قاسم وحق الشعوب في تقرير رموزها
أثار موضوع رفض مؤسسة الشهداء العراقية اعتبار الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم شهيداً ضجة كبيرة في المجتمع العراقي ما تزال اصداءها تتردد في وسائل الإعلام المختلفة بقوة، ولم يكن رد الفعل القوي هذا بلا مبرر. فما طرح على أنه خطأ وإشكال قانوني تراجعت عنه المؤسسة، لا يعدو سوى صولة من "الحرب على الرموز" التي تخاض في الخفاء في العراق، كما في كل مكان آخر من العالم. في هذه المقالة والتي تليها سنسلط الضوء على هذا الموضوع ومدى أهميته وتأثيره ودورنا فيه وما يجب عمله. نركز في هذه المقالة على عمومية الموضوع، ونتطرق في المقالة التالية إلى التفاصيل المحددة لظواهر لتلك الحرب، في العراق والعالم العربي والعالم.
****
"الرموز" ليست قضية يمكن التهاون بشأنها كما نفعل اليوم، وأثرها على المجتمع خطير، فهي التي توجه الرأي العام والأخلاق العامة وتحدد القيم وما يفتخر به وما يخجل منه. فلو أقنعنا الشعب العراقي مثلا ً بأن نوري السعيد رمز وطني، فأن ذلك سيعني أن الشعب سينظر إلى المرتمين في أحضان الإحتلال نظرة تقدير واحترام لأنه سيراهم يشبهون رمزه، وإن كان عبد الكريم هو الرمز، فسوف ينظر الشعب إلى الإستقلال كهدف، وإلى أبطاله بالإحترام، ولا يسعه إلا أن يولي الإحتقار للساسة الداعين إلى الإنبطاح أمام الدولة الكبرى، فلا يمكنك أن تحترم الشيء وعكسه في نفس الوقت.
لذلك، فأن نجاح جهة ما في أن تقرر الرموز التي يحتضنها شعب ما، يعني نجاحها في خلق "ميل" أو "إتجاه" لدى كل فرد من أفراد هذا الشعب نحو الموقف والأخلاقية العامة التي أتخذها هذا الرمز. "الميل" قد يختلف في قوته بين فرد وآخر، لكنه موجود بلا شك ومؤثر، ومهما كان ضعيفاً، فإن عموميته الهائلة تجعل منه قوة جبارة في التوجيه. فيكفي أن يرى أي مواطن في أميركا الجنوبية صورة سيمون بوليفار لكي يشعر بالرغبة في التحرر والشجاعة اللازمة له والإستعداد للتضحية من أجله. وتذكر صورة حسن نصر الله أو صوته، المواطن العربي، بأن الإنتصار على إسرائيل الجبارة المعتدية، أمر ممكن، وتفعل صورة جيفارا الفعل نفسه على مستوى الإنسانية، وأن أخلاقية مطاردة الظلم حيث يكون على الأرض، ليست فكرة طوباوية يستحيل تطبيقها.
فمن الأفضال الهامة للرموز الإيجابية، هي بث الأمل والروح النشطة المبادرة في الناس وإخراجهم من حالة الإحباط أو "الروح الثقيل" كما يسميه نيتشة، والتي قال أنها "تعمي أصحاب الكنوز طويلاً عن مثاويها"، فيسيطر عليهم اليأس والخمول ويخبوا دفاعهم عن أنفسهم ومصالحهم ويسهل قيادهم. تلك "الكنوز" التي يسعى "الروح الثقيل" لمنعنا من رؤيتها هي الفرص الماحة. الفرص للإستفادة من إمكانيات البلد وثرواته، فرص وجود شخص نزيه ومناسب في السلطة في البلد أو في البلدان المجاورة، من أجل بناء وطن قوي متماسك وجوار متعاون وحياة ثرية مستدامة، وتحقيق المثل العليا والسعادة للشعب. الرمز الإيجابي يكشف تلك الفرص، ويؤكد أنها موجودة وممكنة، والرمز السلبي يطمرها، وينشر اليأس من الوصول إليها. فقياد شعب يائس أسهل كثيراً من شعب يحدوه الأمل إلى مستقبل أفضل.
بسبب هذا الدور الخطير للرمز، تعتني الشعوب برموزها لتمثل ما تطمح إليه من مستقبل، ويحرص مثقفوها على أن يكون الرمز وطنياً، يؤشر باتجاه ما يراد تنميته في الشعب من أخلاق وقيم، مثل النزاهة والشجاعة والإحساس بالكرامة وضرورة الإستقلال عن التأثير الأجنبي. ولنفس الأسباب فأن الذين يريدون إخضاع تلك الشعوب، سوف يسعون إلى العكس، ويسخف عملائها من قيمة الرموز الإيجابية ويشككون بها ويسعون للسخرية من مبادئها "العتيقة" ويركزون الضوء على خساراتها وهزائمها وأخطاءها قدر الإمكان. وبالمقابل يسعون لتقديم رموز بديلة دافعة لقبول الإحتلال وتبعيته من خلال تلميع الشخوص التي تمثل هذا الإتجاه سواء في الحاضر أو الماضي، ويقومون بوصم الأخلاقية الإيجابية بالتخلف عن "مواكبة العالم"، وينظر لمن يدافع عن ضرورة الأخلاق في المجتمع والسياسة على أنه "ساذج"، والنظر بالمقابل باحترام إلى المحلل الذي يناقش إعلان حرب واحتلال بلد بحساب بارد للربح والخسارة، متجاهلا كل ما تعنيه الحرب من ويلات على الشعوب، وبامتداح "البراغماتية" التي تدعو كل فرد أن يبحث عن مصلحته وتفكيك الشعور بالمجتمع والوطن والشعب.
"الرمز" ليس سوى قلعة على قمة جبل، في الحرب الدائرة حول مستقبل بلد، واحتلال تلك القلعة ورفع العلم المناسب عليها، له قيمة حاسمة في نتيجة تلك الحرب.
فلو نجحت جهة ما مثلاً في أن تجعل من صدام حسين رمزاً في العراق، فإنه سينشر مازوكية احتقار الناس للشعب والديمقراطية (أي لأنفسهم)، والإعجاب بالقسوة واليد الحديدية الضاربة على الشعب (أي عليهم!)، وسادية العدوان على الآخرين. ولو أمكن أن يكون اياد علاوي أو نوري السعيد رمزاً للشعب، لانتشر حتماً قبول ضمني للعمالة لجهات الإستخبارات الأجنبية بل وربما التفاخر بها، اقتداءاً بأفعال نوري وأفعال وأقوال علاوي، ولصارت عبارة مثل "خيانة" تثير الضحك بدل الإشمئزاز. رموز الغالبية الساحقة من الساسة العراقيين اليوم تجعل من التكالب على المكاسب والإثراء غير الشرعي والكذب على الشعب وتيئيسه من حقوقه، وتمجيد صاحب السلطة واخلاقية التضرع إليه من أجل ما هو حق له، واعتباره "المانح" و "الواهب" و "العاهل"، أخلاقيات مقبولة، بل ومقدرة في المجتمع، ورفع أي من هؤلاء الساسة إلى مرتبة رمز، يعني رفع تلك الصفاة إلى مرتبة الأخلاقيات العامة في المجتمع.
ويقوم الإعلام الذي أسسته أميركا في العراق بدور مشبوه في حرف الشعب عن خياره لرموزه، باتجاه شخصيات تميزت بانبطاحها للأمريكان والإنكليز، مثل نوري السعيد، الذي وصف بالرجل الذي اعتمدت عليه بريطانيا لتمرير كل المواقف المسيئة للعراق، ومارس التنقل بين السفارتين البريطانية والأمريكية لتسويق نفسه. هذا "الرمز" السيء يحصل على الكثير من المديح في الإنترنت والإيميل، وحصل على مسلسل تلفزيوني دعائي رخيص يلوي عنق الحقائق كما نبه بعض المؤرخين والكتاب، ومن بينهم الأستاذ "سيار الجميل" الذي أشرف على مراجعة نص المسلسلة.
ونلاحظ في الإعلام أيضاً في العراق بعد الإحتلال، التركيز غير المتناسب على اليهود العراقيين من فنانين وعلماء وأدباء وأطباء، وكأن لم يكن في العراق غيرهم، ولا تنتج المسلسلات إلا عنهم، وعن المرتبطين بهم. ولا ارى ذلك إلا بهدف جعلهم رموزاً، وتمهيداً لقبول العراقي بالعلاقة مع إسرائيل وتطبيعها في ذهنه، وهو الهدف الذي سعى إليه قادة كردستان في البداية، ثم المشبوه مثال الآلوسي، وهناك آخرين بلا شك ينتظرون الفرصة المناسبة التي قد تمنحهم إياها هذه المحاولات "الثقافية". وليس هذا على الإطلاق اعتراضاً على اليهود عموماً، إنما يجب أن ننظر بعين الشك إلى التحيز الموقوت لهم، والذي ينتشر كالوباء في كل أنحاء العالم اليوم كما انتشر اضطهادهم فيه في الماضي، وماذا يعني دخول هذا الترميز للشخصيات اليهودية إلى العراق وغيره، بالنسبة لإسرائيل.
ويتم التآمر على الرموز أيضاً من خلال مؤسسات منح الجوائز الثقافية، سواءاً المحلية أو العالمية، مثل استخدام جائزة نوبل وغيرها بشكل كثيف وفضائحي أحياناً، (كما سنرى في المقالة القادمة) لفرض الشخصيات التي تناسب الجهة التي تسيطر على لجنة الجائزة، كرموز عالمية، خاصة في مجال السلام والأدب، دون أن تقتصر على ذلك. وما جائزة نوبل إلا من أشكال ظهور "حرب الرموز" على مستوى العالم والوطن العربي أيضاً.
هذه أحداث موثقة وليست خرافات لـ "نظرية المؤامرة". فقبل المؤامرة على رمز عبد الكريم شهد العراق مؤامرة إعلامية واضحة على ثورته، ثورة تموز، التي يشعر معظم العراقيين بعمق بأنها عيدهم الوطني، وسعى البعض لإحلال يوم الإحتلال محلها! فمن هي الجهة التي تريد أن تضع يوم الإحتلال في منصب الرمز، ولصالح من؟ ومن الذي يقود الهجوم على ثورة تموز ويمنع اعتبارها عيداً وطنياً رغم إرادة الناس؟ ولماذا تخضع الحكومة للضغط وتختار حلاً وسطاً ثالثاً في تحديد ذلك العيد، بدلاً من قبول مباشر لرأي الشعب الذي يفترض أنها تمثله؟ وهل أن الهجوم الأخير على وصف عبد الكريم قاسم كشهيد، هو إجراء روتيني خاطئ بسبب نقص نص قانوني، أم أن هذه حجة كاذبة، وليس لها أي أساس قانوني، وأن وراء الموضوع أسباب أخرى؟
أخيراً، وبعد إيضاح خطورة الرمز وما يلعبه من دور في مستقبل أي شعب، وبعد رصد مظاهر تلك الحرب من أجل تحديد الرموز بين الشعب وبين اعدائه، والعلاقة الوثيقة بين مصير الشعب ورموزه، فكيف يصون الشعب حقه في "تقرير رموزه" ويهتم به كما يهتم بـ "تقرير مصيره"، وما هو الرد المناسب لاستعادة المبادرة في معركة الشعب العراقي حول رمز قاسم وثورة تموز؟
سنترك ذلك للمقالة القادمة بعد غد.
28 أيلول 2013