لكن العجب يزول، وإن لا يزول الإشمئزاز، حين نسأل لماذا؟ ببساطة لأن منع السفور لا يكلف مالاً، بينما حماية المرأة من الدعارة تتطلب تخصيص نسبة من الميزانية لها! فتجار الدين، تجار قبل أن يكونوا متدينين أو حاملي راية الدين السياسي، وهم بالتالي مخلصين لأخلاق الأول أكثر من إخلاصهم لأخلاق الثاني.
الأمر لا يتعلق بظلم إجتماعي خاص بك يا سيدتي، فهو ينطبق على كل حالة تتعارض فيها التجارة مع الدين، ففي النهاية تكسب الأولى دائماً.
خذي مثلاً الربا! هل هناك أوضح منه تحريماً في الإسلام؟ "قال الله تعالى : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم".
ومع ذلك فمصارفنا تعمل بالربا، والجميع يعلم بذلك ولا يحاول حتى أن يتساءل عنه، لأنه قضية فيها مال، ولا توجد في الميزانية مخصصات لذلك. إن دوافع الهجوم على البنك المركزي لم تتضح بعد، لكن يمكننا أن نؤكد أنها ليست احتجاجاً دينياً على الربا، أو نظام الإقتصاد المخالف للدين والمجتمع في كل أسسه. فبالنسبة لتجار الدين العراقيون، فأن كل الـ 100 مليار دولار لا تكاد تسد مصروفات مؤتمرات القمم والبنايات الشاهقة والرواتب الضخمة والمخصصات الباذخة والفساد...فماذا سيبقى منها "ليضحى به" لحاجات المجتمع الحقيقة ولما يقره الدين أو الأخلاق؟
نعم هناك نص في الدستور بأن لا تقر قوانين تخالف مبادئ الشريعة الإسلامية، لكنهم سيجدون لأخلاق التجارة في كل مرة "فتوى" ما تنقذها! فشعارهم: "إذا حضر المال، بطل التدين"! وفي هذه الحالة لا يحضر المال فقط، وإنما كل الضغوط الأمريكية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي حشرنا فيها عنوة من أجل أن لا نفلت من أقتصاد السوق ومن أجل أن لا تزعج حريتنا، حرية السوق.
أنت يا سيدتي، لست سوى جزء من هذا المجتمع، ولن يعاملك السيد الأكبر، السوق، إلا كما يعامل الباقين، وهو لا يعرف أن يتعامل سوى مع :السلع. إنه وحش منفلت خطر، له قياساته الخاصة، ولم يخدم الإنسان إلا حين كانت في رقبته القيود، لكنه يكره القيود والحدود. لذا فمن يترك نفسه تحت رحمته بلا قيد، عليه أن لا يستغرب سؤالي أعلاه.
ما الحل إذن؟ لست أدري، ما أستطيع قوله أن هذه المقدمات تؤدي إلى هذه النتائج، وكلما مضى الوقت، كسبت المقدمات زخماُ، وصارت النتائج أقرب وتجنبها أصعب.
وعلى اية حال حتى لو كنت مخطئاً، ولم يأت اليوم الذي يقر فيه قانون يجبر المرأة على الدعارة إن لم تجد عملاً، فإن النتيجة ستبقى واحدة وإن اختلفت ظواهرها. فإن أصر أي بلد على اتباع قوانين حرية السوق رغم كل المؤشرات والتحذيرات، فأن مصيره لن يكون أفضل من مصير أوروبا وأميركا التي سبقته، ليس في رخائها الذي بنته من نهب خيرات الشعوب، وإنما فقط في تحطم نظامها الإجتماعي وانهياراتها المالية والديون المتراكمة والبطالة المتعاظمة وفوارقها الطبقية المتزايدة التي تكشف حقيقة ما تسميه "الأزمة"، وما ينتظر شعوبها من نتائج. لذا، فحتى لو لم تقم الدولة الليبرالية بإجبار نسائها على الدعارة بقانون صريح، فما لم يحدث شيء ليغير مسيرة الأحداث، فأن الحاجة والجوع ستدفع النساء - بل والرجال أيضاً - إلى الدعارة. ربما ليس غداً، ولكن في اليوم العاشر!
ومع ذلك: كل عام وأنت بخير، سيدتي!
النمور في اليوم العاشر – زكريا تامر
http://www.eng-uni.com/en/showthread.php?t=26061
8 آذار 2013