قراءة في قانون حماية الصحفيين العراقيين.. إيجابياته وثغراته التي تقتضي إعادة النظر فيها
الصحافة.. قبل أن تكون مهنة، إنما هي رسالة مقدسة لا تقل أهمية عن الطب والمحاماة والتربية والتعليم وغيرها من المجالات الإنسانية التي ينبغي للعامل فيها أن يكون أهلا لحمل رسالتها وإيصالها بالشكل المطلوب كونها تتعلق هي الأخرى بحياة الناس وهمومهم ومصائرهم، مثلما ينبغي أن يكون محميا بالقانون ومدعوما بكل ما من شأنه أن ينسجم والألقاب التي تحظى بها رسالته كونها (مهنة المتاعب) و(السلطة الرابعة) و(صاحبة الجلالة)، وفي ظل حقيقة أن الصحفي يكاد يكون أكثر الناس تعرضا للمخاطر.. لا سيما في البلدان والمناطق المضطربة أو غير المستقرة سياسيا وأمنيا واجتماعيا، وهو وصف عاشه العراق الجديد في بعض محطات الحقبة الجديدة التي تلت التغيير الأخير والقضاء على الدكتاتورية وقمع الحريات، والانتقال إلى الديمقراطية والرأي الحر، هذه المحطات التي جاءت كتحصيل حاصل لترسبات حقبة أخرى سابقة وطويلة من المعاناة.من هنا كانت حماية الصحفيين أولوية من أولويات كل حكومة وكل دستور ونظام حكم يقدم نفسه على أنه قائم على الاستقرار والتعددية والديمقراطية والمؤسساتية والتداول السلمي للسلطة وحرية التعبير واحترام الرأي الآخر وحقوق الإنسان الأساسية.
وأكتفي بهذه المقدمة القصيرة لألج مباشرة إلى صلب ما أريد عرضه في هذا المقال والمتمثل بقانون حماية الصحفيين العراقيين والذي تم تقديمه إلى مجلس النواب العراقي بدورته المنتهية للمصادقة عليه، والذي نشرته جريدة الصباح العراقية شبة الرسمية في عددها (1854) الصادر في 30 كانون الأول 2009، وحيث لم تتم المصادقة عليه في الدورة السابقة للمجلس النيابي، ما يجعل الباب مفتوحا لمواصلة دراسته.
فالذي يطلع على مواد هذا القانون يشعر حقا أن فيه الكثير مما يحمي الصحفي ويدعمه في أداء رسالته بالشكل الأمثل، لكنه يشعر أيضا أنه كُتب بعجالة، ويتضمن بالتالي بعض الفقرات والمواد التي قد تكون بحاجة إلى تحديد أو تفصيل أكبر أو إعادة صياغة لتوضيح الغموض والنصوص المبهمة التي تتضمنها بعض مواده، وهو أمر مهم.. لا سيما أن مجلس النواب العراقي بدورته المنتهية لم يقر هذا القانون بعد كما أسلفنا.
فهذا القانون لا يشير إلى أية قوانين أو مواثيق دولية بشأن الصحافة.. ولا يستشهد بأية نصوص أو مواد منها، كميثاق شرف الفيدرالية الدولية للصحفيين الذي تبناه المجلس العالمي للفدرالية عام 1945 وتم تعديله عام 1956. وهو أيضا لا يحدد بدقة المعايير والضوابط التي يتم بموجبها تحديد من هو الصحفي، ولا المعايير والأسس التي تحدد العمل الصحفي والسلوك المهني، فضلا عن أن بعض المواد الواردة في هذا القانون والتي صيغت لحماية الصحفي العراقي ودعمه والدفاع عنه وتسهيل أداء مهمته، نجدها وقد تم ربطها بعبارات مثل (بما يسمح به القانون)، و(في حدود الاحترام الواجب للقانون)، و(ما لم يكن إفشاؤها يشكل ضررا بالمصلحة العامة)، و(إلا بعد إخبار النقابة)، وما إلى ذلك من النصوص المرنة والمطاطة القابلة للتأويل والاجتهاد والتفسير من قبل الطرف المقابل وحسب الحاجة والموقف.. في الوقت الذي يُفترض فيه أن يتم تحديد معانيها ومدلولاتها وآلياتها بشكل أكبر وبتشريعات قانونية واضحة.
وفي التفاصيل نطالع في الفقرة ثانيا من المادة الأولى من قانون حماية الصحفيين العراقيين المقترح، أن (المقصود بالصحفي لأغراض هذا القانون كل منتم إلى نقابة الصحفيين). ونلاحط هنا غياب التوصيف الدقيق للصحفي الذي يُفترض إما أن يكون خريج فرع الإعلام في الجامعات أو المعاهد أو في أية دراسة أخرى قريبة من الصحافة والإعلام، أو أن يكون رئيسا أو مديرا أو سكرتيرا للتحرير أو عاملا في مؤسسة إعلامية، أو على الأقل أن يكون قد دخل هذا الميدان بدافع الرغبة أو الهواية أو الموهبة المعززة بامتلاك مقومات الصحفي من إجادة اللغة والأسلوب الكتابي والممارسة والخبرة وغيرها.. وقد تفرغ لهذا العمل.
كما نلاحظ في هذه المادة عدم تحديد النقابة التي يُفترض بالصحفي الانتماء إليها، بل الاكتفاء بعبارة (نقابة الصحفيين)، فإذا كان المقصود بها على أنها نقابة الصحفيين العراقيين.. فهي ثغرة قانونية لعدم تحديدها بدقة لا سيما مع وجود نقابة أخرى في العراق، وبما يبرز سؤالا أول: وماذا عن مئات وربما آلاف الصحفيين ممن هم أعضاء مشاركين أو عاملين في نقابة صحفيي كردستان العراق، وهو إقليم ضمن دولة العراق الاتحادية له وضعه الخاص المثبت دستوريا.. وفيه مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية معترف بها محليا وإقليميا ودوليا.
أما السؤال الثاني فيتمثل بالكيفية التي سيوفق فيها واضع هذه المادة.. بينها وبين الفقرة الثانية من المادة التاسعة والثلاثين من الدستور العراقي التي تنص على أنه (لا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أي حزب أو جمعية أو جهة سياسية)؟. ثم ماذا عن مئات وآلاف الصحفيين العراقيين العاملين في العشرات والمئات من المؤسسات الإعلامية وغيرها من المؤسسات الدينية أو التربوية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الرياضية أو حتى الحزبية دون أن يكونوا بالضرورة قد قاموا بتنظيم استمارة الانتماء لنقابة الصحفيين العراقيين أو أية نقابة أخرى؟، وهل سيبقون دون حماية وغطاء قانوني يحمي عملهم وحياتهم وحقوقهم ويدعمهم في أداء مهمتهم؟.
وتنص المادة الرابعة من القانون على أن (للحصفي الحصول على المعلومات والأنباء والبيانات الإحصائيات من مصادرها بما يسمح به القانون). فيما تنص المادة السادسة على أن (للصحفي الاطلاع على التقارير والمعلومات والبيانات الرسمية وعلى الجهة المعنية تمكينه من الاطلاع عليها والاستفادة منها ما لم يكن إفشاؤها يشكل ضررا بالمصلحة العامة ويخالف أحكام القانون).
وفي هاتين المادتين ثغرتين أو مأخذين، الأول هو أن حق الحصول على المعلومات يرد في هاتين المادتين بشكل سطحي عام ووفق ضوابط قابلة للكثير من التأويل والتفسير الشخصي المزاجي.. بينما كان المفترض أن يرد هذا الحق ويحدد بشكل قانوني وتشريعي أكثر وضوحا وتفصيلا.
والمأخذ الثاني هو ربط حق الحصول على المعلومات من عدمه بالمصلحة العامة وعدم مخالفة القانون، وهو تعبير مرن ومطاط قابل هو الآخر للتأويل والاجتهاد والتفسير وفق ما ترتأيه الجهة الحائزة على هذه المعلومات والتي سيكون لها حق تقرير مدى ما يمكن أن تلحقه هذه المعلومات من ضرر بالمصلحة العامة مع منحها حق تحديد نوع هذه المصلحة.
أما المادة السابعة من القانون فتنص على أنه (لا يجوز التعرض إلى أدوات عمل الصحفي إلا بحدود القانون)، فيما تنص الفقرة ثانيا من المادة العاشرة على أنه (لا يجوز استجواب الصحفي أو التحقيق معه عن جريمة منسوبة إليه مرتبطة بممارسة عمله الصحفي إلا بعد إخبار النقابة بذلك)!.
والمعنى في ذلك جواز التعرض إلى أدوات عمل الصحفي في ظل القانون الذي يُفترض أن يكون قد تم تشريعه لتحديد التفاصيل. كما تعني هذه المادة إمكانية استجواب الصحفي أو التحقيق معه والذي قد يُفضي إلى السجن وذلك بمجرد إخبار النقابة بذلك. بينما نرى أن هذا المفهوم (اعتقال الصحفي وسجنه) بسبب عمله ضمن السياقات المهنية، أمر تم إلغاؤه في دساتير وقوانين أغلب دول العالم الديمقراطية، ثم هل أن أية مشاكسة صحفية رافضة لواقع معين أو أية إثارة لمشكلة قد تحرج السلطة أو بعض مؤسساتها، أو أي كشف عن تقصير لوزارة أو هيئة ما سيقع تحت طائلة القانون وبما يمنع الصحفي من أداء عمله ما قد يؤدي بالتالي إلى تدخل القوات الأمنية وما يمكن أن ينتج عن ذلك من ضرب وركل وتكسير كمرحلة أولى تمهيدية تليها مرحلة الاستجواب والتحقيق وربما السجن؟!. أللهم إلا إذا كان الصحفي قد ارتكب، ضمن عمله، جناية أو جريمة يعاقب عليها القانون وسيكون شأنه عندها شأن أي شخص آخر تحت سلطة القانون.
وبمعنى آخر، كان من المفترض أن يحدد هذا القانون بشكل دقيق التجاوزات والمخالفات التي تضع الصحفي تحت طائل المسائلة القضائية.
وتتضمن الفقرتين أولا وثانيا من المادة الثالثة عشرة للقانون ضوابط بمنح عيال الصحفيين الشهداء أو الذين يتعرضون للإصابات بدرجات معينة جراء العمل الصحفي رواتب تقاعدية، لكن كلتا الفقرتين لا تحددان الجهة المعنية بهذا الأمر، أي منح الراتب التقاعدي، وما إذا كان المعني هو الحكومة ممثلة بوزارة المالية، أو نقابة الصحفيين أو المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها الصحفي.
إن هكذا نصوص، ولا سيما تلك المتعلقة بـ (ما يسمح به القانون) و(دون إلحاق ضرر بالمصحلة العامة) و(الاستجواب والتحقيق).. كانت ستُصبح مناسبة لو تم تفصيلها في هذا القانون بقوانين وتشريعات موازية تشرح وتحدد الضوابط والآليات بشكل جلي لا لبس فيه.
وهذه ملاحظات بسيطة أوردتها هنا كصحفي عامل في مجال الإعلام.. لا كخبير قانوني في القوانين والدساتير.
وأود قبل أن أختم المقال، أن أدعم هذه الملاحظات بعرض بعض المفاهيم الواردة في دستور الاتحاد الدولي للصحفيين.
تنص الفقرة (أ) من الفصل الثاني منه على أن (الاتحاد الدولي للصحفيين تأسس في سياق دعم التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية، وهو مستقل عن أية أجسام آيديولوجية أو سياسية أو حكومية أو دينية، وهو يمثل جميع النقابات أعضاءه في مجال التعليم والبحث وجميع الأمور المهنية).
ومن أهدافه الورادة في الفصل الثالث من دستوره: (حماية وتقوية حقوق الصحفيين وحرياتهم، واحترام حرية الحصول على المعلومات والدفاع عنها، وكذلك حرية الإعلام واستقلالية الصحافة واتخاذ إجراءات للدفاع عن الصحفيين وعن عملهم وتحسين الظروف الاجتماعية وشروط العمل المهنية لجميع الصحفيين)، وغير ذلك من الأهداف التي لا تنطوي على عبارات مثل (من خلال القضاء، إعلام النقابة، الاعتقال وفق القانون، الصالح العام والمصلحة الوطنية العليا) وغيرها من النصوص التي تبقى قابلة للاجتهاد والتأويل وحسب رغبة الجهة المعنية أو الطرف المقابل.
إنها إذن دعوة عامة ومشتركة.. للصحفيين العراقيين بكل عناوينهم، ولنقابة الصحفيين العراقيين ولمجلس النواب العراقي بدورته الجديدة.. للاطلاع أولا على ميثاق شرف الفيدرالية للصحفيين، والقوانين الصحفية في البلدان الديمقراطية التي يسعى القائمون على العراق الجديد بلوغ مستواها، ومن ثم إعادة النظر بجدية في العديد من مواد قانون حماية الصحفيين العراقيين بما يجعله قانونا تم وضعه لا للحرية والحماية المقيدة بنصوص مبهمة، إنما بقوانين وتشريعات محددة ووواضحة، لتسهيل أداء عملهم بالطريقة الأمثل، ولا بأس في محاسبة المخطأ.. على أن ينسجم ذلك والكرامة الإنسانية.. وخصوصيات رسالة الصحافة والإعلام.
* عضو الاتحاد الدولي للصحافة.